الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
{وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ} يسأل بعضهم بعضا عن أحواله وأعماله، استمتاعا وتلذذا واعترافا بالنعمة. {قالُوا: إِنّا كُنّا قَبْلُ فِي أَهْلِنا مُشْفِقِينَ} أي كنا في الدنيا خائفين من عذاب الله، وهذا القول إيماء إلى علة الوصول إلى الجنة. {فَمَنَّ اللهُ عَلَيْنا} بالمغفرة والرحمة.
{وَوَقانا عَذابَ السَّمُومِ} حمانا من عذاب النار النافذة في المسام نفوذ السموم، وقرئ:
{وَوَقانا} بالتشديد.
وقالوا أيضا إيماء إلى علة الوصول إلى الجنة: {إِنّا كُنّا مِنْ قَبْلُ} في الدنيا. {نَدْعُوهُ} نعبده موحدين، أو نسأله الوقاية. {إِنَّهُ} بالكسر: استئناف، وإن كان تعليلا معنى، وقرئ بالفتح: أنه تعليلا لفظا. {الْبَرُّ} المحسن، الصادق في وعده. {الرَّحِيمُ} الكثير الرحمة.
المناسبة:
بعد بيان وقوع البعث والعذاب بالكافرين حتما وما يلاقونه من الشدائد والإهانات، ذكر الله تعالى حال المؤمن وجزاءه المتميز، أي أنه ذكر ما يتلقاه المؤمن في الآخرة بعد بيان حال الكافر، ثم ذكر الثواب عقب العقاب، جريا على الموازنة وعادة القرآن في إيراد الأضداد، والجمع بين الترغيب بالترهيب، حتى يتأمل الإنسان في المصير، فيرغب في الرحمة، ويرهب النقمة والعقاب.
ومما يزيد في الترغيب: أنه تعالى لم يقصر النعمة على المستحق، وإنما أفاضها أيضا على الذرية والأولاد، فلم يكتف بتعداد صنوف اللذات النفسية في الملبس والمسكن والمأكل والمشرب والزواج، وإنما زاد في الفضل والإكرام، فألحق بالأصول الذرية المؤمنة في المنازل العالية والدرجات الرفيعة في الجنان.
وأبعد اليأس والملل والوحشة عن أهل الجنة، وأحل محلها المتعة المتجددة والأنس، بتجاذب الكؤوس فرحا ولعبا، والتنذر بأطيب الأحاديث، والتحدث بأحوال الدنيا ومقارنتها بأحوال الآخرة، ونحو ذلك.
التفسير والبيان:
{إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنّاتٍ وَنَعِيمٍ، فاكِهِينَ بِما آتاهُمْ رَبُّهُمْ، وَوَقاهُمْ رَبُّهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ} إن الذين اتقوا ربهم في الدنيا باتباع أوامره واجتناب نواهيه يكونون
في بساتين نضرة، ويتنعمون فيها بنعيم دائم، بضد ما أولئك الكفار فيه من العذاب والنكال، وهم يتفكهون بفواكه الجنة تفكها فيه غاية الطيبة واللذة والسرور، بما أعطاهم الله من النعيم، من أصناف الملاذ في المآكل والمشارب والملابس والمساكن والمراكب والفرش والأزواج وغير ذلك، وحماهم الله من عذاب النار، ونجاهم من لظى السعير، وتلك نعمة مستقلة بذاتها على حدتها، مع دخول الجنة التي فيها من السرور ما لا عين رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
وقوله: {فِي جَنّاتٍ وَنَعِيمٍ} يفيد أنهم يتنعمون في الجنان تنعما فعليا، لا كمجرد الناطور الذي يحرس البستان. وقوله:{فاكِهِينَ} للدلالة على أن التنعم في النفس والقلب أيضا، فقد يكون التنعم ظاهريا، والقلب مشغول، كحال كثير من أغنياء الدنيا.
وتقول لهم ملائكة الرضوان في الجنة:
{كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} أي تهنئهم الملائكة وتقول لهم:
كلوا من طيبات الرزق، واشربوا مما لذ وصفا وطاب، لا تجدون في الأكل والشرب تنغيصا ولا نكدا ولا كدرا، وهذا معنى الهنيء، وذلك بسبب ما قدمتم من أعمال صالحة في الدنيا، فهذا بذاك تفضلا وإحسانا.
ونظير الآية: {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيّامِ الْخالِيَةِ} [الحاقة 24/ 69]. قيل للربيع بن خيثم، وقد صلى طوال الليل: أتعبت نفسك، فقال: راحتها طلبت.
