الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المناسبة:
بعد بيان إهلاك بعض الأمم السابقة وهم قوم نوح وهود وصالح ولوط بسبب تكذيبهم الرسل، خاطب الله أهل مكة موبخا لهم بطريق الاستفهام الإنكاري، ليبين لهم أن ما أصاب غيرهم من العذاب والهوان سيصيبهم، لأن ما جرى على المثيل يجري على مثيله، إن استمروا على كفرهم، وأصروا على ضلالهم، وأنهم أيضا سيهزمون في الدنيا، وسيلقون في الآخرة عذابا أشد وأدهى.
ثم أبان الله تعالى نوع عذاب المجرمين أي المشركين في الآخرة، وأن كل شيء مخلوق لله سبحانه، وأن أمره تعالى سريع النفاذ بكلمة (كن) التكوينية، وختم السورة بذكر ثواب المتقين الأبرار.
التفسير والبيان:
{أَكُفّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ} أي أكفاركم يا مشركي قريش خير من الذين تقدم ذكرهم ممن أهلكوا بسبب تكذيبهم الرسل، وكفرهم بالكتب السماوية، أم معكم من الله براءة فيما أنزل من الكتب ألا ينالكم عذاب ولا نكال؟! والمعنى: ليس كفاركم يا أهل مكة، أو يا معشر العرب، خيرا من كفار من تقدمكم من الأمم الذين أهلكوا بسبب كفرهم، فلستم بأفضل منهم، حتى تكونوا بمأمن مما أصابهم من العذاب عند تكذيبهم لرسلهم، وليست لكم براءة من عذاب الله في شيء من كتب الأنبياء.
وهذا تهديد وتوبيخ لمن أصرّ على الكفر من مشركي العرب، فالمراد بعض العرب لا كلهم، فليس كفارهم خيرا ممن سبقهم، وهم قوم نوح وهود وصالح ولوط، بل هم مثلهم أو شر منهم.
{أَمْ يَقُولُونَ: نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ} أي بل هم يقولون: نحن جماعة أو جمع كثير والعدد، شديد والقوة، ولنا النصر على الفئة القليلة المستضعفة من أعدائنا، فهم يعتقدون ويثقون أنهم يتناصرون مع بعضهم بعضا، وأن جمعهم يغني عنهم من أرادهم بسوء. والاستفهام: إنكاري، وإفراد المنتصر مع أن {نَحْنُ} ضمير الجمع، لأن المراد بالجميع كالجنس، لفظه لفظ واحد، ومعناه جمع فيه الكثرة.
فرد الله تعالى عليهم بقوله: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} أي سيتفرق جمع أو شمل كفار مكة أو كفار العرب على العموم ويغلبون، ويولون الأدبار هاربين منهزمين. وكان هذا دليلا من دلائل النبوة، فقد هزمهم الله يوم بدر، وولوا الأدبار، وقتل رؤساء الكفر وأساطين الشرك.
{سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} أي سيتفرق جمع أو شمل كفار مكة أو كفار العرب على العموم ويغلبون، ويولون الأدبار هاربين منهزمين. وكان هذا دليلا من دلائل النبوة، فقد هزمهم الله يوم بدر، وولوا الأدبار، وقتل رؤساء الكفر وأساطين الشرك.
عن أبي جهل: أنه ضرب فرسه يوم بدر، فتقدم في الصف، فقال: نحن ننصر اليوم من محمد وأصحابه، فنزلت:{سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} أي الأدبار.
وأخرج البخاري والنسائي عن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: وهو في قبّة له يوم بدر: «أنشدك عهدك ووعدك، اللهم إن شئت لم تعبد بعد اليوم في الأرض أبدا» فأخذ أبو بكر رضي الله عنه بيده، وقال: حسبك يا رسول الله، ألححت على ربّك، فخرج وهو يثب في الدرع، وهو يقول:«سيهزم الجمع، ويولون الدبر، بل الساعة موعدهم، والساعة أدهى وأمرّ» .
وأخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة قال: لما نزلت: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} قال عمر: أي جمع يهزم؟ أي جمع يغلب؟ قال عمر: فلما كان يوم بدر رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يثب في الدرع، وهو يقول:{سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ، وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} فعرفت تأويلها يومئذ.
