الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قريشا لما اجتمعوا في دار النّدوة في أمر النبي صلى الله عليه وسلم، قال قائل: احبسوه في وثاق، ثم تربصوا به المنون حتى يهلك، كما هلك من قبله من الشعراء: زهير والنابغة والأعشى، فإنما هو كأحدهم، فأنزل الله في ذلك:{أَمْ يَقُولُونَ: شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ} .
المناسبة:
بعد قسم الله تعالى على وقوع العذاب، وذكر أحوال المعذبين والناجين، أمر تعالى نبيه بالتذكير إنذارا للكافر، وتبشيرا للمؤمن، ودعاء إلى الله تعالى بنشر رسالته، ثم نفى عنه ما كان الكفار ينسبونه إليه من الكهانة والجنون باعتبارهما طريقين إلى الإخبار ببعض المغيّبات، بالاعتماد على الجن. وكان شيبة بن ربيعة ممن ينسبه إلى الكهانة، وعقبة بن أبي معيط ممن ينسبه إلى الجنون. ثم بيّن الله تعالى ما في هذا الاتهام من التناقض والاضطراب، ثم أمره ربه بتهديدهم بمثل صنيعهم، ثم تحداهم بأن يأتوا بمثل القرآن أو بمثل أقصر سورة من هذا الكلام المفترى، وفيهم الفصحاء والبلغاء، بل هم قوم طاغون متجاوزون الحد، جاحدون كافرون لا يؤمنون بالوحي، فقالوا بأهوائهم مثل تلك الأقاويل.
التفسير والبيان:
{فَذَكِّرْ فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ} أي إذا كان في الوجود قوم يخافون الله، ويشفقون في أهليهم من عذاب الله كما تقدم في الآيات السابقة، فوجب عليك أيها الرسول الإتيان بما أمرت به من التذكير، فاثبت على ما أنت عليه من تذكير الناس وموعظتهم، ولا يثبّطنك قولهم: كاهن أو مجنون، فلست بحمد الله وإنعامه بكاهن كما يقول جهلة كفار قريش، ولا مجنون، والكاهن:
هو الذي يوهم أنه يعلم الغيب من دون وحي، ويخبر عن الماضي بالأخبار الخفية، وليس ما تقوله كهانة، فإنك إنما تنطق بالوحي الذي أمرك الله
بإبلاغه. والمجنون: هو الذي يتخبطه الشيطان من المس، في عرف العرب.
وممن قال: إنه كاهن كما تقدم: شيبة بن ربيعة، وممن قال: إنه مجنون عقبة بن أبي معيط.
لا تبال بهذا، فإنه قول باطل متناقض، لأن الكاهن يحتاج في كهانته إلى فطنة ودقة نظر، والمجنون مغطى على عقله، ولست بما عرف عنك من رجاحة العقل أحد هذين.
ثم أنكر الله تعالى عليهم قولا آخر في الرسول صلى الله عليه وسلم، فقال:
{أَمْ يَقُولُونَ: شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ} أي بل يقولون: إنه شاعر ننتظر به حوادث الأيام، فيموت كما مات غيره، أو يهلك كما هلك من قبله، فنستريح منه ومن شأنه وينقضي ما جاء به من هذا الدين.
ثم هددهم الله وتهكم بهم قائلا لرسوله صلى الله عليه وسلم:
- {قُلْ: تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ} أي قل لهم أيها الرسول:
انتظروا موتي أو هلاكي، فإني معكم من المنتظرين لعاقبة الأمر، وقضاء الله فيكم، وستعلمون لمن تكون العاقبة والنصرة في الدنيا والآخرة، وأنا واثق من نصر الله تعالى.
- {أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهذا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ} أي أأنزل عليهم ذكر أم أتأمرهم عقولهم بهذا الكلام المتناقض؟ وهي دعوى أن القرآن سحر أو كهانة أو شعر، وقولهم في الرسول صلى الله عليه وسلم: كاهن وشاعر مع قولهم: مجنون، فالشاعر غير الكاهن وغير المجنون، فالأول ينطق بالحكمة، والثاني يذكر الخرافات، والثالث زائل العقل، وكانت عظماء قريش توصف بأنهم أهل الأحلام والنهى والعقول، فتهكم الله بعقولهم التي لا تميز بين الحق والباطل.
أم إنهم قوم طغوا وتجاوزوا الحد في العناد والعصيان والضلال عن الحق، واغتروا وقالوا ما لا دليل عليه سمعا، ولا مقتضى له عقلا.
وعلى هذا تكون {أَمْ} متصلة، كما ذكر الرازي، وذكر غيره
(1)
أن أم في الموضعين منقطعة، أي بل أتأمرهم عقولهم، بل أطغوا وجاوزوا الحد؟ أي لكن عقولهم تأمرهم بهذه الأقاويل الباطلة التي يعلمون في أنفسهم أنها كذب وزور، وهم قوم طاغون ضلاّل معاندون.
{أَمْ يَقُولُونَ: تَقَوَّلَهُ، بَلْ لا يُؤْمِنُونَ} أي أتقولون: كاهن، أم تقولون: شاعر، أم تقوله أي اختلقه وافتراه من عند نفسه، يعنون القرآن. فرد الله تعالى عليهم: بل إن كفرهم وكونهم لا يؤمنون بالله ولا يصدقون بما جاء به رسوله هو الذي يحملهم على هذه الأقوال المتناقضة، والمطاعن المفتراة الكاذبة.
ثم رد عليهم ردا آخر فيه تحدّ لهم، فقال:
{فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كانُوا صادِقِينَ} أي إن صدقوا في قولهم: إن محمدا تقوله وافتراه من عند نفسه، فليأتوا
(2)
بمثل هذا القرآن في نظمه وحسن بيانه وبديع أسلوبه، مع أنه كلام عربي، وهم أساطين البيان، وفرسان البلاغة والفصاحة، والممارسون لجميع أساليب العربية من نظم ونثر.
والحقيقة أنهم لو اجتمعوا هم وجميع أهل الأرض من الجن والإنس، ما جاؤوا بمثله، ولا بعشر سور من مثله، ولا بسورة من مثله.
(1)
قال أبو حيان في (البحر المحيط: 151/ 8): والصحيح أنها تتقدر ببل والهمزة، وقد تقدم في الإعراب أن أم كلها في الآيات منقطعة بمعنى (بل والهمزة) وهو رأي ابن الأنباري وغيره من النحاة.
(2)
الفاء للتعقيب، أي إذا كان الأمر كذلك، فيجب عليهم أن يأتوا بمثل ما أتى به ليصحح كلامهم، ويبطل كلامه.