المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌وينظر في الجمل التي تسرد: - من قضايا البلاغة والنقد عند عبد القادر الجرجاني - جـ ١

[حسن إسماعيل عبد الرازق]

فهرس الكتاب

- ‌[مقدمة]

- ‌الفصل الأول(قضية النظم)

- ‌المنابع التي أستقى منها عبد القاهر فكرة المنظم

- ‌نظرية النظم عند عبد القاهر الجرجاني

- ‌أولاً: لا تفاضل بين كلمة وأخرى في الدلالة على المعنى قبل دخلوهما في نظم الكلام:

- ‌ثانياً: ترتيب الألفاظ في النطق على حسب ترتيب المعاني في النفس:

- ‌والدليل على ذلك:

- ‌أولاً: أن الألفاظ لا تستحق من حيث هي ألفاظ أن تنظم على وجه دون وجه

- ‌ثانياً: أنه لو كان القصد بالنظم إلى اللفظ نفسه، دون أن يكون الغرض هو ترتيب المعاني في النفس ثم النطق بالألفاظ على حذوها

- ‌ثالثاً: أن النظم الذي يتواصفه البلغاء وتتفاضل مراتب البلاغة من أجله صنعة يستعان عليها بالفكرة لا محالة

- ‌رابعاً: أن الألفاظ - كما يقولون - أوعية للمعاني، ولهذا فإنها تتبع المعاني في مواقعها

- ‌ثالثاً: لا نظم في الكلم حتى يعلق بعضها ببعض وبيني بعضها على بعض:

- ‌رابعاً: المزية في النظم للمعنى وليست للفظ:

- ‌خامساً: ثمرة النظم هي: تصوير المعنى:

- ‌فأما الكناية:

- ‌(ثووم الضحى)

- ‌وأما المجاز:

- ‌الفرق بين الاستعارة والتشبيه البليغ:

- ‌وأما التمثيل:

- ‌سادساً: نظرية النظم:

- ‌في الخبر

- ‌وفي الشرط والجزاء:

- ‌وفي الحال:

- ‌وينظر في الحروف

- ‌وينظر في الجمل التي تسرد:

- ‌سابعاً: تفاوت درجات النظم بتفاوت صنعته:

- ‌ولهذا فإن عبد القاهر الجرجاني قد وجد أن النظم يتفاوت بتفاوت الصنعة فنوفه إلى هذه الأنماط:

- ‌الأول: النمط العالي من النظم:

- ‌الثاني: النمط الأوسط:

- ‌الثالث: النمط الأدنى:

- ‌صنيع المتأخرين بنظرية النظم

- ‌أولاً: اللفظ والمعنى:

- ‌ثانياً: قيام علم المعاني على أساس نظرية النظم:

- ‌الفصل الثاني(قضية التقديم والتأخير)

- ‌التقديم والتأخير

- ‌(أ) التقديم في الاستفهام بالهمزة

- ‌(ب) التقديم في النفي

- ‌(جـ) التقديم في الخبر المثبت:

- ‌ المعنى ينقسم قسمين:

- ‌أحدهما: واضح جلى

- ‌وثانيهما: ما يقصد به تكيد الحكم

- ‌ من الكلام يجيء في كل مقام يحتاج إلى تأكيد الخبر وتقويته ومنها:

- ‌(أ) ما سبق فيه إنكار منكر، كأن يقول الرجل:

- ‌(ب) ما اعترض فيه شك

- ‌(جـ) في تكذيب مدع

- ‌(د) فيما القياس

- ‌(هـ) فيما يستغرب من الأمر

- ‌(و) في الوعد والضمان:

- ‌(ي) في المدح

- ‌(ز) في الفخر

- ‌(د) مما يرى تقديمه كاللازم "مثل" و "غير

- ‌(هـ) تقديم النكرة على الفعل وتقديم الفعل عليها:

- ‌الفصل الثالث((قضية التشبيه والتمثل))

- ‌سر التفريق بينهما:

- ‌ ولهذا بدا عبد القاهر الجرجاني حديثه عن التشبيه والتمثيل بالتفريق بينهما، وكان سبيله إلى هذا التفريق: أن جعل التشبيه ضربين:

