الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والدخول في الإسلام، بالرغم من سماع ما أنزل، وظن أن غيره يتحمل عنه أوزاره، مع أن جميع الشرائع كشريعة إبراهيم وموسى تقرر مبدأ المسؤولية الشخصية أو الفردية، وأن لا تتحمل نفس آثمة وزر أو ذنب نفس أخرى، وأن ليس لكل إنسان إلا سعيه بالخير.
التفسير والبيان:
ذمّ الله تعالى ووبخ كل من تولى عن طاعة الله، فقال:
{أَفَرَأَيْتَ 1 الَّذِي تَوَلّى، وَأَعْطى قَلِيلاً وَأَكْدى، أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرى} أي أعلمت وأخبرت شأن الذي تولى عن الخير، وأعرض عن اتباع الحق، وأعطى قليلا من المال، ثم أحجم عن العطاء في سبيل أن يتحمل عنه غيره وزره، أو كما قال ابن عباس: أطاع قليلا ثم قطعه، أفعند هذا الكافر الذي آثر الكفر على الإيمان علم ما غاب عنه من أمر العذاب، فهو يعلم أن صاحبه يتحمل عنه أوزاره يوم القيامة؟ ليس الأمر كما يظن.
وهذا كقوله تعالى: {فَلا صَدَّقَ وَلا صَلّى، وَلكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلّى} [القيامة 31/ 75 - 32] ثم ذكّره تعالى بما أجمعت عليه الشرائع من أن المسؤولية شخصية، فقال:{أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِما فِي صُحُفِ مُوسى، وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفّى} أي.
بل أنّه لم يخبر بما جاء في أسفار التوراة، وصحف إبراهيم الذي تمم وأكمل ما أمر به، وأدى الرسالة على الوجه الأكمل، كما جاء في آية أخرى:{وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ، قالَ: إِنِّي جاعِلُكَ لِلنّاسِ إِماماً} [البقرة 124/ 2] فإنه قام بجميع الأوامر، وترك جميع النواهي، وبلّغ الرسالة على التمام والكمال، فاستحق بهذا أن يكون للناس إماما يقتدى به في جميع أحواله وأقواله وأفعاله.
(1)
أَفَرَأَيْتَ: معناها المراد: أخبرني، ومفعولها الأول: الَّذِي، والثاني: جملة الاستفهام.
واكتفى بذكر صحف إبراهيم وموسى، لأن المشركين يدّعون أنهم على ملة إبراهيم، وأهل الكتاب يتمسكون بالتوراة، وإنما قدم هنا صحف موسى خلافا للترتيب الزمني، ولما جاء في سورة الأعلى:{إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى، صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى} [18 - 19]، لأن صحف إبراهيم كانت بعيدة، وكانت المواعظ فيها غير مشهورة فيما بينهم كصحف موسى التي هي أقرب وأشهر وأكثر.
ثم أوضح الله تعالى ما تقرر في صحف موسى وإبراهيم، فقال:
1 -
{أَلاّ تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى} أي لا تؤخذ نفس بذنب غيرها، فكل نفس ارتكبت جرما من كفر أو أي ذنب، فعليها وحدها وزرها، لا يحمله عنها أحد، وهذا مبدأ المسؤولية الفردية أو الشخصية أو لا يؤاخذ امرؤ بذنب غيره، كما جاء في آيات أخرى منها:{وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ، وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى} [فاطر 18/ 35].
2 -
{وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلاّ ما سَعى} أي ليس له إلا أجر سعيه وجزاء عمله، فلا يستحق أجرا عن عمل لم يعمله، وهذا المبدأ وهو ألا يثاب أو يكافأ امرؤ إلا بعمله يقابل المبدأ السابق، فكما لا يتحمل أحد مسئولية أو وزر غيره، كذلك ليس له من الأجر إلا ما كسب هو لنفسه. والمراد من الآية بيان ثواب الأعمال الصالحة وكل عمل، فالخير مثاب عليه، والشر معاقب به. وعبر بصيغة الماضي في قوله:{إِلاّ ما سَعى} لزيادة الحث على العمل الصالح.
ومن هذه الآية الكريمة استنبط الشافعي رحمه الله أن القراءة لا يصل إهداء ثوابها إلى الموتى، لأنه ليس من عملهم ولا كسبهم. والمعتمد في المذاهب الأربعة أن ثواب القراءة يصل إلى الأموات، لأنه هبة ودعاء بالقرآن الذي تتنزل الرحمات عند تلاوته، وقد ثبت في السنة النبوية وصول الدعاء والصدقة للميت، وذلك مجمع عليه،
روى مسلم في صحيحة والبخاري في الأدب وأصحاب السنن إلا ابن
ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له» . قال القرطبي: وكثير من الأحاديث يدل على هذا القول، وأن المؤمن يصل إليه ثواب العمل الصالح من غيره
(1)
.
3 -
{وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى} أي إن عمله محفوظ يجده في ميزانه لا يضيع منه شيء، وسيعرض عليه وعلى أهل المحشر يوم القيامة إشادة به ولو ما للمقصرين، كما قال تعالى:{وَقُلِ: اِعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ، وَسَتُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ، فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [التوبة 105/ 9] أي فيخبركم به ويجزيكم عليه أتم الجزاء، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر.
4 -
{ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى} أي يجزى الإنسان سعيه، ويجازى عليه جزاء كاملا غير منقوص، فيجازى بالسيئة مثلها، وبالحسنة عشر أمثالها إلى سبع مائة ضعف.
