الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ويلاحظ أنه قال سابقا بعد ذكر نعم الدنيا: {وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ} للإشارة إلى فناء كل شيء من الممكنات، وقال بعد ذكر نعم الآخرة:{تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ} للإشارة إلى بقاء أهل الجنة ذاكرين اسم الله متلذذين به.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يأتي:
1 -
هناك أربع جنان ذات منازل مختلفة لمن خاف مقام ربّه، فجنتان للمقربين، ودونهما في المكان والفضل جنتان لأصحاب اليمين، كما قال ابن زيد، وقال ابن جريج: هي أربع: جنتان منها للسابقين المقرّبين: {فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ} و {عَيْنانِ تَجْرِيانِ} وجنتان لأصحاب اليمين {فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمّانٌ} و {فِيهِما عَيْنانِ نَضّاخَتانِ} . و
قد ذكرت ما رواه أبو موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم: «جنتان من فضة، أبنيتهما وما فيهما، وجنتان من ذهب، أبنيتهما وما فيهما» .
2 -
لما وصف الله الجنتين لكل فريق أشار إلى الفرق بينهما:
أولا-فقال في الأوليين: {ذَواتا أَفْنانٍ} أي ذواتا ألوان من الفاكهة، وقال في الأخريين:{مُدْهامَّتانِ} مخضرتان في غاية الخضرة من الري.
ثانيا-وقال في الأوليين: {فِيهِما عَيْنانِ تَجْرِيانِ} وفي الأخريين:
{فِيهِما عَيْنانِ نَضّاخَتانِ} أي فوّارتان ولكنهما ليستا كالجاريتين، لأن النضخ دون الجري.
ثالثا-وقال في الأوليين: {فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ} فعمّ ولم يخص، وفي الأخريين:{فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمّانٌ} ولم يقل: من كل فاكهة.
قال بعض العلماء: ليس الرمان والنخل من الفاكهة، لأن الشيء لا يعطف
على نفسه، إنما يعطف على غيره، وهذا ظاهر الكلام. وقال الجمهور: هما من الفاكهة، وإنما أعاد ذكر النخل والرمان لفضلهما وحسن موقعهما على الفاكهة، كقوله تعالى:{حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى} [البقرة 238/ 2]، وقوله:{مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ} [البقرة 98/ 2].
وبناء على الرأي الأول قال أبو حنيفة: من حلف ألا يأكل فاكهة فأكل رمّانا أو رطبا، لم يحنث. وخالفه صاحبه والجمهور.
رابعا-وقال في الأوليين: {فِيهِنَّ قاصِراتُ الطَّرْفِ..} . وفي الأخريين:
{فِيهِنَّ خَيْراتٌ حِسانٌ} يعني النساء، الواحدة خيرة، على معنى ذوات خير، وقرئ «خيّرات» والتي قصرت طرفها بنفسها أفضل ممن قصرت، كما تقدم.
ووصفت الأوليان بقوله: {كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ} .
ويلاحظ أنه سبحانه قال في الموضعين عند ذكر الحور: {فِيهِنَّ} وفي سائر المواضع: {فِيهِما} والسرّ في ذلك الإشارة إلى أن لكل حورية مسكنا على حدة، متباعدا عن مسكن الأخرى، متسعا يليق بالحال، وهذا ألذ وأمتع وأهنا للرجل الواحد عند تعدد النساء، فيحصل هناك متنزهات كثيرة، كل منها جنة، وكأن في ضمير الجمع إشارة لذلك. أما العيون والفواكه فلا حاجة فيها لهذا الاستقلال، فاكتفى فيها بعود الضمير إلى الجنتين فقط.
وهل الحور أكثر حسنا وأبهر جمالا من الآدميات؟ قيل: الحور، لما ذكر من وصفهن في القرآن والسنة،
ولقوله صلى الله عليه وسلم في دعائه على الميت في الجنازة:
وقيل:
الآدميات أفضل من الحور العين بسبعين ألف ضعف، لحديث روي مرفوعا
(1)
.
(1)
تفسير القرطبي: 187/ 17 وما بعدها.
والمشهور أن الحور العين لسن من نساء أهل الدنيا، وإنما هنّ مخلوقات في الجنة، لأن الله تعالى قال:{لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ} وأكثر نساء أهل الدنيا مطموثات.
خامسا-وقال في الأوليين: {مُتَّكِئِينَ عَلى فُرُشٍ بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ.} .
وفي الأخريين: {مُتَّكِئِينَ عَلى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسانٍ} ويلاحظ أن الوصف الأول أرفع وأفخم.
3 -
كرر الله تعالى في هذه السورة قوله: {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ} إحدى وثلاثين مرة: ثمانية منها ذكرها عقيب تعداد عجائب خلقه، وذكر المبدأ والمعاد، ثم سبعة منها عقيب ذكر النار وأهوالها على عدد أبواب جهنم، وبعد هذه السبعة أورد ثمانية في وصف الجنات وأهلها على عدد أبواب الجنة، وثمانية بعدها عقيب وصف الجنات التي هي دونهما، فمن اعتقد الثمانية الأولى وعمل بموجبها، استحق كلتا الثمانيتين من الله، ووقاه السبعة السابقة.
4 -
نزّه الله تعالى نفسه عما لا يليق بجلاله، وختم السورة به، والاسم (اسم الجلالة) مقحم على المشهور للتبرك والتعظيم كالوجه في قوله تعالى:{وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ} ، وهذا لتعليم العباد بأن كل ما ذكر من آلاء ونعم من فضله ورحمته، وأن من عدله تعذيب العاصين، وإثابة الطائعين، فإنه افتتح السورة باسم {الرَّحْمنُ} فوصف خلق الإنسان والجن، وخلق السموات والأرض وصنعه، وأنه كل يوم هو في شأن، ووصف تدبيره فيهم، ثم قال في آخر السورة:{تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ} أي هذا الاسم الذي افتتح به هذه السورة، كأنه يعلم عباده أن هذا كله خرج لكم من رحمتي، فمن رحمتي خلقكم وخلقت لكم السماء والأرض والخلق والخليقة والجنة والنار، فهذا كله من اسم الرحمن.