- ‌أما الضرب الأول: فهو: تشبيه الشيء بالشيء

- ‌وأما الضرب الثاني: فهو ما يكون التشبيه فيه محصلاً بضرب من التأول

- ‌مظاهر التمثيل: للتمثيل مظهران

- ‌أحدهما: أن يجئ المعنى ابتداء في صورة التمثيل

- ‌وثانيهما: أن يجيء في أعقاب المعاني لإيضاحها وتقريرها في النفوس

- ‌أسباب تأثير التمثيل في النفس

- ‌أولهما: أن أنس النفوس موقوف على أن تخرجها من خفي إلى جلي كأن تنقلها عن العقل إلى الحس

- ‌وثانيها: أن لتصور الشبه بين الشيء في غير جنسه وشكله

- ‌وثالثها: أنه يأتيك من الشيء الواحد بأشياء عدة، ويشتق من الأصل الواحد أغصاناً

- ‌التمثيل على حد الاستعارة

- ‌ نظرية البيان - في فكر عبد القاهر الجرجاني - مرت بمراحل ثلاث

- ‌فالمرحلة الأولى: هي المرحلة التي بدأ فيها عبد القاهر يكبت في موضوعات "البيان

- ‌والمرحلة الثانية: هي المرحلة التي أستلهم فيها عبد القاهر - وهو يكتب دلائل الإعجاز

- ‌والمرحلة الثالثة: هي المرحلة التي وضحت لديه فيها ملامح النظرية كاملة

- ‌ باب التمثيل - على حد الاستعارة - على حد تعبيره في الدلائل - أو الاستعارة التمثيلية - على حد تعبير المتأخري

- ‌وأول هذه الأمثلة: أو الأمثال: قولهم (يضرب في حديد بارد)

- ‌وثانيها: قولهم: (هو ينفخ في غير فحم)

- ‌وثالثها: قولهم (أخذ القوس باربها)

- ‌ورابعاً: قولهم: (وما زال يفتل منه في الذروة والغارب)

- ‌وخامسها: (بلغني أنك تقدم رجلا ًوتؤخر أخرى، فإذا أتاك كتابي هذا فاعتمد على أيهما شئت والسلام)

- ‌ التفريق بين التشبيه البليغ والاستعارة

- ‌احدهما: أن تنزله منزله الشيء تذكره بأمر قد ثبت له

- ‌والثاني أن تجعل ذلك كالآمر الذي يحتاج إلى أن تعمل في إثباته

- ‌((الفصل الرابع))(قضية البديع)

- ‌((البديع))

- ‌((منزلة البيع من البلاغة))

- ‌نظرة عبد القاهر الجرجاني إلى البديع:

- ‌البديع في نظر السكاكي:

- ‌البديع في نظر الخطيب القزويني:

- ‌تقسيم محسنات البديع:

- ‌فمن المحسنات المعنوية:

- ‌1) الطباق:

- ‌ ويلحق بالطباق أمران:

- ‌أولهما: أن يجمع بين معنيين لا يتنافيان في ذاتهما

- ‌وثانيهما: ما يسمى إبهام التضاد:

- ‌المقابلة:

- ‌بلاغة الطباق والمقابلة:

- ‌2) مراعاة النظير:

- ‌(ومن مراعاة النظير) لون يسمى: تشابه الأطراف:

- ‌بلاغة مراعاة النظير:

- ‌فأسلوب مراعاة النظير - وهو جمع أمر وما يناسبه لا بالتضاد

- ‌3) الارصاد أو التسهيم:

- ‌بلاغة الارصاد:

- ‌4) المشاكلة:

- ‌ومن المشاكلة

- ‌بلاغة المشاكلة:

- ‌5) المزاوجة:

- ‌بلاغة المزاوجة:

- ‌6) العكس والتبديل:

- ‌وله وجوه:

- ‌أولاً: أن يقع بين أحد طرفي جملة ما وأضيف إليه

- ‌وثانيها: أن يقع بين متعلقي فعلين في جملتين

- ‌وثالثها: أن يقع بين لفظين في طرفي جملتين

- ‌بلاغة العكس والتبديل:

- ‌7) التورية:

- ‌وهي نوعان:

- ‌أما المجردة:

- ‌وأما المرشحة:

- ‌بلاغة التورية:

- ‌8) المبالغة:

- ‌وهي: أن يدعي لوصف بلوغه - في الشدة أو الضعف - حداً مستحيلاً، أو مستبعداً.وتنقسم إلى ثلاثة أقسام:

- ‌القسم الأول:التبليغ:

- ‌القسم الثاني:الإغراق:

- ‌والقسم الثالث:الغلو:

