الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أي أقمتم نهارا. {تَفَكَّهُونَ} تتعجبون من سوء حاله، وتندمون على اجتهادكم فيه. {لَمُغْرَمُونَ} ملزمون غرامة أو نفقة ما أنفقنا، أو مهلكون، لهلاك رزقنا، من الغرم: وهو الهلاك.
{مَحْرُومُونَ} ممنوعون رزقنا، أو محدودون غير مجدودين (غير محظوظين).
{الْمُزْنِ} السحاب، جمع مزنة. {الْمُنْزِلُونَ} بقدرتنا. {أُجاجاً} ملحا لا يمكن شربه.
{فَلَوْلا تَشْكُرُونَ} فهلا تشكرون أمثال هذه النعم الضرورية. {تُورُونَ} تقدحون، أو تخرجونها نارا. {أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها} الشجرة التي منها الزناد، كالمرخ والعفار والكلخ التي تقدح نارا بالتماس. {جَعَلْناها} جعلنا نار الزناد. {تَذْكِرَةً} أنموذجا لنار جهنم، أو تبصرة في أمر البعث، أو تذكيرا. {وَمَتاعاً} منفعة. {لِلْمُقْوِينَ} للمسافرين، مأخوذ من أقوى القوم:
الذين ينزلون القواء، أي القفر والمفاوز التي لا نبات فيها ولا ماء. {فَسَبِّحْ} نزّه. {بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} أي نزّه الله تعالى، وقل: سبحان الله العظيم، وأحدث التسبيح بذكر اسمه، أو بذكره، فإن إطلاق اسم الشيء: ذكره، و {الْعَظِيمِ}: صفة للاسم أو الرب.
المناسبة:
بعد بيان حال الأصناف الثلاثة من المخلوقات يوم القيامة، ومآل كل صنف، ردّ الله تعالى على المكذبين من أهل الزيغ والإلحاد، فأقام الأدلة على الألوهية بالخلق والرزق والإمداد بالنعم الدائمة، وقرر المعاد، وأثبت البعث والجزاء.
التفسير والبيان:
{نَحْنُ خَلَقْناكُمْ فَلَوْلا تُصَدِّقُونَ} أي نحن ابتدأنا خلقكم أول مرة، بعد أن لم تكونوا شيئا مذكورا، وأنتم تعلمون ذلك، فهلا تصدقون بالبعث، كما تقرّون بالخلق، فإن من قدر على البداءة قادر على الإعادة بطريق الأولى والأحرى؟ وهذا تقرير للمعاد وإثبات له بطريق القياس، ثم أقام أدلة أخرى على ذلك فقال:
{أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ، أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ} أي أخبروني عما تقذفون من المني أو النطف في أرحام النساء، أأنتم تقرونه في الأرحام وتخلقونه
فيها وتجعلونه بشرا سويا تام الخلق، أم الله الخالق لذلك، المقدر المصور له؟! {نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ، وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ، عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ، وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ} أي نحن قسمنا الموت بينكم ووقتناه لكل فرد منكم، فمنكم من يموت كبيرا، ومنكم من يموت صغيرا، ولكن الكل سواء فيه، وما نحن بمغلوبين، بل نحن قادرون على أن نأتي بدلكم بخلق مثلكم بعد إهلاككم، وعلى تغيير صفاتكم التي أنتم عليها، وإنشاء صفات وأحوال أخرى لا تعلمونها. والمراد أننا قهرناكم بالموت، ونقدر على الإتيان بأجيال أخرى أمثالكم ومن جنسكم، لتستمر الحياة البشرية، ونقدر أيضا على التجديد في الصفات والأحوال، وما نحن بمغلوبين عاجزين عن خلق أمثالكم وإعادتكم بعد تفرق أوصالكم.
وهذا دليل على كذب المكذبين بالبعث، وصدق الرسل في الحشر، لأن قوله:{أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ} إلزام بالإقرار بأن الخالق في الابتداء هو الله تعالى، ولما كان قادرا على الخلق أولا، كان قادرا على الخلق ثانيا.