ثم ذكر الله تعالى تمتعهم بالفرش والبسط والأزواج، فقال:
{مُتَّكِئِينَ عَلى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ، وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ} أي والحال أنهم يجلسون ويستندون على أسرّة مصفوفة متصل بعضها ببعض، حتى تصير صفا
واحدا، وهذا دليل الاطمئنان والراحة وعدم التكلف وفراغ البال من الشواغل.
وكذلك قرنّا كل واحد منهم بقرينات صالحات وزوجات حسان من نساء الجنة، وهن الحوريات الشديدات بياض العين، والشديدات سوادها، والواسعات الأعين. ويلاحظ أن كلمتي الحور والعين جمع للمذكر والمؤنث، أي أحور حوراء وأعين عيناء.
روى ابن أبي حاتم عن الهيثم بن مالك الطائي أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الرجل ليتكئ المتكأ مقدار أربعين سنة، ما يتحول عنه ولا يملّه، يأتيه ما اشتهت نفسه، ولذّت عينه» .
ويلاحظ أنه تعالى ذكر في الآيات السابقة أسباب التنعيم الأربعة على الترتيب، فذكر أولا المسكن وهو الجنات، ثم الأكل والشرب، ثم الفرش والبسط، ثم الأزواج. وذكر في كل نوع ما يدل على الكمال فيه، وهو قوله {فاكِهِينَ} في الجنات، لأن مكان التنعيم قد ينتغص بأمور، وقوله:
{هَنِيئاً} إشارة إلى خلو المأكول والمشروب عما يكون فيها من المفاسد في الدنيا كالتخمة والمرض والغصة والانقطاع. وقوله: في السرر: {مُتَّكِئِينَ} للدلالة على عدم التكلف، والهيئة دليل خير. وقوله:{بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} إنجاز لما وعدهم به ربهم في الدنيا، من غير من، وإنما كان المنّ في الدنيا بالهداية للإيمان والتوفيق للعمل الصالح، كما قال تعالى:{بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ} [الحجرات 17/ 49].
وقوله: {مَصْفُوفَةٍ} إشارة إلى أنها مخصصة لكل واحد، لا اشتراك فيها.
وقوله: {وَزَوَّجْناهُمْ} دليل على أن المزوج بأمانة هو الله تعالى، وأن المنفعة في التزويج لهم وأنه لم يقتصر على الزوجات، بل وصفهن بالحسن، واختار أحسن الحسن وهو جمال العيون
(1)
.
(1)
تفسير الرازي: 249/ 28
ويلاحظ أيضا الفرق بين جزاء الكفار حيث قال تعالى في حقهم: {إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} وبين جزاء المتقين حيث قال في حقهم: {بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} فجزاء الكفار منحصر بكلمة {إِنَّما} للحصر، أي لا تجزون إلا ذلك، وأما المؤمنون فيضاعف ما عملوا ويزيدهم من فضله، ويجازى الكفار عين أعمالهم بقوله:{بِما كُنْتُمْ} إشارة إلى المبالغة في المماثلة، وقال في حق المؤمنين:
{بِما كُنْتُمْ} كأن ذلك أمر ثابت مستمر بعملهم الصالح، وذكر الله تعالى الجزاء في حق الكفار، وهو ينبئ عن الانقطاع، ولم يذكره في حق المؤمنين مما يدل على الدوام وعدم الانقطاع
(1)
.
ثم أخبر الله تعالى عن مزيد فضله وكرمه ولطفه بخلقه وإحسانه بإلحاق الذرية بالآباء في المنزلة، وإن لم يبلغوا عملهم، لتقرّ عين الآباء بالأبناء عندهم في منازلهم، فقال:
{وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} أي إن المؤمنين الذين تتبعهم ذريتهم في الإيمان أو بسبب إيمان عظيم رفيع المحل وهو إيمان الآباء، يلحقهم الله بآبائهم في المنزلة فضلا منه وكرما، والمعنى: أن الله سبحانه يرفع ذرية المؤمن إليه، وإن كانوا دونه في العمل، لتقر عينه، وتطيب نفسه، بشرط كونهم مؤمنين. ومن باب أولى يلحق الآباء بالأبناء إن كان هؤلاء أحسن حالا من آبائهم، فيرفع ناقص العمل إلى منزلة كامل العمل، ولا ينقص ذلك من عمله ومنزلته، للتساوي بينه وبين ذاك. قال ابن عباس: إن الله ليرفع ذرية المؤمن في درجته، وإن كانوا دونه في العمل، لتقرّ بهم عينه، ثم قرأ:{وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ، أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ، وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ}
(2)
وتنكير لفظة {بِإِيمانٍ} للدلالة على أنه إيمان خاص عظيم المنزلة،
(1)
تفسير الرازي: 249/ 28
(2)
رواه ابن جرير وابن أبي حاتم، ورواه البزار عن ابن عباس مرفوعا، ورواه الثوري عن ابن عباس موقوفا.
