الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وحجارة السجيل، وقلبنا ديارهم عاليها سافلها، وجعلنا محلتهم بحيرة منتنة خبيثة، وهي بحيرة طبرية. ونظير الآية:{وَلَقَدْ تَرَكْنا مِنْها آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [العنكبوت 35/ 29].
وهذا دليل على أنه إذا غلب الشر والكفر والفسق، كان الدمار والهلاك.
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يأتي فيما تضمنته من قصتين: قصة البشارة بإسحاق، والإخبار بإهلاك قوم لوط، فمن القصة الأولى يستفاد ما يلي:
1 -
ذكر الله تعالى قصة إبراهيم عليه السلام ليبين بها أنه أهلك المكذب بآياته، كما فعل بقوم لوط.
2 -
وصف الله سبحانه الملائكة بكونهم ضيوفا، ولم يكونوا كذلك، إكراما لإبراهيم عليه السلام في حسابه وظنه، فلم يكذبه الله تعالى في ذلك.
وهم أيضا عباد مكرمون عند الله عز وجل، وعند إبراهيم عليه السلام، إذ خدمهم بنفسه وزوجته، وعجّل لهم القرى، ورفع مجالسهم، كما في بعض الآثار.
3 -
السنة التحية لكل قادم على غيره، وهي السلام، فقال الملائكة: نسلم عليك سلاما، والمراد من السلام هو التحية وهو المشهور، فأجابهم إبراهيم عليه السلام بأحسن من تحيتهم، فقال: سلام عليكم، أي سلام دائم ثابت لا يزول، لقوله تعالى:{وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها} [النساء 86/ 4].
4 -
أنكرهم إبراهيم عليه السلام للسلام الذي هو علم الإسلام والذي لم يكن شائعا في قومه الكفرة، ولأنهم عليهم السلام غرباء غير معروفين، ولأن أوضاعهم وأشكالهم خلاف ما عليه الناس، ولإمساكهم عن الكلام.
5 -
بادر إبراهيم عليه السلام إلى إكرامهم، لما اشتهر عنه من الكرم، ولأن الضيافة من آداب الدين، وكان في إعداده الطعام لهم في غاية الأدب والتكريم والسمو، يقال: إن إبراهيم انطلق إلى منزله كالمستخفي من ضيفه، لئلا يظهروا على ما يريد أن يتخذ لهم من الطعام.
واختار الأجود، فقدّم إليهم الطعام الدسم وهو عجل سمين مشوي على الحجارة المحماة، وعرض عليهم الأكل بتلطف وعرض حسن دون أمر، فقال:
{أَلا تَأْكُلُونَ} ولم يقل: كلوا. وأظهر السرور بأكلهم، وكان غير مسرور بتركهم الطعام، كما يوجد من بعض البخلاء المتكلفين الذين يحضرون طعاما كثيرا، ثم يترقبون إمساك الضيف عن الأكل.
6 -
أحسّ إبراهيم منهم الخوف في نفسه، على عادة الناس أن من يمتنع من مؤاكلة المضيف يضمر شرا مبيتا، فطمأنوه وقالوا له: لا تخف، وأعلموه أنهم ملائكة الله ورسله، وبشروه بولد يولد له من زوجته سارّة.
7 -
لما سمعت زوجته بالبشارة، تعجبت وصاحت كما جرت عادة النساء، حيث يسمعن شيئا من أحوالهن، يصحن عند الاستحياء أو التعجب، وكان تعجبها لأمرين: كبر السن والعقم.
8 -
أجابها الملائكة بأن ما قالوه وأخبروا به هو قول الله وحكمه، فلا يصح أن تشك فيه، وكان بين البشارة والولادة سنة، وكانت سارّة لم تلد قبل ذلك، فولدت وهي بنت تسع وتسعين سنة، وإبراهيم يومئذ ابن مائة سنة، والله حكيم فيما يفعله، عليم بمصالح خلقه.
