الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التفسير والبيان:
{هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ، إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ، فَقالُوا:}
{سَلاماً، قالَ: سَلامٌ، قَوْمٌ مُنْكَرُونَ} أي هل بلغك خبر قصة إبراهيم عليه السلام مع ضيوفه الملائكة المكرّمين عند الله سبحانه الذين جاؤوا إليه في صورة بني آدم، وهم في طريقهم إلى قوم لوط، فدخلوا عليه وسلموا بقولهم:
سلاما، أي نسلم عليك سلاما، فأجابهم بأحسن من تحيتهم بما يدل على الثبات، فقال: سلام عليكم، إنكم قوم لا أعرفكم من قبل، فمن أنتم؟ وقيل: إنه قال دلك في نفسه، ولم يخاطبهم به، لأن هؤلاء الملائكة وهم جبريل وميكائيل وإسرافيل قدموا عليه في صورة شبان حسان عليهم مهابة عظيمة.
ابتدأ الله تعالى بالاستفهام التقريري تفخيما لشأن الحديث، ولفتا للنظر والانتباه، مع تهديد العرب ووعيدهم ووعظهم، وتسلية الرسول صلى الله عليه وسلم على ما يجري عليه من قومه، وأطلق عليهم صفة الضيف حيث أضافهم إبراهيم عليه السلام، والضيافة سنة، وذهب أحمد وجماعة إلى وجوب الضيافة للنزيل، وحيّوه بصيغة {سَلاماً} التي هي دعاء، فردّ عليهم الخليل مختارا الأفضل من التسليم، فقال:{سَلامٌ} لأن الرفع أقوى وأثبت من النصب، لدلالته على الثبات والدوام. والظاهر الذي يناسب حال إبراهيم عليه الصلاة والسلام أنه لم يقل لهم:{قَوْمٌ مُنْكَرُونَ} ولم يخاطبهم بذلك، بل أسرّها في نفسه، فقال:
هؤلاء قوم منكرون، أو قال ذلك لمن معه من أتباعه وخدمه وجلسائه، لأن التصريح بمثل هذا فيه إيحاش للضيف وعدم إيناس.
{فَراغَ إِلى أَهْلِهِ، فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ، فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ، قالَ: أَلا تَأْكُلُونَ؟} أي عدل أو ذهب إلى أهله خفية من ضيوفه في سرعة، فقدم إليهم عجلا سمينا مشويا، كما في سورة هود:{فَما لَبِثَ أَنْ جاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ}
(69)
أي مشوي على الرّضف (الحجارة المحماة). وبعد أن أدناه منهم ووضعه بين أيديهم دعاهم بتلطف وأدب، وعرض حسن قائلا مستحثا:{أَلا تَأْكُلُونَ} ؟ وقد انتظمت الآية آداب الضيافة، فإنه جاء بطعام من حيث لا يشعرون بسرعة، دون سابق عرض، لأن إبراهيم عليه السلام كان جوادا كريما، وأتى بأفضل ماله، وهو عجل فتيّ سمين مشوي، لأن جلّ ماله كان البقر، ووضعه بين أيديهم، ودعاهم على سبيل التلطف في العرض قائلا: ألا تأكلون؟ فأعرضوا، لأن الملائكة لا يأكلون ولا يشربون:
{فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً} أي فلما أعرضوا عن الطعام ولم يأكلوا، أحسّ في نفسه خوفا منهم، على عادة الناس أن الامتناع عن الطعام لشرّ مبيت، وأن من أكل من طعام إنسان، صار آمنا منه، فظن إبراهيم عليه السلام أنهم جاؤوا للشر، ولم يأتوا للخير، كما في سورة هود:{فَلَمّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ، وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً} (70).
{قالُوا: لا تَخَفْ، وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ} أي قالت الملائكة لإبراهيم: إننا ملائكة رسل من الله تعالى، كما في آية أخرى:{قالُوا: لا تَخَفْ، إِنّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ} [هود 70/ 11].
وبشروه
(1)
بغلام يولد له، كثير العلم بعد البلوغ، وهو إسحاق عليه السلام، كما قال تعالى:{فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ، وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ} [هود 71/ 11] وتضمنت البشارة شيئين مفرحين، هما كونه غلاما ذكرا، وكونه عالما، والعلم أكمل الصفات.
(1)
وفي سورة الصافات: وَبَشَّرْناهُ أي بواسطة الملائكة.
{فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ، فَصَكَّتْ وَجْهَها، وَقالَتْ: عَجُوزٌ عَقِيمٌ} أي فلما سمعت امرأته سارّة بشارتهم، وكانت في ناحية من البيت تسمع كلامهم، أقدمت صائحة صارخة، وضربت بيدها على وجهها، كما هي عادة النساء عند التعجب، وقالت: كيف ألد، وأنا كبيرة السن، وعقيم لا تلد، حتى في عهد شبابها، كما جاء في آية أخرى:{قالَتْ: يا وَيْلَتى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ، وَهذا بَعْلِي شَيْخاً، إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ} [هود 72/ 11].