ثم بيّن الله تعالى أن الأمر غير مقتصر على انهزامهم وإدبارهم، بل الأمر أعظم منه، فإن الساعة موعدهم، وسيلقون في الآخرة عذابا أشد إن بقوا مصرين على الكفر، فقال:
{بَلِ السّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ، وَالسّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ} أي بل إن القيامة موعد عذابهم الأخروي، وليس هذا العذاب الكائن في الدنيا بالقتل والأسر والقهر هو تمام ما وعدوا به من العذاب، وإنما هو مقدمة من مقدماته، وعذاب القيامة أعظم وأنكى، وأشد مرارة من عذاب الدنيا، كما أنه عذاب دائم خالد.
قال الرازي: هذا قول أكثر المفسرين، والظاهر أن الإنذار بالساعة لكل من تقدم، كأنه قال: أهلكنا الذين كفروا من قبلك، وأصرّوا، وقوم محمد صلى الله عليه وسلم ليسوا بخير منهم، فيصيبهم ما أصابهم إن أصروا، ثم إن عذاب الدنيا ليس لإتمام المجازاة، فإتمام المجازاة بالأليم الدائم
(1)
.
ثم أخبر الله تعالى عن نوع العذاب الأخروي، فقال:
{إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ} أي إن المشركين بالله الذين كذبوا رسله وكل كافر ومبتدع كافر ببدعته من سائر الفرق في حيرة وتخبط في الدنيا وبعد عن الحق والصراط المستقيم، وفي نيران مستعرة في جهنم يوم القيامة.
(1)
تفسير الرازي: 68/ 29
وجاء إطلاق المجرمين على (المشركين) في قوله تعالى: {يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ} [الرحمن 41/ 55].
وأكثر المفسرين اتفقوا على أن هذه الآية نازلة في القدرية، روى الواحدي في تفسيره بإسناده عن أبي هريرة قال: جاء مشركو قريش يخاصمون رسول الله صلى الله عليه وسلم في القدر، فأنزل الله تعالى هذه الآية إلى قوله:{خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ}
(1)
.
وعن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مجوس هذه الأمة: القدرية»
(2)
وهم المجرمون الذين سماهم الله في قوله: {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ} عن الحق في الدنيا {وَسُعُرٍ} وهو نيران في الآخرة.
وبيّن الإمام الرازي رحمه الله معنى القدرية الذين قال النبي صلى الله عليه وسلم نزلت الآية فيهم، فذكر أن كل فريق في خلق الأعمال يذهب إلى أن القدري خصمه، فالجبري يقول: القدري من يقول: الطاعة والمعصية ليستا بخلق الله وقضائه وقدره، فهم قدرية، لأنهم ينكرون القدر. والمعتزلي يقول: القدري: هو الجبري الذي يقول حين يزني ويسرق: الله قدرني، فهو قدري لإثباته القدر، وهما جميعا يقولان لأهل السنة الذين يعترفون بخلق الله، وليس من العبد: إنه قدري.
والحق أن القدري الذي نزلت فيه الآية: هو الذي ينكر القدر، وينكر قدرة الله تعالى، ويقول بأن الحوادث كلها حادثة بالكواكب واتصالاتها، ويدل عليه قوله: جاء مشركو قريش يحاجون رسول الله صلى الله عليه وسلم في القدر، فإن مذهبهم ذلك. وأما المراد من
قوله صلى الله عليه وسلم: «مجوس هذه الأمة هم القدرية» فهم القدرية
(1)
رواه مسلم والترمذي وابن ماجه.
(2)
رواه ابن ماجه عن جابر بلفظ «إن مجوس هذه الأمة المكذبون بأقدار الله تعالى..» وهو ضعيف.
في زمانه، وهم المشركون الذين أنكروا قدرة الله على الحوادث، فلا يدخل فيهم المعتزلة، ونسبتهم إلى هذه الأمة كنسبة المجوس إلى الأمة المتقدمة
(1)
.
{يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ، ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ} أي إن المجرمين الكفار يعذبون في النار، ويجرّون فيها على وجوههم للإهانة والإذلال، ويقال لهم تقريعا وتوبيخا: ذوقوا وقاسوا حرّ النار وآلامها وشدة عذابها.
ثم أبان الله تعالى أن كل ما يحدث في الكون، ومنه أفعال العباد كلهم، هو مخلوق لله، فقال:
{إِنّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ} أي إن كل شيء من الأشياء، وكل فعل من الأفعال في هذا الكون أو هذه الحياة خيرا كان أو شرا، مخلوق لله تعالى، مقدر محكم مرتّب على حسب ما اقتضته الحكمة، وعلى وفق ما هو مقدر مكتوب في اللوح، معلوم لله ثابت في سابق علم الله الأزلي، قبل وجوده أو كونه، يعلم حاله وزمانه. والقدر: التقدير.
