الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وأخرج ابن جرير عن قتادة قال: ذكر لنا أنه لما نزلت: {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ} الآية، اشتد على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورأوا أن الوحي قد انقطع، وأن العذاب قد حضر، فأنزل الله تعالى:{وَذَكِّرْ، فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} .
المناسبة:
بعد بيان الأدلة على الحشر، وعلى إثبات الوحدانية وعظيم القدرة الإلهية، وتذكير المشركين بإهلاك الأمم المكذبة السالفة، بيّن الله تعالى أن كل رسول كذّب، وكأن التكذيب بين الأمم شيء متواصى به من الجميع، والواقع أنهم قوم طغاة تجاوزوا حدود الله، لذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالإعراض عنهم، علما بأنهم خلقوا لعبادة الله، لا لتحصيل المعايش والأرزاق، ثم ختمت السورة بتهديد مشركي مكة بعذاب مماثل العذاب من قبلهم من الأمم، والعذاب واقع بهم، لا شك فيه، ولا مردّ له.
التفسير والبيان:
{كَذلِكَ ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاّ قالُوا: ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ} أي كما كذبك قومك من العرب، ووصفوك بالسحر أو الجنون، فعلت الأمم المتقدمة التي كذبت رسلها، فهذا شأن الأمم في القديم، ولست أنت وحدك الذي كذّب.
وهذا تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم عن إعراض قومه، وحمله على الصبر وتحمل الأذى.
{أَتَواصَوْا بِهِ، بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ} هذا استفهام على سبيل التعجب والإنكار بمعنى النفي، فهو تعجيب من حالهم يراد به: كأنما أوصى أولهم آخرهم بالتكذيب، وتواطؤوا عليه، أي هل أوصى بعضهم بعضا بهذه المقالة؟ والواقع أنهم لم يتواصوا بذلك لتباعد زمانهم، لكن هم قوم طغاة، جمعهم الطغيان: وهو مجاوزة الحد في الكفر، فقال متأخروهم كما قال متقدموهم.
{فَتَوَلَّ عَنْهُمْ، فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ} أي أعرض عنهم أيها الرسول، وكفّ عن
جدالهم، فقد فعلت ما أمرك الله به، وبلّغت رسالته، وما أنت بملوم عند الله بعد هذا، لأنك قد أدّيت ما عليك، وما على الرسول إلا البلاغ، وعلى الله الحساب.
{وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} أي ولكن تابع التذكير، وعظ بالقرآن من آمن به من قومك، فإن التذكير ينفعهم، أو إنما تنتفع بالذكرى القلوب المؤمنة المستعدة للهداية. والمراد أن الإعراض عن طائفة معلومة لعدم قابليتهم الهدى، لا يوجب ترك البعض الآخر.
ثم بيّن الله تعالى الغاية من خلق الثقلين: وهي العبادة، مع أن المشركين كذبوا الرسول، وتركوا عبادة الخالق، فقال:
{وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلاّ لِيَعْبُدُونِ} أي ما خلقت الثقلين: الإنس والجن إلا للعبادة، ولمعرفتي، لا لاحتياجي إليهم كما قال تعالى:{وَما أُمِرُوا إِلاّ لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً، لا إِلهَ إِلاّ هُوَ، سُبْحانَهُ عَمّا يُشْرِكُونَ} [التوبة 31/ 9] وكما
ورد: «كنت كنزا مخفيا فأردت أن أعرف، فخلقت الخلق، فبي عرفوني»
(1)
.
والعبادة في اللغة: الذل والخضوع والانقياد. وقال أهل السنة: إن العبادة المعرفة والإخلاص له في ذلك، فإن المعرفة أيضا غاية صحيحة.
وقال مجاهد: المعنى إلا لآمرهم بعبادتي وأنهاهم. وهذا كلام جديد مستأنف لتقرير وتأكيد الأمر بالتذكر، فإن خلقهم للعبادة يستدعي دوام التذكير بها.
وحكمة تقديم الجن على الإنس أن عبادتهم سرية لا يدخلها الرياء كعبادة الإنس.
ثم ذكر الله تعالى سمو الغاية من الخلق، فقال:
{ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ، وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ، إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} أي لا أريد من خلقهم جلب نفع لي، ولا دفع ضرر عني، كما
(1)
قال ابن تيمية: إنه ليس من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يعرف له سند صحيح ولا ضعيف.
تريده السادة عادة من عبيدهم، فإن الله هو الغني المعطي، الرزاق المعطي، الذي يرزق مخلوقاته، ويقوم بما يصلحهم، وهو ذو القدرة والقوة، والشديد القوة، فلم يخلقهم لنفع ينفعونه به، فعليهم أن يؤدوا ما خلقوا له من العبادة.
وما في قوله: {ما أُرِيدُ.} . للنفي في الحال، ولا: للنفي في الاستقبال، ونفي الحال وهو الدنيا أولى من نفي الاستقبال وهو في أمر الآخرة.
والخلاصة: أنه تعالى خلق العباد ليعبدوه وحده لا شريك له، فمن أطاعه جازاه أتم الجزاء، ومن عصاه عذّبه أشد العذاب، وهو غير محتاج إليهم، بل هم الفقراء إليه في جميع أحوالهم.
روى الإمام أحمد والترمذي وابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال الله تعالى: «يا ابن آدم، تفرّغ لعبادتي أملأ صدرك غنى، وأسد فقرك، وإلا تفعل، ملأت صدرك شغلا، ولم أسد فقرك» .
وورد في بعض الكتب الإلهية: يقول الله تعالى: «ابن آدم خلقتك لعبادتي فلا تلعب، وتكفلت برزقك فلا تتعب، فاطلبني تجدني، فإن وجدتني وجدت كل شيء، وإن فتك فاتك كل شيء، وأنا أحب إليك من كل شيء» .
ثم هدد الله تعالى مشركي مكة وأمثالهم بقوله:
{فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوباً مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحابِهِمْ، فَلا يَسْتَعْجِلُونِ} أي فإن للذين ظلموا أنفسهم بالكفر والشرك وتكذيب الرسول نصيبا من العذاب، مثل نصيب أمثالهم الكفار من الأمم السابقة، فلا يطلبوا مني تعجيل العذاب لهم، فإن حظهم من العذاب آت لا ريب فيه، وواقع لا محالة، كما قال تعالى:{أَتى أَمْرُ اللهِ، فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ} [النحل 1/ 16].
وهذا جواب قولهم: {مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ} [الملك 25/ 67] وقولهم: {فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصّادِقِينَ} [هود 32/ 11].