وأما القصة الثانية ففيها ما يأتي:
1 -
أدرك أبو الأنبياء إبراهيم أن وراء وفد الملائكة الجماعي شيئا خطيرا،
فبعد أن علم وتيقن أنهم ملائكة أرسلوا لأمر خطير، قال لهم: فما شأنكم وقصتكم أيها الملائكة المرسلون سوى البشارة؟ وإنما عرف كونهم مرسلين لقولهم هنا: {كَذلِكَ قالَ رَبُّكِ} فهذا يدل على كونهم منزلين من عند الله، حيث حكوا قول الله.
2 -
أجابوه بأنهم أرسلوا إلى قوم مجرمين هم قوم لوط، لرجمهم بحجارة معروفة بأنها حجارة العذاب، قيل: على كل حجر اسم من يهلك به. وإنما قال: {مِنْ طِينٍ} لإفادة أن الحجارة من طين متحجر وهو السجّيل، ولدفع توهم كونها بردا، فإن بعض الناس يسمي البرد حجارة.
3 -
كانت الحاجة إلى قوم من الملائكة، مع أن الواحد منهم يقلب المدائن بريشة من جناحه، إظهارا لقدرة الله وتعظيمه وشدة سلطانه وغلبة جنده.
4 -
جرت سنة الله تعالى في إنزال الهلاك والدمار العام بإنجاء المؤمنين وتمييزهم، فلما أراد إهلاك قوم لوط أمر نبيه لوطا بأن يخرج هو مع المؤمنين من أهل بيته إلا امرأته، لئلا يهلك المؤمنون، وذلك قوله تعالى:{فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ} [هود 81/ 11].
5 -
دلّ قوله تعالى: {فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} على فائدتين
(1)
:
إحداهما-بيان القدرة والاختيار، لتمييز الله المجرم عن المحسن.
الثانية-بيان أنه ببركة المحسن ينجو المسيء، فإن القرية ما دام فيها المؤمن لم تهلك، فلما خرج من القرية آل لوط المؤمنون، نزل العذاب بالباقين.
(1)
تفسير الرازي: 218/ 28
6 -
دل قوله تعالى: {فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} على أن الكفر إذا غلب، والفسق إذا عمّ وفشا، لا تنفع معه عبادة المؤمنين. أما لو كان أكثر الخلق على الطريقة المستقيمة، وفيهم شرذمة يسيرة يسرقون ويزنون، فلا عذاب.
7 -
المؤمنون والمسلمون من آل لوط سواء، لكن في الحقيقة: الإيمان:
تصديق القلب، والإسلام: هو الانقياد بالظاهر لأحكام الله، فكل مؤمن مسلم، وليس كل مسلم مؤمنا، فسمّاهم تعالى في الآية الأولى مؤمنين، لأنه ما من مؤمن إلا وهو مسلم. قال الرازي مؤيدا التفرقة بين الإيمان والإسلام: والحق أن المسلم أعم من المؤمن، وإطلاق العام على الخاص لا مانع منه، فإذا سمي المؤمن مسلما لا يدل على اتحاد مفهوميهما، فكأنه تعالى قال: أخرجنا المؤمنين، فما وجدنا الأعم منهم إلا بيتا من المسلمين، ويلزم من هذا ألا يكون هناك غيرهم من المؤمنين.
8 -
إن في تعذيب قوم لوط على الكفر وفاحشة اللواط عبرة وعلامة لأهل ذلك الزمان ومن بعدهم، غير أن المنتفعين بالعظة والعبرة هم الذين يخشون الله ويخافون عقابه، والمنتفع بها هو الخائف. وقد عبر عن ذلك في آية أخرى بأبلغ وجه حيث قال تعالى:{وَلَقَدْ تَرَكْنا مِنْها آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [العنكبوت 35/ 29] فقد وصف الآية بالظهور، وقال:{مِنْها} لا (فيها) المفيدة للتبعيض، فكأنه تعالى قال: من نفسها لكم آية باقية، وذكر أن المنتفع هو العاقل، والعاقل أعم من الخائف، فكانت الآية في العنكبوت أظهر، لأن القصد هناك تخويف القوم، وهاهنا تسلية القوم، ويؤكده أنه قال هناك:{إِنّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ} من غير بيان واف بنجاة المسلمين والمؤمنين بأسرهم، وقال هنا:{فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} .