- ‌وإنما يقبل العلو في حالات ثلاث:

- ‌آراء العلماء في المبالغة

- ‌للعلماء - في المبالغة - آراء ثلاثة:

- ‌الرأي الأول:أن المبالغة مقبولة مطلقاً

- ‌الرأي الثاني:أن المبالغة مردودة مطلقاً:

- ‌والرأي الثالث:أن المبالغة إذا كانت تبليغاً

- ‌9) حسن التعليل:

- ‌ والوصف غير الثابت: أما أن يكون ممكناً، وإما أن يكون غير ممكن، فكانت الأقسام أربعة على النحو التالي:

- ‌القسم الأول:وهو حسن التعليل للوصف الثابت التي لا تظهر له علة في العادة

- ‌القسم الثاني:وهو حسن التعليل للوصف الثابت الذي تظهر له في - العادة - علة غير المذكورة

- ‌القسم الثالث:وهو: حسن التعليل للوصف غير الثابت الذي أريد إثباته، وكان ممكناً

- ‌القسم الرابع:وهو حسن التعليل للوصف غير الثابت الذي أريد إثباته، وكان غير ممكن

- ‌ما يلحق بحسن التعليل:

- ‌بلاغة حسن التعليل:

- ‌10) تأكيد المدح بما يشبه الذم:

- ‌الضرب الأول:وهو أفضلها: أن يستثني من صفة ذم منفية عن الشيء صفة مدح بتقدير دخولها فيها

- ‌والضرب الثاني:أن يثبت لشيء صفة مدح، ويعقبها بأداة استثناء تليها صفة مدح أخرى

- ‌والضرب الثالث: وهو أن يؤتى بمستثنى فيه معنى المدح معمول لفصل فيه معنى الذم، فيتفرغ للعمل فيه

- ‌11) تأكيد الذم بما يشبه المدح:

- ‌ فإذا هو ذم مؤكد.وهو ضربان:

- ‌أحدهما: أن يستثنى من صفة مدح منفية عن الشيء صفة ذم بتقدير دخولها فيها

- ‌وثانيهما: أن يثبت للشيء صفة ذم، ويعقبها أداة استثناء تليها صفة ذم أخرى له

- ‌مواضع التأنق في الكلام

- ‌الموضع الأول:الابتداء، ويسمونه (حسن الابتداء)

- ‌قبح الابتداء:

- ‌براعة الاستهلال:

- ‌والموضع الثاني: التخلص:

- ‌الاقتضاب:

- ‌والموضع الثالث:الانتهاء، لأنه آخر ما يعيه السمع ويرتسم في النفس ويسمونه: (حسن الانتهاء)

- ‌ومن المحسنات اللفظية:

- ‌1) الجناس:

- ‌فأما الجناس التام:

- ‌أ- فالمماثل:

- ‌ب- والمستوفي:

- ‌جـ- والمركب:

- ‌وأما الجناس غير التام:

- ‌وله بحسب حالات الاختلاف - أربع حالات:

- ‌الحالة الأولى: الاختلاف في نوع الحروف:

- ‌والحالة الثانية:وهي حالة الاختلاف في عدد الحروف:

- ‌والحالة الثالثة:هي حالة الاختلاف في هيئة الحروف:

- ‌والحالة الرابعة:حالة الاختلاف في ترتيب الحروف:

- ‌بلاغة الجناس:

- ‌2) السجع:

- ‌وللسجع أنواع ثلاثة هي:

- ‌فأما المطرف:

- ‌وأما المرصع:

- ‌وأما المتوازي:

- ‌بلاغة السجع:

- ‌مراجع البحث ومصادره

الفصل: ‌وينظر في الجمل التي تسرد:

وإليك ما قاله عبد القاهر الجرجاني في بيان هذه النظرية:

"أعلم أن ليس النظم إلا أن تضع كلامك الوضع الذي يقتضيه علم النحو وتعمل على قوانينه وأصوله، وتعرف مناهجه التي نهجت فلا تزيع عنها وتحفظ الرسوم التي رسمت لك فلا تخل بشيء منها، وذلك أنا لا نعلم شيئاً يبتغيه الناظم بنظمه غير أن ينظر في وجوه كل باب، وفروقه، فينظر

‌في الخبر

إلى الوجوه التي قرأها في قولك: زيد منطلق، وزيد ينطلق، وينطلق زيد، وزيد المنطلق، ومنطلق زيد، والمنطلق زيد، وزيد هو المنطلق، وزيد هو منطلق،

‌وفي الشرط والجزاء:

إلى الوجوه التي تراها في قولك: أن تخرج أخرج، وأن خرجت خرجت وأن تخرج فأنا خارج وأنا خارج أن خرجت، وأنا أن خرجت خارج.

