الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ولعل سر إعجابه بهذا المطلع راجع إلى طرافته وجدته، فقد فاجأ السامع بما لم يكن متوقعاً منه ومن غيره من الشعراء، فقد كان النسيب في قصائد المدح أمراً أجرى عليه العرف، واستساغته النفوس، ولكنه بدأ قصيدته هذه المرة ساخراً من أولئك الشعراء الذين يدعون الحب والصبابة كلما مدحوا أحداً، والسخرية من الشعراء الذين يبدأون - قصائدهم في المدح بالنسيب - وإن كان أبو نواس قد سبق إليها - إلا أن سخريته كانت منصبة على حياة العرب الاجتماعية قاصداً تحقيرهم، والنيل من مكانتهم، فهناك فرق بين اتجاه أبي نواس، واتجاه أبي الطيب.
قبح الابتداء:
ينبغي أن يتجنب الشاعر في مديحه كل ما يتطير منه حتى لا يتشاءم منه الممدوح أو بعض الحاضرين، : وذلك كمطلع قصيدة أبي نواسن يهنئ بها بعض بني برمك بدار بذل في تجمليها كل ما يملك من الجهد، إذ بدأها أبو نواس بقوله:
أربع البلى؛ إن الخشوع لباد
…
عليك وإني لم أخنك ودادي.
فتطير منها البرمكي وأشمأز حتى ظهر الوجوم عليه (1).
(1) العمدة ص 1500.
ومن هذا القبيل: ما يروى أن المعتصم بنى قصراً فخماً جلس فيه، وجمع الناس من أهله وأصحابه وصعد إلى العرش، فاستأذنه اسحق ابن إبراهيم الموصلي في النشيد فأذن له، فأنشده شعراً بالغ الجودة في وصفه ووصف المجلس إلا أن أوله تشبيب بالديار القديمة وبقية آثارها فكان أول بيت منها:
يا دار، غيرك البلى؛ فمحاك
…
يا ليت شعري ما الذي أبلاك؟
فتطير المعتصم منها (1).
واعترض عبد الملك بن مروان على جرير، عندما بدأ ينشد قصيدته، فقال:
أتصحوا أم فؤادك غير صاح
…
عشية هم صحبك بالرواح؟
فقال له عبد الملك: "بلى فؤادك" كأنه استثقل هذه المواجهة، وإلا فهو يعلم أن الشاعر يخاطب نفسه (2).
كما اعترض على ذي الرمة عندما دخل عليه، فاستشده شيئاً من شعره، فأنشده قصيدته التي يقول في مطلعها:
(1) الصناعتين ص 418.
(2)
العمدة ج 1 ص 148.
ما بال عينك منها الماء يسكب؟
وكانت عين عبد الملك تدمع دائماً، فتوهم أنه خاطبه، أو عرض به، فقال: وما سؤالك عن هذا؟ ومقته (1) وشبيه بهذا: ما يذكر من أن شاعراً يدعى: أبا مقاتل: افتتح قصيدة يمدح بها (الداعي) بقوله:
لا تقل بشرى، ولكن بشريان غرة الداعي ويوم المهرجان.
فانتبه الداعي، وقال له: هلا قلت: "إن تقل: بشرى فعندي بشريان (2) ".
ومن ابتداءات أبي الطيب التي عيبت عليه قوله في مخاطبة كافور:
كفى بك داء: أن ترى الموت شافياً وحسب المنايا أن يكن أمانيا
قالوا: ففي الابتداء بذكر الداء والموت ما فيه من الطيرة اليت تنفر منها السوقة، فضلاً عن الملوك (3) ونحن مع من قال:"إن هذا المطلع .. ". كان صادق التعبير إلى مدى بعيد عن نفسية المتنبي بعد هذا الأزمة التي مرت به بعد أن فارق مغضباً سيف الدولة، فقد رأى الحياة لا خير فيها، ووجد الموت شافياً له من آلامه (4) ".
(1) العمدة جـ 1 ص 148.
(2)
الصناعتين ص 419.
(3)
يتيمة الدهر جـ 1 ص 123.
(4)
أسس النقد الادبي عند العرب ص 302.