الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سبب النزول:
نزول الآية (46):
{وَلِمَنْ خافَ.} .: أخرج ابن أبي حاتم عن ابن شوذب قال: نزلت هذه الآية في أبي بكر الصديق، وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ ابن حيان في كتاب العظمة عن عطاء: أن أبا بكر الصديق ذكر ذات يوم القيامة والموازين والجنة والنار، فقال: وددت أني كنت خضراء من هذه الخضر، تأتي علي بهيمة تأكلني، وأني لم أخلق، فنزلت:{وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ} .
المناسبة:
بعد أن بيّن الله تعالى ما يلقاه المجرمون: المشركون وأمثالهم من الكفار والفجار العصاة من ألوان العذاب الأخروي، ذكر هنا ما أعدّه الله عز وجل للمؤمنين المتقين الذين يخافون ربهم في السر والعلن من أنواع النعيم الروحي والمادي في الجنة، من قصور، ورياض غنّاء، وبساتين خضراء، وأنهار جارية، وفواكه متنوعة، وفرش حريرية، ونساء حسان كالياقوت صفاء، واللؤلؤ أو الدر بياضا، بسبب ما قدموا من صالح الأعمال. والخلاصة: أنه لما ذكر أحوال أهل النار، ذكر ما أعدّ للأبرار.
التفسير والبيان:
{وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ} أي ولمن خشي الله وراقبه، فهاب الموقف الذي يقف فيه العباد بين يدي الله للحساب، وحسب الحساب لإشراف الله تعالى على أحواله، واطلاعه على أفعاله وأقواله جنتان:
روحية وجسمانية، أما الروحية فهي رضا الله تعالى:{وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ} [التوبة 72/ 9] وأما الجسمانية فهي متع مادية كمتاع الدنيا وأسمى، بسبب أعماله
الصالحة. فبأي نعم الله تكذبان أيها الثقلان، فإن نعيم الجنان لا مثيل له، فضلا عن الخلود والدوام فيه، ولا مانع أن يعطي الله جنتين وجنانا عديدة.
والصحيح-كما قال ابن عباس وغيره-أن هذه الآية عامة في الإنس والجن، فهي من أدل دليل على أن الجن يدخلون الجنة إذا آمنوا واتقوا.
أخرج البخاري ومسلم وأصحاب السنن إلا أبا داود عن أبي موسى الأشعري قال: «جنان الفردوس أربع جنات: جنتان من ذهب حليتهما وآنيتهما وما فيهما، وجنتان من فضة حليتهما وآنيتهما وما فيهما، وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبرياء، على وجهه، في جنة عدن» .
وأخرج ابن جرير والنسائي عن أبي الدرداء: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ يوما هذه الآية: {وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ} فقلت: وإن زنى وإن سرق؟ فقال: {وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ} فقلت: وإن زنى وإن سرق؟ فقال:
{وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ} فقلت: وإن زنى وإن سرق يا رسول الله؟ فقال: «وإن رغم أنف أبي الدرداء» .
ثم وصف هاتين الجنتين، فقال:{ذَواتا أَفْنانٍ، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ} أي ذواتا أغصان نضرة حسنة، تحمل من كل ثمرة نضيجة فائقة، أو ذواتا أنواع من الأشجار والثمار، فبأي نعم الله تكذبان يا معشر الجن والإنس، فإن هذا الجمال وهذه النعمة لمما يحرص عليها العقلاء.
{فِيهِما عَيْنانِ تَجْرِيانِ، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ} أي في كل واحدة من الجنتين عين جارية، فهما عينان تسرحان لسقي تلك الأشجار والأغصان، فتثمر من جميع الألوان. قال الحسن البصري: إحداهما يقال لها: تسنيم، والأخرى السلسبيل. فبأي نعم الله يحدث التكذيب؟ فتلك حقيقة قطعية، ونعمة عظيمة.
{فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ} أي في الجنتين من كل نوع يتفكه به ومن جميع أنواع الثمار صنفان ونوعان، يستلذ بكل نوع منهما، أحدهما رطب والآخر يابس، لا يتميز أحدهما عن الآخر في الفضل والطيب خلافا لثمار الدنيا، بل فيهما مما يعلم وخير مما يعلم، مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. فبأي شيء من هذه النعم تكذبان يا إنس ويا جن؟ قال ابن عباس: ليس في الدنيا مما في الآخرة إلا الأسماء، يعني أن بين ذلك بونا عظيما، وفرقا واضحا.
وبعد ذكر الطعام ذكر الفراش، فقال:
{مُتَّكِئِينَ عَلى فُرُشٍ بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ، وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دانٍ، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ} أي إن أهل الجنة يضطجعون ويجلسون ويتنعمون على فرش بطائنها (وهي التي تحت الظهائر) من إستبرق (وهو ما غلظ من الديباج، أو الديباج الثخين) قال ابن مسعود وأبو هريرة: هذه البطائن، فكيف لو رأيتم الظواهر؟ وقيل لسعيد بن جبير: البطائن من إستبرق، فما الظواهر؟ قال:
هذا مما قال الله: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [السجدة 17/ 32].
وقال ابن عباس: إنما وصف لكم بطائنها لتهتدي إليه قلوبكم، فأما الظواهر فلا يعلمها إلا الله.
وثمر الجنتين قريب التناول منهم متى شاؤوا وعلى أي صفة كانوا، كما قال تعالى:{قُطُوفُها دانِيَةٌ} [الحاقة 23/ 69] وقال سبحانه: {وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلاً} [الإنسان 14/ 76] أي لا تمتنع ممن تناولها، بل تميل إليه من أغصانها. فبأي شيء من هذه النعم يحصل التكذيب والإنكار؟! ثم ذكر تعالى أوصاف الحور والنساء، فقال:
{فِيهِنَّ قاصِراتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما
تُكَذِّبانِ} أي هناك نساء في الجنتين المذكورتين وما فيهما من أنهار وعيون وفرش وغيرها، أو في هذه الآلاء (النعم) المعدودة من الجنتين والعينين والفاكهة والفرش والجنى (الثمر) أو في الجنان، لأن ذكر الجنتين يدل عليه، ولأنهما يشتملان على أماكن ومجالس ومتنزهات، وهن نساء قصرن أبصارهن على أزواجهن، لا ينظرن إلى غيرهم لم يمسسهن ولم يفتضهن ولم يجامعهن قبلهم أحد من الإنس والجن، لأنهن خلقن في الجنة، فبأي النعم تكذبان أيها الثقلان؟! والطمث: الافتضاض. ثم نعت (وصف) النساء بقوله:
{كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ} أي كأن تلك النسوة الياقوت صفاء، وصغار اللؤلؤ بياضا، فبأي نعمة تكذبان؟ والياقوت: هو الحجر الصافي الكريم المعروف، والمرجان: حجر يؤخذ من البحر، وهو الأحمر المعروف. قال مجاهد والحسن وابن زيد وغيرهم: في صفاء الياقوت وبياض المرجان. فجعلوا المرجان هنا اللؤلؤ.
أخرج الشيخان في الصحيحين عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن أول زمرة تدخل الجنة على صورة القمر ليلة البدر والتي تليها على ضوء كوكب درّي في السماء، لكل امرئ منهم زوجتان اثنتان، يرى مخ ساقهما من وراء اللحم، وما في الجنة أغرب» .
ثم بيّن الله تعالى سبب هذا الثواب فقال:
{هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلاَّ الْإِحْسانُ، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ} أي ما جزاء من أحسن العمل في الدنيا إلا الإحسان إليه في الآخرة، فهاتان الجنتان لأهل الإيمان وصالح الأعمال، كما قال تعالى:{لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ} [يونس 26/ 10].