‌وفي الحال:

إلى الوجوه التي تراها في قولك: جاءني زيد مسرعاً وجاءني يسرع، وجاءني وهو مسرع، أو وهو يسرع، وجاءني قد أسرع، وجاءني وقد أسرع.

فيعرف لكل من ذلك موضعه، ويجيء به حيث ينبغي له.

‌وينظر في الحروف

التي تشترك في المعنى ثم ينفرد كل واحد منها بخصوصية في ذلك المعنى: فيضع كلا من ذلك في خاص معناه نحو: أن يجيء "بما" في نفي الحال، و"بلا" إذا أراد نفي الاستقبال، و"بأن" فيما يترجح بين أن يكون وإلا يكون "وبإذا" فيما علم أنه كائن.

‌وينظر في الجمل التي تسرد:

فيعرف موضع الفصل فيها من موضع الوصل

ص: 62

ثم يعرف فيما حقه الوصل: موضع الواو من موضع الفاء، وموضع الفاء من موضع "ثم"، وموضع "أو" من موضع "أم" وموضع "لكن" من موضع "بل".

ويتصرف في التعريف والتفكير، والتقديم والتأخير في الكلام كله، وفي الحذف والتكرار، والإضمار والإظهار، فيضع كلا من ذلك مكانه، ويستعمله على الصحة، وعلى ما ينبغي له.

هذا هو السبيل: فلست يواجد شيئاً يرجع صوابه إن كان صواباً وخطوة إن كان خطأ إلى النظم، ويدخل تحت هذا الاسم، إلا وهو معنى من معاني النحو، قد أصيب به موضعه، ووضع في حقه، أو عومل بخلاف هذه المعاملة فأزيل عن موضعه، واستعمل في غير ما ينبغي له: فلا ترى كلاماً قد وصف بصحة نظم أو فساده، أو وصف بمزيه وفضل فيه إلا وأنت تجد مرجع تلك الصحة، وذلك الفساد، وتلك المزيه، وذلك الفضل، إلى معاني النحو وأحكامه ووجدته يدخل في أصل من أصوله، ويتصل بباب من أبوابه.

هذه جملة لا تزداد فيها نظراً إلا ازددت لها تصوراً، وازدادت عندك صحة، وازددت بها ثقة وليس من أحد تحركه لأن يقول في أمر النظم شيئاً إلا وجدته قد اعترف لك بها أو ببعضها، ووافق فيها دري ذلك أو لم يدر.

ص: 63

ويكفيك أنهم قد كشفوا عن وجه ما أردناه، حيث ذكروا فساد النظم فليس من أحد يخالف في نحو قول الفرزدق:

وما مثله في الناس إلا مملكاً أبو أمه أبوه يقاربه

وقول المتنبي:

ولذا اسم أغطية العيون جفونها من أنها عمل كسيوف عوامل

وقوله:

الطيب أنت إذا أصابك طيبه والماء أنت إذا اغتسلت الغاسل

وقوله:

وقاوكما كالربع أشجاه طاسمه بأن تسعدا والدمع أشفاه ساجمة

وقول أبي تمام:

ثانية في كبد السماء ولم يكن: كاثنين ثان اذهما في الغار

وقوله:

يدي لمن شاء رهن لم يذق جرعاً من راحتيك دري ما الصاب والعمل

وفي نظائر ذلك مما وصوفوه بفساد النظم - وعابوه من جهة سوء التأليف أن الفساد والخلل كانا من أن تعاطي الشاعر ما تعاطاه في هذا الشأن على غير صواب وصنع في تقديم أو تأخير، أو حذف أو أضمار أو غير ذلك

ص: 64

مما ليس له أن يصنعه، وما لا يسوغ ولا يصح على أصول هذا العلم.

وإذا ثبت أن سبب فساد النظم، واختلاله، ألا يعمل بقوانين هذا الشأن، ثبت أن سبب صحته أن يعمل عليها، ثم إذا ثبت أن مستنبط صحته وفساده من هذا العلم، ثبت أن الحكم كذلك في مزيته، والفضيلة التي تعرض فيه، وإذا ثبت جميع ذلك ثبت أن ليس هو شيئاً غير توخي معاني هذا العلم، وأحكامه فيما بين الكلم والله الموفق للصواب.

