الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
((البديع))
قال صاحب اللسان: بدع الشيء يبدعه بدعاً بدعاً وابتدعه: أنشأه وبدأه .. والبدعة: الحدث وما ابتدع من الدفن بعد الإكمال، وقال أبو عدنان: المبتدع: الذي يأتي أمراً على شبه لم يكن ابتدأه إياه، وفلان بدع في هذا الأمر: أي أول، لم يسبقه أحد، ويقال: ما هو مني ببدع، وبديع، قال الاحوص:
فخرت، فانتمت، فقلت: انظريني
…
ليس جهل أتيته ببديع
والبديع: الحدث العجيب، والبديع: المبدع، وأبدعت الشيء: اخترعته لا على مثال، والبديع: من أسماء الله تعالى لإبداعه الأشياء وأحداثه إياها، والله تعالى - كما قال سبحانه - "بديع السموات والأرض".
لا يقدر الحمس على جبابه إلا بطول السير وانجذابه
وترك ما أبدع من ركابه
وفي الحديث: أرجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم)
فقال: يا رسول الله: إني أبدع بي فاحملني، أي انقطع بي لكلال راحلتي .. كأنه قد جعل انقطاعها عما كانت مستمرة عليها من عادة السير إبداعاً، أي إنشاء أمر خارج عما اعتيد منها" (1).
وبعد: فقد رأيت أن كلمة البديع في اللغة العربية قد دارت حول معنى واحد هو: الجديد والمحدث، والمخترع.
ومن هنا تستطيع أن تعرف سر تسمية هذا العلم الذي عرفه المتأخرون بأنه علم "يعرف به وجوه تحسين الكلام بعد رماية تطبيقه على مقتضى الحال، ووضوح الدلالة على المعنى المراد (2).
كما أنه يمكنك أيضاً - أن تضع يديك على نقطة البداية التي منها عرف "البديع" طريقه إلى أن يكون موضع قبول واستحسان، أو رد واسترذال حتى صنفت في فنونه كتب الأدب والنقد، ومن بعدها كتب البلاغة فحسب، حتى صار علماً إله خصائصه ومميزاته:
ولم يكن هذا المصطلح معروفاً في العصر الجاهلي، أو في صدر الإسلام، وإنما كان وليد فترة أغرم فيها المحدثون بتتبع فنون البديع في الشعر العربي والنسج على منوالها، فأكثروا من هذه الفنون في أشعارهم حتى سموها باسم (البديع)، وذلك في القرنين الثاني والثالث الهجريين.
(1) لسان العرب: مادة (بدع).
(2)
الإيضاح للخطيب القزويني صـ 243.
وكان إكثار الشعراء في هذه الفترة من ألوان البديع، وتفننهم في تزيين أشعارهم بها مدعاة لأبي عثمان عمرو بن بحر الجاحظ أن يقول:"والبديع مقصور على العرب، ومن أجله فاقت لغتهم كل لغة، وأريت على كل لسان (1) ".
على أن العرب لم تكن تفاضل بين الشعراء على أساس من (البديع) وإنما كانت تفاضل بين الشعراء في الجودة والحسن - كما يقول القاضي الجرجاني - بشرف المعنى وصحته - وجزالة اللفظ واستقامته.
وتسلم السبق فيه لمن وصف فأصاب، وشبه فقارب، وبده فأغرز، ولمن كثرت سوائر أمثاله، وشوارد أبياته ولم تكن تعبأ بالتجنيس، والمطابقة ولا تحفل بالإبداع (الإتيان بالبديع) والاستعارة، إذا حصل لها عمود الشعر، ونظام القريض، وقد كان يقع ذلك في خلال قصائدها، ويتفق لها في البيت بعد البيت على غير تعمد وقصد، فلما أفضى الشعر إلى المحدثين، ورأوا مواقع تلك الأبيات من الغرابة والحسن، وتميزها عن أخواتها، في الرشاقة واللطف، تكلفوا الاحتذاء عليها، فسموه البديع، فمن محسن ومسيء، ومحمود ومذموم، ومتقصد ومشرط (2).
وعبارة القاضي الجرجاني هذه، على جانب كبير من الأهمية في مجال التاريخ للبديع، فقد ربطت بين المعنى اللغوي الذي أوردناه لكلمة
(1) البيان والتبين جـ 4، صـ 55.
(2)
الوساطة صـ 34.