ويجوز أن يراد إيمان الذرية الداني المحل، كأنه قال: بشيء من الإيمان لا يؤهلهم لدرجة الآباء ألحقناهم بهم
(1)
.
وروى الحافظ الطبراني عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا دخل الرجل الجنة، سأل عن أبويه وزوجته وولده، فيقال: إنهم لم يبلغوا درجتك، فيقول: يا ربّ، قد عملت لي ولهم، فيؤمر بإلحاقهم به» . وقرأ ابن عباس:
{وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ} الآية.
وهذا فضله تعالى على الأبناء ببركة عمل الآباء، وفضله على الآباء ببركة دعاء الأبناء،
أخرج الإمام أحمد عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله ليرفع الدرجة للعبد الصالح في الجنة، فيقول: يا ربّ أنى لي هذه؟ فيقول:
باستغفار ولدك لك»
وله شاهد في صحيح مسلم عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له» .
{وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} أي وما نقصنا الآباء بإلحاق ذريتهم بهم من ثواب أعمالهم شيئا.
{كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ} أي كل إنسان مرتهن يوم القيامة بعمله، فلا يتحمل أحد ذنب آخر سواء كان أبا أو ابنا، كما أن الرهن لا ينفك ما لم يؤدّ الدين، فإن كان العمل صالحا فكّه ونجاه، لأن الله يقبله، وإن كان صالحا أهلكه.
ونظير الآية كثير في القرآن، مثل:{كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ، إِلاّ أَصْحابَ الْيَمِينِ} [المدثر 38/ 74 - 39] أي كل نفس مرهونة بعملها، لا يفك رهنها إلا أصحاب اليمين بعملهم الطيب.
(1)
تفسير الكشاف: 173/ 3
ثم عدد الله تعالى أصناف النعم على المتقين، فقال:
1 -
{وَأَمْدَدْناهُمْ بِفاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمّا يَشْتَهُونَ} أي وزدناهم على ما كان لهم من النعيم فاكهة متنوعة، ولحما مختلفا من أنواع اللحوم، من كل ما تشتهيه أنفسهم وتستطيبه وتلذ به.
2 -
{يَتَنازَعُونَ فِيها كَأْساً لا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ} أي يتعاطون في الجنة كأسا من خمر الجنة، ويتجاذبون الكؤوس مع جلسائهم تجاذب سرور ولهو وملاعبة، لشدة فرحهم، وليس في شراب الآخرة ما يدعو إلى اللغو والإثم، فلا يتكلمون بكلام لاغ، أي هذيان، ولا قول فيه إثم أي فحش، كما يتكلم شاربو الخمر في الدنيا، قال ابن قتيبة: لا تذهب بعقولهم، فيلغوا، كما يكون من خمر الدنيا، ولا يكون منهم ما يؤثمهم.
وقد أخبر الله تعالى عن حسن منظر خمر الآخرة وطيب طعمها ومذاقها، فقال:{بَيْضاءَ لَذَّةٍ لِلشّارِبِينَ، لا فِيها غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ} [الصافات 46/ 37 - 47] وقال: {لا يُصَدَّعُونَ عَنْها وَلا يُنْزِفُونَ} [الواقعة 19/ 56].
3 -
{وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمانٌ لَهُمْ، كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ} أي ويدور عليهم للخدمة بالكأس والفواكه والطعام وغير ذلك فتيان يخدمونهم، كأنهم في الحسن والبهاء لؤلؤ مستور، مصون في الصدف، لم تمسّه الأيدي.
ونحو الآية: {يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ، بِأَكْوابٍ وَأَبارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ} [الواقعة 17/ 56 - 18].
روى ابن جرير وابن المنذر عن قتادة قال: «بلغني أنه قيل:
يا رسول الله، هذا الخادم مثل اللؤلؤ، فكيف بالمخدوم؟ فقال: والذي نفسي