الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
دكتور
حسن إسماعيل عبد الرازق
من قضايا البلاغة والنقد عند عبد القادر الجرجاني
[مقدمة]
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمد النبي الأمي، وعلى آله وأصحابه والتابعين: وبعد:
فقد جارت أقلام كثيرة بالشكوى من منهج المتأخرين لدراسة البلاغة، لأنهم اعتمدوا في فهمهم لها على التلخيصات والشروح والتقريرات التي من شأنها أن تفرق الأفهام في بحار الخلافات التي لا طائل تحتها، وأن ترس بالعقول في متاهات المناقشات الجدلية التي لا تجدي في توعية الذوق البلاغي، ولا في تنمية الإحساس بجمال الأساليب العربية الأصيلة، ولا في التفريق بين أنماط التعبير بها.
واشتطت أقلام أخرى فاتخذت من جفاف منهج المتأخرين ذريعة للنيل من اللغة العربية، فنادت بوجوب التخلي عن بذل الجهد، وتضييع الوقت في التعرف على البلاغة العربية التي أصبحت - في نظرهم - لا تواكب العصر.
وجدت أقلام مخلصة في الرد على هؤلاء وأولئك، واصمة هؤلاء بالمكر والخبث وسوء القصد، وناعته أولئك بالجهل وضحالة الثقافة وسطحية التفكير، ومناديه - في الوقت نفسه - بوجوب
العودة إلى منهج القدماء - وبخاصة عبد القاهر الجرجاني - دراسة البلاغة.
وهذه الدراسة - وأن كانت تقدر لهذا الرأي جديته الفكرية - ألا أنها - في الوقت نفسه - لا تغمط المتأخرين حقهم من الإجلال، والتقدير، لما أفنوا فيه أعمارهم من محاولة الغوص إلى أعماق اللسان العربي، لاستخراج ما فيه من درر الفكر، وجواهر التعبير وأن أخطأ الكثيرون منهم مقاصدهم، ولم يتبينوا سبيلهم فما عرفوا وجه الحق فيما اختلفوا فيه، ولا تبين لهم الخيط الأبيض من الخيط الأسود!
على أن منهج القدماء إنما هو منهج الباحث المتخصص، ومنهج المتأخرين هو منهج الدارس المبتدئ إذا استثنينا منه ما يحتويه من خلافات لا تفيد في الوقوف على أسرار التراكيب ولا تجدي في تذوق جمال الأساليب.
بيد أن منهج المتأخرين منهج"ناقص" مبتور، لأنه عدم الصلة بينه وبين المنابع الأصلية التي أستقى منها أفكاره، فشكل بها أبوابه ونوع فصوله، وفرع مسائله وأبرز قضاياه! .
وغني عن البيان أن تراث عبد القاهر الجرجاني كان أهم المنابع التي أستقى منها المتأخرون بلاغتهم، كالرازي، والسكاكي والخطيب القزويني، وأهل طبقتهم، ولكنهم لم يبينوا لنا كيف أخذوا من عبد القاهر، ولا كيف كان تصوره للبلاغة وأنما اخذوا أفكاره
دون أن يتبينوا نظريته التي نشأت عنها هذه الأفكار، وهي نظرية النظم التي فرعوا منها مسائل علم المعاني.
وهذه الدراسة التي نقدمها بين يديك الآن: تبين لك كل هذا فتوضح كيف أخذ المتأخرون عن عبد القاهر الجرجاني"علم المعاني" وكيف كان تصوره للبلاغة والفرق بين تصورهم، وتصوره لها، فهي، أذن - تزجى إليك ما فرط فيه المتأخرون، وتبين لك ما أغفلوا تبيينه وتعقد الصلة بين منهجهم وبين منابعهم الحقيقية من تراث عبد القاهر الجرجاني.
