الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
{وَلَقَدْ تَرَكْناها} أبقينا السفينة أو الفعلة. {آيَةً} علامة ودليلا لمن يعتبر بها.
{مُدَّكِرٍ} أي متذكر معتبر ومتعظ. {فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ} أي إنذاراتي لهم بالعذاب قبل نزوله، وهو استفهام تعظيم ووعيد، وتقرير، والمعنى: حمل المخاطبين على الإقرار بوقوع عذاب الله تعالى بالمكذبين لنوح موقعه. {يَسَّرْنَا} سهلنا. {لِلذِّكْرِ} للعظة والاعتبار. {مُدَّكِرٍ} متعظ بمواعظه.
المناسبة:
بعد أن أجمل الله تعالى الزجر بأخبار الأمم الماضية المكذبة رسلها، أعاد بعض الأنباء وفصلها، وهي قصص أربع: قصة قوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط لهدفين: بيان أن حال الرسول صلى الله عليه وسلم كحال الرسل المتقدمين مع أقوامهم، ووعيد المشركين من أهل مكة وغيرهم على تكذيبهم رسولهم.
التفسير والبيان:
{كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ، فَكَذَّبُوا عَبْدَنا، وَقالُوا: مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ} أي كذبت قبل قومك يا محمد بالرسل قوم نوح، فإنهم كذبوا عبدنا نوحا عليه السلام، واتهموه بالجنون، وانتهروه وزجروه وتواعدوه عن تبليغ الدعوة بمختلف أنواع الإيذاء والسبّ والتخويف، قائلين:{لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ} [الشعراء 116/ 26].
وفائدة قوله: {فَكَذَّبُوا 1 عَبْدَنا} بعد قوله: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ} هي التخصيص بعد التعميم، أي كذبت الرسل أجمعين، فلذلك كذبوا نوحا. وقوله:{عَبْدَنا} تشريف وتنبيه على أنه هو الذي حقق المقصود من الخلق وقتئذ، ولم يكن على وجه الأرض حينئذ عابد لله سواه، فكذبوه.
(1)
الفاء: فاء تفصيل وتفريع.
{فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ} أي فدعا نوح الله ربّه قائلا: إني ضعيف عن مقاومة هؤلاء، فانتصر أنت لدينك، وانتقم لي منهم بعقاب من عندك.
وقد طلب النصرة عليهم، بعد أن علم تمردهم وعتوهم وإصرارهم على الضلال. فأجاب الله دعاءه قائلا:
{فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ 1 مُنْهَمِرٍ} أي صببنا عليهم ماء غزيرا كثيرا متدفقا. وهذا التعبير مجاز عن كثرة انصباب الماء من السماء، كما يقال في المطر الوابل: جرت ميازيب السماء، وفتحت أبواب القرب.
{وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً، فَالْتَقَى الْماءُ عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ} أي وجعلنا الأرض كلها عيونا متفجرة وينابيع متدفقة، فالتقى ماء السماء وماء الأرض على أمر قد قضي عليهم، أي على أمر مقدر عليهم من الأزل، لما علم الله من حالهم.
وهذا دليل على عقابهم والانتقام منهم، ثم ذكر تعالى كيفية إنجاء نوح، فقال:
{وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ} أي وحملنا نوحا على سفينة {ذاتِ أَلْواحٍ} : وهي الأخشاب العريضة، {وَدُسُرٍ}: وهي المسامير التي تشد بها الألواح. وهذا الإيجاز من فصيح الكلام وبديعه.
ونظير الآية قوله تعالى: {فَأَنْجَيْناهُ وَأَصْحابَ السَّفِينَةِ} [العنكبوت 15/ 29].
{تَجْرِي بِأَعْيُنِنا، جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ} أي تسير بمنظر ومرأى منا وحفظ وحراسة لها، جزاء لهم على كفرهم بالله، وانتصارا لنوح عليه السلام، لأنه نعمة من الله، وتكذيبه كفران أو جحود لتلك النعمة.
(1)
الباء للآلة نحو فتحت الباب بالمفتاح، يفتح الله لك بخير.
وهذا دليل على أن اتخاذ الأسباب لتحقيق النتائج أمر ضروري، وهو أيضا محتاج إلى رعاية الله وعنايته وحفظه.
ثم ذكر الله تعالى أنه أبقى السفينة عبرة لمن بعدهم، فقال:
{وَلَقَدْ تَرَكْناها آيَةً، فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} أي لقد أبقينا السفينة عبرة للمعتبرين، أو لقد تركنا هذه الفعلة التي فعلناها بهم عبرة وعظة، فهل من متعظ ومعتبر، يتعظ بهذه الآية ويعتبر بها.
قال قتادة: أبقى الله سفينة نوح حتى أدركها أول هذه الأمة، وعقب عليه الحافظ ابن كثير قائلا: والظاهر أن المراد من ذلك جنس السفينة، كقوله تعالى:{وَآيَةٌ لَهُمْ أَنّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ، وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ ما يَرْكَبُونَ} [يس 41/ 36 - 42]، وقال تعالى:{إِنّا لَمّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ، لِنَجْعَلَها لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ} [الحاقة 11/ 69 - 12]
(1)
ولهذا قال ها هنا:
{فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} أي هل من متعظ ومعتبر يتعظ بهذه الآية ويعتبر بها؟! {فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ} أي فانظر أيها السامع كيف كان عذابي لمن كفر بي، وكذّب رسلي، ولم يتعظ بما جاءت به نذري المرسلون، وكيف انتصرت لهم، وأخذت لهم بالثأر، أو كيف كانت إنذاراتي؟ والاستفهام للتوبيخ والتخويف، وإنما أفرد العذاب فلم يقل: أنواع عذابي، وجمع النذر، إشارة إلى غلبة الرحمة الغضب، لأن الإنذار إشفاق ورحمة.
{وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ، فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ؟} أي لقد سهلناه
(1)
تفسير ابن كثير: 264/ 4