ثم أورد الله تعالى دليلا آخر على إمكان البعث مقرر لما سبق، فقال:
{وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى، فَلَوْلا تَذَكَّرُونَ} أي قد علمتم أن الله أنشأكم بعد أن لم تكونوا شيئا مذكورا، فخلقكم على مراحل وأطوار من نطفة ثم من علقة، ثم من مضغة، ثم من هيكل عظمي، ثم كساكم باللحم، وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة فهلا تتذكرون قدرة الله سبحانه على النشأة الأخيرة، وتقيسونها على النشأة الأولى؟ فإن الذي قدر على الأولى قادر على الأخرى، وهي الإعادة بطريق الأولى والأحرى، كما قال تعالى:{وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ، ثُمَّ يُعِيدُهُ، وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} [الروم 27/ 30]، وقال سبحانه:{أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ، وَلَمْ يَكُ شَيْئاً} [مريم 67/ 19]، وقال عز وجل:{قُلْ: يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ، وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ}
[يس 79/ 36]، وقال عزّ اسمه:{أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً! أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى؟ ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوّى، فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ: الذَّكَرَ وَالْأُنْثى، أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى؟} [القيامة 36/ 75 - 40].
وهذا دليل الحشر وتقرير النشأة الثانية، بالتذكير بالنشأة الأولى، ليكون تذكيرا بعد تذكير.
ثم ذكر الله تعالى دليلا آخر على قدرته، مع الاستدلال على كمال عنايته ورحمته ببريته، فقال:
{أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ، أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزّارِعُونَ} أي أخبروني عما تحرثون أو تقلبون من أرضكم، فتطرحون فيه البذر، والحرث: شق الأرض وإلقاء البذر فيها، أأنتم تنبتونه وتجعلونه زرعا بحيث يكون نباتا كاملا يكون فيه السنبل والحب، بل نحن الذي ننبته في الأرض ونصيره زرعا تاما؟ كان حجر المنذري إذا قرأ:{أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزّارِعُونَ} وأمثالها يقول: بل أنت يا ربّ.
وهذا دليل الرزق الذي بالبقاء بعد ذكر دليل الخلق الذي به الابتداء، وفيه أمور ثلاثة: المأكول المذكور هنا أولا، لأنه هو الغذاء، ثم ذكر المشروب، لأن به الاستمراء، ثم النار التي بها الإصلاح.
{لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً، فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ، إِنّا لَمُغْرَمُونَ، بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ} أي نحن أنبتناه بلطفنا ورحمتنا وأبقيناه لكم رحمة بكم، ولو نشاء لأيبسناه، وجعلناه متحطما متكسرا لا ينتفع به قبل استوائه واستحصاده، ولا يحصل منه حب ولا شيء آخر يطلب من الحرث، فصرتم تعجبون من سوء حاله وما نزل به، قائلين: إننا لخاسرون مغرمون، والمغرم: الذي ذهب ماله بغير عوض، أو إننا لهالكون هلاك أرزقنا، بل إننا حرمنا رزقنا بهلاك
زرعنا، لسوء حظنا، والمحروم: الممنوع من الرزق، وهو ضدّ المرزوق.
ثم ذكر الله تعالى من دليل الرزق بعد المأكول وهو المشروب، فقال:
{أَفَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ، أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ، أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ؟} أي أخبروني أيها الناس عن الماء العذب الذي تشربونه لإطفاء العطش، أأنتم أنزلتموه من السحاب، أم نحن المنزلون بقدرتنا دون غيرنا، فكيف لا تقرّون بالتوحيد، وتصدقون بالبعث؟ {لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً، فَلَوْلا تَشْكُرُونَ} أي لا عمل لكم في إنزال الماء أصلا، فهو محض النعمة، ولو نريد لجعلناه ملحا لا يصلح لشرب ولا زرع، فهلا تشكرون نعمة الله الذي خلق لكم ماء عذبا زلالا، تشربون منه وتنتفعون به، كما قال تعالى:{لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ، وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ، يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنابَ، وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل 10/ 16 - 11].
روى ابن أبي حاتم عن أبي جعفر عن النّبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا شرب الماء، قال:«الحمد لله الذي سقانا عذبا فراتا برحمته، ولم يجعله ملحا أجاجا بذنوبنا» .
ثم ذكر النار أداة الإصلاح، فقال:
{أَفَرَأَيْتُمُ النّارَ الَّتِي تُورُونَ، أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ} أي أفرأيتم النار التي تستخرجونها بالقدح من الزناد، أأنتم أنشأتم شجرتها التي كانوا يقدحون منها النار، أم نحن المنشئون لها بقدرتنا دونكم؟ وكان للعرب شجرتان يقدحون بهما النار وهما المرخ والعفار، بأن يؤخذ منهما غصنان أخضران، ويحك أحدهما بالآخر، فيتناثر من بينهما شرر النار.