على أن سبيل الكتابة عن البلاغة في فكر عبد القاهر الجرجاني مخالف لسبيلها عند المتأخرين ممن لم يهتموا بدراسة تراثه البلاغي إلا من حيث استخراج القاعدة البلاغية، والتبويب العلمي، والتقسيم المنطقي لأنهم بذلك قد أهملوا الظروف الفكرية، والعقلية التي صنف فيهما كتابيه "أسرار البلاغة" و"دلائل الإعجاز" وحاولوا قياس فكره بفكرهم، ووزن عقليته النادرة بعقليتهم، فحادوا بذلك عن جادة الطريق! وما مثلهم في هذا الذي تكلفوه، من محاولة فرض مقاييسهم البلاغية وتحكيم عقليتهم العلمية في ما أثمرته عقليته النادرة، وما أنتجته قريحته الفياضة إلا مثل من يضع العربة أمام الحصان - أن صح هذا التعبير - على أن الباحث الذي يريد أن يتصدى لدراسة الفكر البلاغي في كتابي عبد القاهر الجرجاني: دلائل الإعجاز وأسرار البلاغة يحتاج - أولاً وقبل كل شيء - لكي يفهم مقاصد،
ومراميه من عباراته وإيماءاتها، أن يراعي أموراً ثلاثة على قدر كبير من الأهمية:
الأمر الأول: دراسة البذور النقدية، والأفكار الأدبية - والاتجاهات الفكرية التي كان لها في تكوين عقلية عبد القادر وإثراء فكرة البلاغي آثار جعلته فارس حلبة البلاغة والنقد الأدبي، وذلك بتتبعها في كتابيه وإرجاع كل فكرة إلى مظانها من كتب الأقدمين.
والأمر الثاني: هو دراسة تطور الأفكار البلاغية في ذهن عبد القاهر بحيث يتتبع المراحل الزمنية لهذه الأفكار في كتابيه - من مقتبل حياته حتى أخريات أيامه، ويستتبع هذا الأمر، دراسة أسبقية أحد الكتابين على الآخر، لأن عبد القاهر لم يصرح بأسبقية أحدهما، وان كانت دراسة تطور الأفكار البلاغية في ذهن عبد القاهر ستؤدي بالباحث إلى معرفة أيهما أسبق في التأليف.
ومن أمثلة هذه الدراسة: ما لاحظه الدكتور محمد أبو موسى من أن عبد القاهر قد تطور بتعريف الاستعارة في كتابيه فعرفها بعدة تعريفات، بادئاً في أولهما في أول الأسرار ومنهياً بآخرها في نهايته وأن هذا التعريف الأخير هو الذي تجده في أول الدلائل (1) ثم علق على هذا بقوله" " وربما كان هذا الترقي في تحديد الفكرة على هذا النحو في الكتابين أعني ذكر الاستعارة في صدر أسرار البلاغة
(1) التصوير البياني صـ 181، صـ 182، صـ 183
بهذا التحديد الشامل للمجاز، تم تحديدها في نهاية الكتاب ثم عرضها محددة في صدر الدلائل مما يغري بالقول بأن كتاب دلائل الإعجاز كتب بعد أسرار البلاغة."
وما ذكره - أيضاً - في تعليق له على قول عبد القاهر في أول الأسرار" وفي ثبوت هذا الأصل ما تعلم به أن المعنى الذي كانت له هذه الكلم بيت شعر، أو فصل خطاب، هو ترتيبها على طريقة معلومة وحصولها على صورة من التأليف مخصوصة، وهذا الحكم أعني الاختصاص في الترتيب مرتباً على المعاني المرتبة في النفس المنتظمة على قضية العقل، ولن يتصور في الألفاظ وجوب تقديم وتأخير، وتخصص في ترتيب وتنزيل، وعلى ذلك وضعت المراتب والمنازل في الجمل المركبة وأقسام الكلام المدونة، فقيل: من حق هذا أن يسبق ذلك، ومن حكم ما ههنا أن يقع هنالك، كما قيد في المبتدأ والخبر والمفعول والفاعل حتى حظر في جنس من الكلام بعينه أن يقع إلا سابقاً وفي آخر أن يوجد ألا مبنياً على غيره وبه لاحقاً، كقولنا: أن الاستفهام له الكلام، وأن الصفة لا تتقدم على الموصوف إلا أن تزال عن الوصفية لغيرها من الأحكام"
يقول الدكتور محمد أبو موسى" وهذا الكلام شيء كبير وعلينا أن نلاحظ أن الشيخ قذف بهذه الحقيقة في أول كتاب أسرار البلاغة الذي يظن أنه كتبه قبل دلائل الإعجاز، وبهذا يكون ذلك تقديماً لدراسته في الكتابين وتصوراً قائماً في نفسه وهو يبدأ تجربته في دراسة أحوال الكلام وخصائصه ومراجع مزاياه، وهذا يشير
إلى طبيعة النظر في هذا الحقل، ويوجه قارئ عبد القاهر من أول الطريق إلى تطلب أشياء وراء الذي يقول ثم أنه في هذا النص يقودنا إلى مسالك في البحث اللغوي يكون فيها أشبه بالبحث في الجنس والمزاج والأحوال النفسية والروحية، وهذا يجعل خصائص تراكيب لغوية، لأنه كما يقول:
لا يتصور في الألفاظ وجوب تقديم وتأخير، وتخصيص في ترتيب وتنزيل، وإنما هي خصائص أفكار وخواطر يتصور فيها وجوب ترتيب".