ونظير الآية قوله تعالى: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ، فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً} [الفرقان 2/ 25] وقوله سبحانه: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى، الَّذِي خَلَقَ فَسَوّى، وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى} [الأعلى 1/ 87 - 3] أي قدر قدرا، وهدى الخلائق إليه.
وقد استدل أهل السنة بهذه الآية الكريمة على إثبات قدر الله السابق لخلقه:
وهو علمه الأشياء قبل كونها، وكتابته (أي تسجيله) لها قبل حدوثها.
أخرج الإمام أحمد ومسلم عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كل شيء بقدر، حتى العجز والكسل» .
وفي الحديث الصحيح الذي أخرجه أحمد ومسلم أيضا عن أبي هريرة: «استعن بالله، ولا تعجز، فإن أصابك أمر فقل:
(1)
تفسير الرازي: 69/ 29 - 70
قدّر الله، وما شاء فعل، ولا تقل: لو أني فعلت كذا لكان كذا، فإن: لو تفتح عمل الشيطان».
وأخرج أحمد والترمذي والحاكم عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له:
ومن المعلوم أن الكتابة لا تغني الجبر والفرض على العباد، والعلم السابق بالأشياء لا يدل على الإلزام، وإنما يدل على أن جميع ما في الكون معلوم سابقا لله تعالى.
ثم أوضح الله تعالى نفاذ مشيئته في خلقه، ونفاذ قدره فيهم، فقال:
{وَما أَمْرُنا إِلاّ واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ} أي إن أمرنا بإيجاد الأشياء إنما يكون مرة واحدة، لا حاجة فيه إلى تأكيد ثان، فيكون الذي نأمر به بكلمة واحدة حاصلا موجودا كلمح البصر في سرعته، لا يتأخر طرفة عين. ولمح البصر: إغماض البصر، ثم فتحه. وهذا تمثيل وتقريب لسرعة نفاذ المشيئة في إيجاد الأشياء، فهو كلمح البصر أو أقرب، كما قال تعالى:{إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ: كُنْ فَيَكُونُ} [يس 82/ 36].
ثم أعاد تعالى التنبيه للحق والاتعاظ بهلاك السابقين، فقال:
{وَلَقَدْ أَهْلَكْنا أَشْياعَكُمْ، فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ؟} أي وتالله لقد أهلكنا أمثالكم وأشباهكم في الكفر يا معشر قريش، من الأمم السابقة المكذبين بالرسل، فهل
من متعظ بما أخزى الله أولئك، وقدر لهم من العذاب، وهل من يتذكر ويتعظ بالمواعظ، ويعلم أن ذلك حق، فيخاف العقوبة التي حلت بالأمم السابقة؟ وهذا كما قال تعالى:{وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ مِنْ قَبْلُ} [سبأ 54/ 34].
وأتبع ذلك الإخبار عن إحصاء جميع أعمالهم ورقابة الله عليهم، فقال:
{وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ، وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ} أي إن جميع ما فعلته وتفعله الأمم والشعوب والأفراد من خير أو شر مكتوب في اللوح المحفوظ، وفي كتب (أو سجلات) الملائكة الحفظة، وما من شيء من أعمال الخلق وأقوالهم وأفعالهم إلا وهو مسطور في اللوح المحفوظ، وفي دواوين الملائكة وصحائفهم، صغيرة وكبيرة، وجليلة وحقيرة، كما قال تعالى:{ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق 18/ 50].
أخرج الإمام أحمد والنسائي وابن ماجه عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: «يا عائشة، إياك ومحقّرات الذنوب، فإن لها من الله طالبا» .
ثم ذكر الله تعالى نوع جزاء المؤمنين المتقين لمقارنته بجزاء الكافرين، ومقابلة الثواب بالعقاب وبالعكس، فقال:
{إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنّاتٍ وَنَهَرٍ، فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} أي إن المتقين، بعكس ما يكون الأشقياء فيه من النار والسحب على الوجوه فيها، مع التوبيخ والتقريع والتهديد، هم في بساتين غنّاء مختلفة، وجنان متنوعة، وأنهار متدفقة بمختلف أنواع الأشربة من ماء وعسل ولبن وخمر غير مسكرة، وفي الجنة دار كرامة الله ورضوانه وفضله وامتنانه، وفي مجلس حق لا لغو فيه ولا تأثيم، وفي منزلة وكرامة عند ربهم القادر على ما يشاء، والذي لا يعجزه شيء، فهو