5 -
{وَأَنَّ 2 إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى} أي أن المرجع والمصير يوم القيامة إلى الله سبحانه، لا إلى غيره، فيجازي الخلائق بأعمالهم على الصغير والكبير، وهذا ترهيب وتهديد للمسيء، وترغيب وحث للمحسن، يستدعي التأمل في عودة العباد إلى الله يوم المعاد، وتعرضهم للجزاء على أعمالهم، كما جاء في آيات أخرى مثل:{فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ، وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [يس 83/ 36]. و
روى ابن أبي حاتم عن عمرو بن ميمون الأودي قال: قام فينا معاذ بن جبل فقال: يا بني أود، إني رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم إليكم، تعلمون أن المعاد إلى الله، إلى الجنة أو إلى النار.
(1)
تفسير القرطبي: 114/ 17
(2)
أَنْ هذه: تحتمل الفتح والكسر.
6 -
{وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى} أي أضحك من شاء في الدنيا بأن سرّه، وأبكى من شاء بأن غمّه، وخلق في عباده الضحك والبكاء والفرح والحزن وسببهما، وهما مختلفان، والمراد أن الله خلق ما يسر من الأعمال الصالحة، وما يسوء ويحزن من الأعمال السيئة. وهذا دليل القدرة الإلهية. وإنما خص بالذكر هذان الوصفان، لأنهما أمران لا يعللان، فلا يقدر أحد تعليل خاصية الضحك والبكاء في الإنسان دون الحيوان.
7 -
{وَأَنَّهُ هُوَ أَماتَ وَأَحْيا} أي وأنه تعالى خلق الموت والحياة، كما في قوله تعالى:{الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [الملك 2/ 67] فهو سبحانه قادر على الإماتة وعلى الإحياء والإعادة.
8 -
{وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ: الذَّكَرَ وَالْأُنْثى، مِنْ نُطْفَةٍ إِذا تُمْنى} أي والله هو الذي خلق الصنفين: الذكر والأنثى من كل إنسان أو حيوان، من مني أو ماء قليل يصب في الرحم، ويتدفق فيه، ثم ينفخ الله الروح في النطفة، فتصير بنية إنسانية، أو حيوانية، وهذا من جملة المتضادات التي ترد على النطفة، فبعضها يخلق ذكرا، وبعضها يخلق أنثى.
9 -
{وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرى} أي إعادة الأرواح إلى الأجساد عند البعث، فكما خلق الله الإنسان من البداءة، هو قادر على الإعادة، وهي النشأة الآخرة يوم القيامة. فهذا إشارة إلى الحشر.
10 -
{وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنى وَأَقْنى} أي وأنه وحده الذي أغنى من يشاء من عباده، وأفقر من يشاء منهم، حسبما يرى من الحكمة والمصلحة للخلائق، فالإغناء والإفقار أو الإعطاء من المال والمنع منه، كلاهما بيد الله تعالى وفي سلطانه وتصرفه.
11 -
{وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى} أي وأنه تعالى رب هذا النجم الوقاد المضيء
الذي يطلع خلف الجوزاء في شدة الحر، ويقال له: مرزم الجوزاء أو العبور، كانت خزاعة وحمير تعبده. وفي النجوم شعريان: إحداهما يمانية والأخرى شامية، والظاهر-كما قال الرازي-أن المراد اليمانية، لأنهم كانوا يعبدونها، لذا خصت بالذكر. وأول من سن عبادتها أبو كبشة من أشراف العرب، وكانت قريش تطلق على الرسول صلى الله عليه وسلم «ابن أبي كبشة» تشبيها له به، لمخالفته دينهم، كما خالفهم أبو كبشة، وكان من أجداد النبي صلى الله عليه وسلم من جهة أمه. قال أبو سفيان يوم فتح مكة حين شاهد عساكر المسلمين تمرّ عليه: لقد أمر أمر ابن أبي كبشة، وقال مشركو قريش: ما لقينا من ابن أبي كبشة!! 12 - {وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى} أي وأنه تعالى أفنى قوم هود عليه السلام، وهم عاد القدماء، وهي أول أمة أهلكت بعد نوح، ويقال لهم: عاد بن إرم بن سام بن نوح، كما قال تعالى:{أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ، إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ، الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ} [الفجر 6/ 89 - 8] وكانوا من أشد الناس وأقواهم وأعتاهم على رسول الله ورسوله، فأهلكهم الله {بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ، سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ، وَثَمانِيَةَ أَيّامٍ حُسُوماً} [الحاقة 6/ 69 - 7]. قال المبرد: وعاد الأخرى:
هي ثمود قوم صالح.
13 -
{وَثَمُودَ فَما أَبْقى} أي وأهلك ثمودا كما أهلك عادا، ودمرهم وأخذهم بذنوبهم فما أبقى أحدا من الفريقين، كما قال تعالى:{فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ} [الحاقة 8/ 69].
14 -
{وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ، إِنَّهُمْ كانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغى} أي وأهلكنا قوم نوح من قبل هؤلاء الفريقين: عاد وثمود، إنهم كانوا أظلم من عاد وثمود، وأطغى منهم، وأشد تمردا وتجاوزا للحد من الذين أتوا من بعدهم، لأنهم بدؤوا بالظلم، والبادئ أظلم:
«ومن سنّ سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها»
(1)
وأما
(1)
حديث صحيح رواه مسلم عن أبي عمر وجرير بن عبد الله.