ثم يقول: "وهذا بين إلى أي مدى عجز المخالفون عن تمثل هذا الدرس بطريقته التي أرشد إليها هذا الشيخ منذ ثمانية قرون وأن هذا الذي نقدمه ليس إلا قشوراً بجانب اللباب الذي ينتظر نقاباً نابهاً يبحث عنه. (1)
وهكذا تنبه الدكتور محمد أبو موسى إلى أن عبد القاهر إنما وضع أرضية قوية بالغة الأهمية لدراسة كتابيه، وهو يبدأ تجربته في دراسة البلاغة إذ بها يستطيع قارئ عبد القاهر أن يتفهم ما يريد، من بين كلماته، ويلمح ما يوحي إليه من خلال عباراته ويصل إلى الغاية التي يتطلبها، والطلبة التي ينشدها، فلا يحيد عن جادة الطريق التي رسمها، ولا يضل ضلال أولئك الذين عجزوا عن تمثل هذا الدرس بطريقته التي لأرشد إليهما عبد القاهر منذ ثمانية قرون!
(1) خصائص التراكيب صـ 4، صـ 5
وتسوق إليك ما تلاحظه هذه الدراسة من أن عبد القاهر يتحدث عن التمثيل في "الأسرار" ويدخل فيه الأمثال كقولهم:
"أخذ القوس بإربها" وقولهم" ومازال يفتل له في الذروة والغارب حتى بلغ منه ما أراد"(1) ولكنه يعدل عن هذه التسمية في الدلائل، ويسمى هذا النمط من القول" تمثيلاً - على حد الاستعارة" بعد أن أدرك أن المثل من قبيل المجاز.
كما أنه لم يورد الكتابة" ذكراً في "الأسرار" مع أنها أحد أعمدة البيان، ويقول في مقدمته" وأول ذلك وأولاه وأحقه بأن يستزفيه النظر ويتقصاه: القول على التشبيه والتمثيل (يقصد التشبيه التمثيلي) والاستعارة، فإن هذه أصول كثيرة كأن جل محاسن الكلام - أن لم نقل كلها - متفرعة "عنها وراجمة إليها" وكأنها أقطاب" تدور عليها المعاني في متصرفاتها، وأقطار" تحيط بها من جهاتها (2).
ولكنه يعدل عن هذا التصور في الدلائل فيقول - في فصل (في اللفظ يطلق والمراد بغير ظاهره): " وأعلم أن لهذا الضرب أتساعاً وتفنناً لا إلى غاية، إلا أنه على أتساعه يدور في الأمر الأعم على شيئين: الكتابة، والمجاز"ثم يقول" وأما المجاز
(1) راجع أسرار البلاغة من صـ 77 إلى صـ 80 (طبعة صبيح)
(2)
الأسرار صـ 18 (طبعة صبيح) ..
فقد عول الناس في حده على النقل، وأن كل لفظ نقل عن موضوعه فهو مجاز، والكلام في ذلك يطول وقد ذكرت ما هو الصحيح من ذلك في موضع آخر (يقصد أسرار البلاغة) وأنا نقتصر ههنا على ذكر ما هو أشهر منه واظهر، والاسم والأشهر فيه لشيئين: الاستعارة، والتمثيل، وإنما يكون التمثيل مجازاً إذا جاء على حد الاستعارة" (1)
وفي هذا الذي قال عبد القاهر من الأهمية بمكان.