وإذا قد عرفت ذلك فاعمد إلى ما تواصفوه بالحسن وتشاهدوا له بالفضل ثم جعلوه كذلك من أجل النظم خصوصاً دون غيره مما يستحسن له الشعر أو غير الشعر من معني لطيف، أو حكمه، أو أدب، أو استعاره أو تجنيس، أو غير لك مما لا يدخل في النظم، وتأمله: فإذا رأيتك قد ارتحت واهتززت واستحسنت، فأنظر إلى حركات الأربحية مم كانت؟ وعندما ذا ظهرت؟ فإنك ترى عياناً أن الذي قلت لك كما قلت أعمد إلى قول البحتري:

بلونا ضرائب من قد نرى فما أن رأينا لفتح ضريباً

هو المرء أبدت له الحادثات عزماً وشيكا هورايا صليباً

تنقل في خلقي اسودد سماحاً مرجي، وبأساً مهيباً

فكالسيف أن جئنته صارخاً وكالبحر أن جئته مستثيباً

فإذا رأيتها قد راقتك، وكثرت عندك، ووجدت لها اهتزاز في نفسك

ص: 65

فعد فأنظر في السبب، واستقص في النظر فإنك تعلم ضرورة أن ليس إلا أنه قدم وآخر، وعرف ونكر وحذف واضمر، وأعاد وكرر، وتوخي على الجملة وجها من الوجوه التي يقتضيها علم النحو، فأصاب في ذلك كله ثم لطف موضع صوابه، وأتى مأتى يوجب الفضيلة: أفلا ترى أن أول شيء يروقك منها: قوله: (هو المرء أبدت له الحادثات) ثم قوله: (تنقل في خلقي سودد) بتنكير السودد، وأضافه الخلقين إليه، ثم قوله:"فكالسيف" وعطفه بالفاء مع حذفه المبتدأ، لأن المعنى لا محاله - فهو كالسيف، ثم تكريره الكاف في قوله "وكالبحر" ثم أن قرن إلى كل واحد من التشبيهين شرطاً جوابه فيه، ثم أن أخرج من كل واحد من الشرطين حالاً على مثال ما أخرج من الأخر وذلك قوله (صارخاً) هناك و (مستثيباً) ههنا، لا ترى حسناً تنسبه إلى النظم ليس سببه ما عددت، أو ما هو في حكم ما عددت فاعرف ذلك.

وأن أردت أظهر أمراً في هذا المعنى، فأنظر إلى قول إبراهيم بن عباس:

فلو إذ نبا دهر، وأنكر صاحب وسلط أعداء، وغاب نصير

تكون عن الأهواز داري بنجوة ولكن مقادير جرت وأمور

وإني لأرجو بعد هذا محمداً لأفضل ما يرجى أخر ووزير

فأنت ترى ما ترى من الرونق والطلاوة والحلاوة، ثم تتفقد السبب في ذلك فتجده إنما كان من أجل تقديمه الظرف الذي هو (إذ نبا) على عامله الذي هو تكون، وأن لم يقل، فلو عن الاهواز دارى بنجوه إذ

ص: 66

نبا دهر، ثم قال:(تكون) ولم يقل كانت، ثم أن نكر الدهر ولم يقل (فلو إذ نبا الدهر) ثم أن ساق هذا التنكير في جميع ما أتى به من بعد، ثم أن قال:(وأنكر صاحب) ولم يقل (وأنكرت صاحبا) لا ترى في البيتين الأولين شيئاً غير الذي عددته لك تجعله حسناً في النظم، وكله من معاني النحو - كما ترى - وهكذا السبيل أبداً في كل حسن ومزية رأيتهما قد نسبا إلى النظم، وفضل وشرف أحيل فيهما عليه (1).

وهكذا يبين عبد القاهر الجرجاني - بعد أن ذكر إجماع العلماء على تفخيم شأن النظم وتعظيم قدره - أنه ليس إلا أن تتوخى معاني النحو فيما بين الكلم، كأن تفطر في أوجه الخبر، والشرط والجزاء، والحال والحروف التي تشترك في معنى ثم ينفرد كل واحد منها بخصوصية، وفي الجمل التي تسرد، فيعرف فيها موضع الفصل، من موضع الوصل.