(البديع)، وهو الجديد والمحدث والمخترع، وبين المعنى الذي قصده العلماء الذين كان لهم قصب السبق في التأليف في ميدانه.
فلم تكن العرب تعرف هذه التسمية لوجوه تحسين الكلام، لا في العصر الجاهلي، ولا في عصر صدر الإسلام، بل أنها لم تكن تحفل بالبديع ولا تهتم به، لأن أساس المفاضلة بين الشعراء لم يكن باستعمال البديع وإنما كان بحسن الإصابة في الوصف، والمقاربة في التشبيه، وغزارة البديهة، وكثرة الأمثال السائرة، ولكن المحدثين من أمثال بشار بن برد، ومسلم بن الوليد، وأبي نواس هم الذين جروا وراء الأبيات التي كانت تحمل ألواناً من ألوان البديع، وتكلفوا شعراً على منوالها، وسموه بهذا الاسم.
وفي النصف الثاني من القرن الثالث الهجري: عنيت طائفة المتفلسفة بشؤون البلاغة، متأثرة بكثرة ما نقل عن اليونان من فلسفة، مما جعل الكثيرين منهم يتخذون معايير البلاغة اليونانية أساساً في تقويم الشعر العربي، ولكن البحتري قد جأر بالشكور منهم قائلاً:
كلفتمونا حدود منطقكم
…
والشعر يغني عن صدقه كذبه
لم يكن ذو القروح يلهج بالمنطق، ما نوعه، وما سببه!
وناصر البحتري أصحاب البلاغة العربية الخالصة، ومضى يقول الشعر متبعاً خطى الأقدمين، ومتأثر في الوقت نفسه - بطريقة أبي تمام، وهي الطريقة التي كانت تحفى بمحسنات البديع، والفلسفة
والفكر العميق، ولكنه لم يستسغ إغراق الشعر في الفلسفة، أو التعمق في استخراج المعاني، كما كان يصنع أبو تمام، ولم يكن كذلك يكثر من استخدام البديع كما كان يكثر أبو تمام.
وبهذا ظهر البحتري ممثلاً لمذهب القدماء في الشعر، كما ظهر أبو تمام ممثلاً لمذهب المجددين فيه.
وقد تعرض أبو تمام لحملات عنيفة من اللغويين المحافظين، وأصحاب البلاغة العربية الخالصة.
وها هو عبد الله بن المعتز يتجرد - في سنة 274 هـ - للدفاع عن اللغويين، والرد على المتفلسفة، بتأليف كتابه:(البديع) معلناً غايته منذ السطور الأولى من كتابه، وهي: أن يثبت للمحدثين ممن يجرون وراء الفلسفة، ويتكلفون استخدام البديع، أنهم لم يخترعوا البديع الذين يلهجون به، فيقول: "قد قدمنا في أبواب كتابنا هذا بعض ما وجدنا في القرآن واللغة، وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم وسلم - وكلام الصحابة، والإعراب وغيرهم، وأشعار المتقدمين، ، من الكلام الذي سماه المحدثون (البديع) ليعلم أن بشاراً، ومسلماً، وأبا نواس، ومن تقيلهم، وسلك سبيلهم، لم يسبقوا إلى هذا الفن ولكن كنز في أشعارهم، فعرف في زمانهم حتى سمي بهذا الاسم، فأعرب عنه ودل عليه، ثم أن حبيب بن أوس الطائي من بعدهم شغف به حتى غلب عليه، وتفرغ عليه، وأكثر بنيه، فأحسن في بعض ذلك وأساء في بعض،
وتلك عقبى الإفراط، ونمرة الإسراف، وإنما كان يقول الشاعر في هذا الفن: البيت أو البيتين في القصيدة، وربما قرئت من شعر أحدهم قصائد من غير أن يوجد فيها بيت "بديع"، وكان يستحسن ذلك منهم إذا أتى نادراً، ويزداد خطوة بين الكلام المرسل (1).
وعلى هذا فإن أول من وضع هذا الاسم المحسنات الكلام إنما هو عبد الله بن المعتز، بتصنيفه كتاب (البديع)، وهو - وإن لم يقصد بهذه التسمية ما قصده المتأخرون من البلاغيين -كالخطيب القزويني - إذا جعلها شاملة للجديد والمخترع -إلا أنه جعل أنواع البديع خمسة، وهي: الاستعارة، والتجنيس، والمطابقة، ورد الإعجاز على ما تقدمها، والمذهب الكلامي ثم أتبعها بذكر بعض محاسن الكلام والشعر، فعد منها ثلاثة عشر نوعاً.