فقد ألف عبد القاهر" أسرار البلاغة" في مرحلة فكرية مبكرة من حياته، ولهذا فإن بعض أفكاره البلاغية لم تكن ناضجة موجهاً في الدلائل، ولهذا فإنه قد ذكر - في الأسرار - أن ما هو أحق باسم التمثيل: ما كان منتزعاً من هيئات مركبة، ومثل له بأمثلة جمع فيها بين ما كان تشبيهاً فقط، وبين ما كان استعارة دون أن يتنبه إلى هذا الخلط، ولكنه عندما نضجت أفكاره البلاغية وضحت له الرؤية، وتميزت لديه أنماط التعبير، ووصل إلى مرحلة فكرية متأخرة من حياته - وهو يكتب الدلائل - أدرك أن من التمثيل أن يكون تمثيلاً فقط، ومنه ما يكون تمثيلاً على حد الاستعارة، وتنوع لتمثيل أمام ناظريه إلى هذين النوعين، وقد سمى المتأخرون النوع الأول تشبيهاً تمثيلياً، والنوع الآخر استعارة تمثيلية.
(1) تا الدلائل صـ 44، صـ 45
ولأن عبد القاهر وهو يكتب الأسرار كان في مرحلة فكرية مبكرة من حياته فإنه لم يكن وقتها على ذكر من أن الكتابة هي أحد أعمدة البيان، لأن فكرته عن نظرية البيان إنما استلهمها من كتاب" نقد الشعر" لقدامة، (1) وعبد القاهر - وهو يكتب الأسرار - لم يكن قد أطلع على كتاب "نقد الشعر" لقدامه، لأنه في تلك المرحلة المبكرة من حياته لم يكن قد أتيح له الحصول على ما كان يريد قراءته من كتب، وقد أجمع المؤرخون على أنه قد أقام بجرجان ولم يبرحها، (2) فربما كانت الظروف السياسية التي كانت سائدة في تلك الفترة قد حالت بينه وبين أن يقصد بغداد بحثاً عن كتاب قدامه وقد كان العصر الذي عاش فيه عبد القاهر عصر حروب ومغامرات بين طلاب الملك والسلطان في الرقعة الواسعة التي كانت الدولة العباسية تحكمها، وتاريخ تلك الفترة مصبوغ بالدماء - كما يقولون - فلعله آثر الحياة الهادئة في ظلال العلم فعكف عليها وأخلص لها (3)
وربما كان السبب في عدم استطاعته الحصول على كتاب نقد الشعر في مقتبل عمره، هو ضيق ذات اليد، فقد كان عبد القاهر مقتراً عليه في الرزق ولم يكن يحيا حياة سعيدة، وما خلفه لنا من شعر ينبض بالسخط على حظ العلماء في هذه الحياة. (4)
(1) راجع نظرية البيان بين عبد القاهر والمتأخرين للمؤلف من صـ 52.
(2)
أنباء الرواة جـ 2 صـ 189.
(3)
عبد القاهر الجرجاني للدكتور أحمد بدوي صـ 19 صـ 20 (أعلام العرب).
(4)
شذرات الذهب جـ 3 صـ 340 وابن مكتوم صـ 112 وطبقات الشافعية جـ 3 صـ 242 وبغية الرعاة صـ 113 وفوات الوفيات جـ 1 صـ 259.