وتتصرف في التعريف والنتكير والتقديم والتأخير، في الكلام كله، وفي الحذف والتكرار، والإظهار والاضمار، فتضع كل ذلك في مكانه وموقعه وتستعمله استعمالا صحيحاً موفقاً.

ولم يفته أن يبين لك: أنه قد استنتج نظريته في النظم من تصرف النقاد السابقين، إذ أنهم جعلوا النظم السليم معياراً نقدياً أصيلاً، فمن خلال نقدهم للأشعار التي استجادوها واستحسنوها، والإشعار التي ردوها واستقحموها، كشفوا عن وجه النظم، إذا أنهم أرجعوا حسن الشعر وجودته إلى سلامة النظم وجودته، وأرجعوا قبح الشعر ورداءته

(1) دلائل الإعجاز صفاحات (55، 56، 57، 58، 58، 60).

ص: 67

إلى فساد النظم وسوء تأليفه، كما أنهم قد رأوا سلامة النظم في العمل بقوانين النحو، ورأوا فساد النظم في عدم العمل بها فبإن له بذلك أن النظم ليس إلا تتبع معاني النحو فيما بين الكلم.

ولعلك على ذكر مما أسلفناه لك من أن عبد القاهر الجرجاني قد استنبط هذا القول من تصرف القاضي الجرجاني في وساطته بين المتبني وخصومه وأنه قد استشهد بما استحسنه القاضي الجرجاني من أبيات للبحتري وغيره، وبما استقبحه من أبيات أخرى لبعض الشعراء، وأن الأولى قد أرجع القاضي الجرجاني حسنها إلى سلامة النظم، ولم يزد على هذا وأن الثانية قد أرجع قبحها إلى فساد النظم وهلهلة النسج وسوء التأليف، وأنها لم تجس على قوانين النحو.

وفي هذا الفصل الذي نعرضه عليك الآن: يذكر أن مزايا النظم إنما تكون وتحدث بسبب المعاني والأغراض التي يقصدها البليغ، غذ ليس للفروق والوجوه التي تحدث في النظم، من تعريف، وتنكير، وتقديم، وتأخير غيرها، مزيه حتى تكون ملائمة ومناسبة للأغراض التي يقصدها البليغ.

وقد اسلفنا لك أن هذا المعنى قد استقاه من فصل عقده القاضي الجرجاني عن مواقع الكلام، حيث ذكر أن النقد الأدبي السليم أنما هو ذلك الذي يوجه إلى جوهر الكلام وموقعه، ومكانه من النظم، ثم اهتمامه بمناسبة الألفاظ لمعانيها، ومعرفة ما بينهما من أسباب ووشائج قربي،

ص: 68

وأن القاضي الجرجاني قد كان يقصد بهذه المعاني: الأغراض التي يقصدها الأديب بشعره أو نثره، والتي أشار غليها في مقدمة وساطته بقوله "ولا آمرك بإجراء أنواع الشعر كله مجرى واحداً، ولا أن تذهب بجميعه مذهب بعضه، بل أرى لك أن تقسم الألفاظ على رتب المعاني فلا يكون غزلك كافتخارك، ولا مديحك كوعيدك، ولا هجاؤك كاستبطائك ولا هزلك بمنزلة جدك ولا تعرضك مثل تصريحك، بل ترتب كلا مرتبته وتوفيه حقه، فتلطف إذا تغزلت، وتفخم إذا افتخرت، وتتصرف للمديح تصرف مواقعه، فإن المدح بالشجاعة والباس بيتميز عن المدح باللباقة والظرف، ووصف الحرب والسلاح ليس كوصف المجلس والمدام، فلكل واحد من الأمرين نهج هو أملك به، وطريق لا يشاركه الآخر فيه"(1).

وهذا المعنى هذا الذي عبر عنه المتأخرون من البلاغيين في تعريفهم للبلاغة أنهم: مطابقة الكلام لمقتضى الحال (2).

يقول عبد القاهر الجرجاني: "فصل في أن هذه المزايا بحسب المعاني والأغراض التي توم".

"وغذا عرفت أن مدار أمر النظم على معاني النحو، وعلى الوجوه والفروق التي من شأنها أن تكون فيه فاعلم أن الفروق والوجوه كثيرة ليس لها غاية تقف عندها، ونهاية لا تجد لها ازدياداً بعدها، ثم أعلم أن ليست

(1) الوساطة صـ 24.

(2)

الإيضاح صـ 8.

ص: 69