على أن عبد الله بن المعتز -وإن لم يكن مقصده من كتابه هو وضع المعيار الحقيقي للشاعر في نظمه، أو الأديب في نثره، بل كان مقصده، هو الرد على من يلهجون باستخدام البديع أنه أصيل في اللغة العربية - إلا أنه كان شاعراً حساساً، يعرف ما الفنون البديع من أثر في نفوس السامعين، ولكنه -في الوقت نفسه - كان يعيب الإكثار منها، والإفراط في تتبعها، ويفهم من هذا: أن معيار الجودة عنده: إنما هو بحسن موقع هذه الألوان البديعية موقعها من الكلام، وإنما
(1) البديع لعبد الله بن المعترض (1) طبعة كراتشوفسكي.
يكون ذلك إذا جاءت مناسبة لمكانها من الجملة أو البيت، دون عمد أو قصد من الأديب أو الشاعر.
وإنما كان أصحاب البلاغة العربية الخالصة قد وجدوا في عبد الله بن المعتز مدافعاً عن مذهبهم وطريقتهم، فلقد وجد المتفلسفة ممن يجرون وراء معايير البلاغة اليونانية في قدامه بين جعفر المتوفي سنة 337 هـ مؤيدا لذهبهم ومدافعاً عن طريقتهم: فقد تجرد هو الآخر لتأليف كتابه "نقد الشعر" مبيناً في أول صفحة من كتابه: أنه لم يجد أحداً وضع في نقد الشعر، وتخليص جيده من رديئة كتاباً، وأنه قد وجد الناس يخبطون في ذلك منذ تفقهوا في العلم، وقليلاً ما يصيبون وكأنه بهذا يقول: أن نقد الشعر علم لم يستطع فهمه أحد من قبله، لأنه لا يكفي -في نقد الشعر - أن تورد ألواناً من فنون البديع، مستدلاً على وجودها في الشعر الجاهلي والإسلامي، والقرآن الكريم، والسنة النبوية الشريفة وكلام الصحابة، وإنما النقد الحقيقي للشعر هو: أن تميز جيده من رديئة.
ولهذا فإنه قد ذكر هدفه من تأليف كتابه، وهو: ذكر أسباب الجودة وأحوالها، ليكون ما يوجد من الشعر قد اجتمعت فيه الأوصاف المجمودة كلها، وخلا من الخلا المذمومة بأسرها، يسمى شعراً في غاية الجودة، ربما يوجد بضد هذه الحال يسمى شعراً في غاية الرداءة، وما يجتمع فيه من المحاليين أسباب ينزل له اسم بحسب قرية من الجيد ومن الرديء، أو وقوفه في الوسط الذي يقال لما كان فيه:
صالح، أو متوسط، أو لا جيد، ولا رديء (1).
وفي القرن الرابع الهجري نجد عصر الموازنة بين الشعراء، والتوسط بينهم وبين خصومهم، ومن الكتب التي اهتمت بالبديع في ذلك الفترة: كتاب الوساطة بين المتنبي وخصومه، للقاضي علي بن عبد العزيز الجرجاني المتوفي سنة 392 هـ، وقد سرد القاضي الجرجاني في هذا الكتاب ألوان البديع التي كانت دائرة حتى عصره، وهي: التجنيس، والمطابقة، وجمع الأوصاف، والتقفيه، والترصيع.
غير أن القاضي الجرجاني لم يورد هذه الألوان البديعية لأنه يجعلها من معاييره البلاغية والنقدية في وساطته بين المتنبي وخصومه، وإنما أوردها ليبين أنها من ألوان الصنعة التي أُغرم بها المحدثون، كأبي تمام -فأكثروا منها، فباعدت بينهم وبين طبعهم، فلم يسترسلوا له.
ذلك بأنه - في وساطته - لا يؤلف كتاباً في البديع، فذلك له مجال آخر وتعهد به القاضي الجرجاني، ولا ندري: أو في بعهده أم لا؟ ، فقد قال - بعد أن أورد هذه الفنون -:"ولنا في استيفاء هذا الكلام وتحديد هذه إلا ضرب قول "سنفرد له كتاباً يحتمل استعصاؤه فيه "وإنما ذكر ما ذكر من ألوان البديع توطئه لما يذكره على
(1) نقد الشعر لقدامه ص 16، ص 17 (طبعة الخانجي).