ولسنا ندري مورد رزق عبد القاهر، فلعله هبات بعض الأثرياء الذين أهدى إليهم كتبه، (1) ولعله لم يستطع أن يحصل على كتاب قدامه إلا في فترة متأخرة بعد أن استقرت الحياة السياسية التي كانت مضطربة، وبعد أن أهدى إلى بعض الأثرياء بعض كتبه، ولعله هو نظام الملك أبو الحسن بن علي وزير السلاجقة، إذ ليس بين أيدينا شعر "مدح به أحداً سوى هذا الوزير الذي أسس المدرسة النظامية ببغداد سنة تسع وخمسين وأربعمائة. (2) وأزال لعن الأشعرية من المنابر وقد كان عبد القاهر أشعرياً، ولعل نظام الملك قد أنعم عليه فأهداه بعض الكتب التي كانت ببغداد، وكان من بينها كتاب "نقد الشعر" لقدامه بن جعفر، إذ كان نظام الملك مجا للعلماء، مقدراً لمكانتهم. (3)
ولهذا فإنه من المرجح أن يكون حصول عبد القاهر على كتاب نقد الشعر، ومن ثم بداية تأليفه "الدلائل" قد كانت بعد سنة 459 هـ لأنه الوقت الذي هيئت له فيه الظروف للاطلاع على ما فيه من قضايا بلاغية ونقدية كان لها أثرها في تكوين فكرته عن نظرية البيان التي لاحت عند قدامه متمثلة في الإرداف (أي الكتابة)
(1) عبد القاهر الجرجاني د/ احمد بدري صـ 9 وأنباه الرواة صـ 190.
(2)
وفيات الأعيان جـ 1 صـ 143 وتاريخ الأمم الإسلامية صـ 426 ..
(3)
تاريخ الأمم الإسلامية (الدولة العباسية) صـ 428.
والتمثيل (أي الاستعارة التمثيلية)، فالتقطها عبد القاهر، وصاغ منها نظرية البيان التي لخصها في عبارته الوجيزة الشهيرة (المعنى ومعنى المعنى) ومعنى ذلك: أن عبد القاهر قد ألف كتابه "دلائل الإعجاز" في العقد السابع من حياته، وهي مرحلة متأخرة من عمره الذي أمتد إلى سنة 471 هـ.
وهذا التوقيت موافق لقوله في "دلائل الإعجاز" هذه مسألة كنت قد عملتها قديماً، وقد كتبتها ههنا، لأن لها اتصالاً بهذا الذي صار بنا القول إليه: قوله تعالى: " إنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ" أي لمن كان أعمل قلبه فيما خلق القلب له من التدبر والتفكر والنظر فيما ينبغي أن ينظر فيه." (1)
فإذا ما تصفحنا "أسرار البلاغة" وجدنا هذه المسألة ذاتها، إذ يقول "ومثل من توقف في التفات هذه الأسامي إلى معانيها الأولى وظن أنها مقطوعة" عنها قطعاً يرفع الصلة بينها وبين ما جازت إليه، مثل من نظر في قوله تعالى:(إنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ) فرأى أن المعنى على الفهم والعقل، أخذه ساذجاً، وقبله غفلاً، وقال: القلب ههنا بمعنى العقل، وترك أن يأخذه من جهته، ويدخل إلى المعنى من طريق المثل، فيقول: أنه حين لم ينتفع بقلبه ولم يفهم بعد أن كان القلب للفهم جمل كأنه عدم القلب جملة وخلع من صدره خلعاً كما جعل الذي لا يعي الحكمة ولا يعمل الفكر فيما تدركه
(1) دلائل الإعجاز صـ 198 ..
عينه وتسمعه أذنه كأنه عادم للسمع والبصر، وداخل في العمى والصم، ويذهب عن أن الرجل إذا قال: قد غاب عني قلبي وليس يحضر لي قلبي فإنه يريد أن يخيل إلى السامع أنه قد فقد قلبه دون أن يقول: غاب عني علمي وعزب عقلي، وأن كان المرجع عند التحصيل إلى ذلك، كما أنه إذا قال: لم أكن ههنا: يريد شدة غفلته عن الشيء فهو يضع كلامه على تخييل أنه كان غاب هكذا بجملته وبذاته دون أن يريد الرجل الأخبار بأن علمه لم يكن هناك". (1)
فقوله: (كنت قد عملتها قديماً) أشارة واضحة إلى قدم عهده بتأليف الأسرار الذي من المرجح أن يكون قد ألفه في مقتبل حياته الفكرية، وبداية عهده بالتأليف في البلاغة، في الوقت الذي لم تمكنه الظروف الاجتماعية والسياسية والاقتصادية من الحصول على كتاب نقد الشعر لقدامه، للاطلاع على ما فيه من أفكار نقدية بلاغية، فجاء كتابه "الأسرار" - وهو الذي يبحث فيه موضوعات البيان - خالياً من الكتابة، ومن الاستعارة التمثيلية - وهما الموضوعان اللذان بنى عليهما عبد القاهر نظرية البيان في "دلائل الإعجاز".