{قالُوا: كَذلِكَ قالَ رَبُّكِ: إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ} أي كما قلنا لك وأخبرناك قال ربّك، فلا تشكّي في ذلك، ولا تعجبي منه، فنحن رسل الله، والله على كل شيء قدير، وهو الحكيم في أقواله وأفعاله، العليم بما تستحقونه من الكرامة وبكل شيء في الكون، كما جاء في آية أخرى:{قالُوا: أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللهِ، رَحْمَتُ اللهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ، إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ} [هود 72/ 11].
وهذه المفاوضة لم تكن مع سارّة فقط، بل كانت مع إبراهيم أيضا، حسبما تقدم في سورة الحجر (53 - 54) وإنما لم يذكر هنا اكتفاء بما ذكر هناك، كما أنه لم يذكر هناك اكتفاء بما ذكر هنا وفي سورة هود (72).
ويكون استبعادها الولد لسببين: كبر السن، والعقم، فكأنها قالت:
يا ليتكم دعوتم دعاء قريبا من الإجابة، ظنا منها أن ذلك منهم، مثلما يصدر من الضيف من مجاملات الأدعية، كقوله: الله يعطيك مالا ويرزقك ولدا، فقالوا: هذا منا ليس بدعاء، وإنما ذلك قول الله تعالى:{قالُوا: كَذلِكَ، قالَ رَبُّكِ} ثم دفعوا استبعادها بقولهم: {إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ}
(1)
.
والسبب في اختلاف تذييل الآيتين حيث قال هنا: {الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ} وفي هود قال: {حَمِيدٌ مَجِيدٌ} : أنهم في سورة هود نبهوها إلى القيام بشكر نعم الله،
(1)
تفسير الرازي: 215/ 28
فناسب قولهم: {حَمِيدٌ مَجِيدٌ} لأن الحميد: هو الذي يستحق الحمد والشكر لصدور الأفعال الحسنة منه، والمجيد: الممجد الذي يستحق الحمد بنفسه وبمجده.
وأما هنا فأرادوا التنبيه إلى الحكمة العامة من الولادة في الكبر وبعد العقم طوال الحياة. وهي الدلالة على حكمته وعلمه، فهو حكيم في فعله يضع الأمور في نصابها، عليم بشؤون خلقه
(1)
.
وبعد بشارة الملائكة إبراهيم عليه السلام بالغلام، سألهم عن شأنهم وسبب مجيئهم:
{قالَ: فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ} أي فما شأنكم الخطير، وفيم جئتم، وما قصتكم المثيرة، وما سبب إرسالكم من جهة الله؟ فأجابوه:
{قالُوا: إِنّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ، لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ طِينٍ، مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ} أي قالت الملائكة رسل العذاب ورسل البشرى:
إنا بعثنا إلى قوم لوط الذين أجرموا بالكفر وارتكاب الفواحش، لنرجمهم بحجارة من طين متحجر، مطبوخ بالنار، كالآجرّ، معلمة بعلامات تعرف بها، مخصصة عند الله لهلاك المتمادين في الضلالة، المجاوزين الحد في الفجور.
ثم أخبر الله تعالى عن أن هذا العذاب ليس عشوائيا يصيب الصالح والطالح، وإنما فيه تمييز المؤمنين عن المجرمين، فقال:
{فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} أي لما أردنا إهلاك قوم لوط، أخرجنا من كان في تلك القرى من قومه المؤمنين به، تنجية لهم من العذاب، فلم نجد غير أهل بيت واحد أسلم وجهه لله، وانقاد لأوامره، واجتنب نواهيه، وهو بيت لوط بن هاران-أخي إبراهيم-بن تارح، أي كان لوط ابن أخ إبراهيم الخليل عليهما السلام، آمن
(1)
المرجع والمكان السابق.
بعمّه، وتبعه في رحلاته إلى مصر، ثم تركه عن تراض، ونزل إلى سدوم في الأردن.
وكان أولئك المؤمنون هم لوط وأهل بيته إلا امرأته، قال سعيد بن جبير:
كانوا ثلاثة عشر.
ونحو الآية: {قالَ: إِنَّ فِيها لُوطاً، قالُوا: نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها، لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ} [العنكبوت 32/ 29].
وقد احتج بهذه الآية المعتزلة الذين لا يفرقون بين مسمى الإيمان والإسلام، لأنه أطلق عليهم المؤمنين والمسلمين. قال ابن كثير: وهذا الاستدلال ضعيف، لأن هؤلاء كانوا قوما مؤمنين ومسلمين، وعندنا أن كل مؤمن مسلم ولا ينعكس، فاتفق الاسمان هاهنا، لخصوصية الحال، ولا يلزم ذلك في كل حال.
والدليل على التفرقة بين الإسلام والإيمان الآية السابقة: {قالَتِ الْأَعْرابُ: آمَنّا، قُلْ: لَمْ تُؤْمِنُوا، وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا} [الحجرات 14/ 49]
ثم أورد الله تعالى العبرة من قصة قوم لوط، فقال:
{وَتَرَكْنا فِيها آيَةً لِلَّذِينَ يَخافُونَ الْعَذابَ الْأَلِيمَ} أي وأبقينا في تلك القرى علامة ودلالة لكل من يخاف عذاب الله ويخشاه وهم المؤمنون، وهي آثار العذاب المدمر المؤلم، فإنها ظاهرة مبيّنة، جعلناها عبرة بما أنزلنا بهم من العذاب والنكال