أثره وتدريجاً إلى ما بعده ليكون كالشاهد المقبول قوله، وبمنزلة المسلم أمره.
والدليل على أن القاضي الجرجاني لم يكن يعجب بألوان البديع إعجابه بالاسترسال للطبع: أنه قارن بين أبيات في الغزل لأبي تمام، قد ملأها بألوان البديع والصنعة، من طباق وجناس، واستعارة، وبين أبيات لإعرابي قد استرسل لطبعه، وجرى على سجيته، فلم يحفل بإبداع أو صنعه، ففضل قول الإعرابي على قول أبي تمام.
على أننا نجد بعض الأدباء في القرن الخامس الهجري ينصرف إلى تقنين البلاغة وتفريع ألوان البديع، كأبي هلال العسكري المتوفي سنة 315 في كتابة:(الصناعتين) وابن رشيق القيرواني المتوفي سنة 463 هـ في كتابة و"العمدة في صناعتا لشغر ونقده".
أما أبو هلال فقد استقصى فنون البديع التي سجلها النقاد من قبله: وذكر أن فنون البديع خمسة وثلاثون فناً، وأنه زاد على ما أورده السابقون ستة فنون، والتقى بعبد الله بن المعتز في عشرة فنون هي: الاستعارة، والتطبيق أو الطباق، والتجنيس أو الجناس، والكناية والتعريض، ورد الإعجاز على الصدور، والالتفات، والاعتراض، والرجوع وتجاهل المعارف، والمذهب الكلامي، والتقى بقدامة في اثنى عشر فناً، هي: المقابلة، وصحة التقسمي، وصحة التفسير، والإشارة، والأرداف والتوابع، والغلو، والمبالغة، والعكس والتبديل، والترصيع، والإيغال
والتوشيع، والتكسيل، والتقسيم.
أما الستة التي وضعها فهي: التشطير، والمجاورة، والاستشهاد، والاحتجاج، والمضاعفة، والتطلف، والتطريز.
وتبقى سبعة فنون لم يذكر لها أصلاً ويبدو أنه نقلها من رسالة خاله أبي أحمد السكري "صناعة الشعر"، وتلك الفنون هي السائلة، والتذييل، والاستطراد، وجمع المؤتلف والمختلف، والسلب والإيجاب والاستثناء، والتعطف.
على أن الفنون الستة التي ذكر أنه قد اكتشفها وسماها بأسمائها لم تجد لها مجالاً في ميدان البديع، ومن ثم فإن صنيعه هذا لا يعد اكتشافاً، ولا يرقى إلى درجة الابتكار.
غير أن التطريز -وهو أن يقع في أبيات متوالية من القصيدة كلمات متساوية في الوزن، فيكون فيها كالطراز للثوب كما في قول أحمد بن طاهر:
إذا أبو قاسم جاءت لنا يده
…
لم يحمد الأجودان: البحر والمطر
وإن اضاءت لنا أنوار غرته
…
تضاءل النير: الشمس والمقر!
وإن مضى رأيه أو حد عزمته
…
تأخر الماضيان: السيف والقدر!
من لم يكن حذراً من حد صولته
…
لم يدر المزعجان: الخوف والحذر!
فهو ما يمكن أن نجد له مكاناً بين المحسنات البديعية الأخرى (1).
وأما أصحاب العمدة، فإنه قد تحدث هو الآخر من خلال كتابه عن فنون البديع، وأضاف إليها أربعة، هي:
"الاتساع" و"الاطراد"، و"نفي الشيء بإيجابه" و"التفريغ".
وهكذا تعددت فنون البديع وتفرعت -قبل عبد القاهر الجرجاني - ولم يكن القصد من تنويعها أو تفريعها في الغالب -هو الحكم على النصوص الأدبية بالجودة أو الرداءة - كما هو الحال عند الامدي والقاضي الجرجاني - وإنما كان الغرض هو إظهار مدى ما للمؤلفين من قدرة على اكتشاف الألوان البديعة المتناثرة بين ثنايا النصوص الأدبية - كما هو الحال عند أبي هلال وابن رشيق -.
(1) البلاغة تطور وتاريخ صـ 145.