وقريب من هذا الذي تراه: ما لاحظه الدكتور غنيمي هلال (2) من أن عبد القاهر - وهو يكتب الأسرار - لم تكن قد نضجت عنده بصفة حاسمة نظرية النظم، إذ رأى عبد القاهر - في الأسرار - يقسم الكلام إلى
(1) أسرار البلاغة صـ 290 (طبعة صبيح) ..
(2)
النقد الأدبي الحديث صـ 281 ..
ما هو شريف في جوهره، وما هو شريف بصنعته (1) ولكنه في نظرية النظم - وهو يكتب الدلائل - قد أولى الصورة الأدبية كل حصن ولم يعتد بالكلام الذي لا يتآزر لتتم هذه الصورة، وقسم الكلام إلى حسن للنظم ومعناه، وحسن لنظمه. (2)
فإذا ما أضفنا إلى هذا إلى هذا أن عبارة "توخي معاني النحو فيما بين الكلم" - وهي الصيغة التي ارتضاها عبد القاهر ترجمة أمينة لنظرية النظم - لم ترد أصلاً في الأسرار علمنا بأن هذه الصيغة لم يكن قد توصل إليها وهو يكتب الأسرار.
هذه الدراسة شيقة ممتعة حقاً، لأنها تفتح لنا آفاقاً جديدة لدراسة التراث البلاغي والنقدي لعبد القاهر الجرجاني، وتتيح لنا الاستمتاع برؤية حقيقية لأفكاره، وآرائه واتجاهاته، وتهيئ لنا الجو الصحي الذي تفهم فيه عباراته فهماً طبيعياً، لا فهماً متكلفاً، ونرى فيه معالم نظرياته الأدبية والنقدية عن كثب، دون أن تحجبها عن عقولنا دياجير الغيب، وأستار الإهمال!
والأمر الثالث: هو دراسة التصور العام للبلاغة في ذهن عبد القاهر والأطر العامة التي تصورها ممثلة لخصائص النظم، وصور البيان وقيم الجمال.
(1) أسرار البلاغة صـ 19، صـ 20.
(2)
دلائل الإعجاز صـ 77 إلى صـ 79. .
وهذه الدراسة التي نقدمها بين يديك الآن تجمع بين هذه الأمور الثلاثة، فهي لم تأل جهداً في تتبع البذور النقدية التي كان لها شأن في إلهام عبد القاهر أسس نظرية النظم وإرجاعها إلى مظانها من تراث سابقيه.
ثم أنها قد تتبعت أفكاره البلاغية والنقدية عن هذه النظرية وتطورت معها من بداية عهده بالتأليف في البلاغة حتى نهاية اكتمالها في عقله وفكره، ومن ثم بداية تطبيقها تطبيقاً عملياً على التراكيب العربية. كما أنها قد حاولت ما وسعتها المحاولة إبراز الصورة الحقيقية التي كان عبد القاهر يتمثلها للبلاغة في عقله وفكره ومن ثم مقارنتها بما صنعه المتأخرون بهذه النظرية إذ صاغوها في تعريفات ثلاثة لعلوم: المعاني، والبيان والبديع.
على أن هذه المحاولة إنما هي ثمرة جهود أساتذتنا الإجلاء، الذين بثوا في أرواحنا من عزائمهم الصادقة ما جعلنا نستمسك بتراثنا العربي في البلاغة والنقد، لكي نستقي من منابعها الأصلية الصحيحة فنروي ظمأ عقولنا، ونطفئ غلة نفوسنا.
وأرجوا من الله تعالى أن يوفقني لما إليه قصدت، وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب."
حسن إسماعيل عبد الرازق
الزيتون في يوم الجمعة غرة صفر سنة 1402 هـ
الموافق 27/ 11/1981.