الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وإليك ما قاله عبد القاهر الجرجاني في بيان هذه النظرية:
"أعلم أن ليس النظم إلا أن تضع كلامك الوضع الذي يقتضيه علم النحو وتعمل على قوانينه وأصوله، وتعرف مناهجه التي نهجت فلا تزيع عنها وتحفظ الرسوم التي رسمت لك فلا تخل بشيء منها، وذلك أنا لا نعلم شيئاً يبتغيه الناظم بنظمه غير أن ينظر في وجوه كل باب، وفروقه، فينظر
في الخبر
إلى الوجوه التي قرأها في قولك: زيد منطلق، وزيد ينطلق، وينطلق زيد، وزيد المنطلق، ومنطلق زيد، والمنطلق زيد، وزيد هو المنطلق، وزيد هو منطلق،
وفي الشرط والجزاء:
إلى الوجوه التي تراها في قولك: أن تخرج أخرج، وأن خرجت خرجت وأن تخرج فأنا خارج وأنا خارج أن خرجت، وأنا أن خرجت خارج.
وفي الحال:
إلى الوجوه التي تراها في قولك: جاءني زيد مسرعاً وجاءني يسرع، وجاءني وهو مسرع، أو وهو يسرع، وجاءني قد أسرع، وجاءني وقد أسرع.
فيعرف لكل من ذلك موضعه، ويجيء به حيث ينبغي له.
وينظر في الحروف
التي تشترك في المعنى ثم ينفرد كل واحد منها بخصوصية في ذلك المعنى: فيضع كلا من ذلك في خاص معناه نحو: أن يجيء "بما" في نفي الحال، و"بلا" إذا أراد نفي الاستقبال، و"بأن" فيما يترجح بين أن يكون وإلا يكون "وبإذا" فيما علم أنه كائن.
وينظر في الجمل التي تسرد:
فيعرف موضع الفصل فيها من موضع الوصل
ثم يعرف فيما حقه الوصل: موضع الواو من موضع الفاء، وموضع الفاء من موضع "ثم"، وموضع "أو" من موضع "أم" وموضع "لكن" من موضع "بل".
ويتصرف في التعريف والتفكير، والتقديم والتأخير في الكلام كله، وفي الحذف والتكرار، والإضمار والإظهار، فيضع كلا من ذلك مكانه، ويستعمله على الصحة، وعلى ما ينبغي له.
هذا هو السبيل: فلست يواجد شيئاً يرجع صوابه إن كان صواباً وخطوة إن كان خطأ إلى النظم، ويدخل تحت هذا الاسم، إلا وهو معنى من معاني النحو، قد أصيب به موضعه، ووضع في حقه، أو عومل بخلاف هذه المعاملة فأزيل عن موضعه، واستعمل في غير ما ينبغي له: فلا ترى كلاماً قد وصف بصحة نظم أو فساده، أو وصف بمزيه وفضل فيه إلا وأنت تجد مرجع تلك الصحة، وذلك الفساد، وتلك المزيه، وذلك الفضل، إلى معاني النحو وأحكامه ووجدته يدخل في أصل من أصوله، ويتصل بباب من أبوابه.
هذه جملة لا تزداد فيها نظراً إلا ازددت لها تصوراً، وازدادت عندك صحة، وازددت بها ثقة وليس من أحد تحركه لأن يقول في أمر النظم شيئاً إلا وجدته قد اعترف لك بها أو ببعضها، ووافق فيها دري ذلك أو لم يدر.
ويكفيك أنهم قد كشفوا عن وجه ما أردناه، حيث ذكروا فساد النظم فليس من أحد يخالف في نحو قول الفرزدق:
وما مثله في الناس إلا مملكاً أبو أمه أبوه يقاربه
وقول المتنبي:
ولذا اسم أغطية العيون جفونها من أنها عمل كسيوف عوامل
وقوله:
الطيب أنت إذا أصابك طيبه والماء أنت إذا اغتسلت الغاسل
وقوله:
وقاوكما كالربع أشجاه طاسمه بأن تسعدا والدمع أشفاه ساجمة
وقول أبي تمام:
ثانية في كبد السماء ولم يكن: كاثنين ثان اذهما في الغار
وقوله:
يدي لمن شاء رهن لم يذق جرعاً من راحتيك دري ما الصاب والعمل
وفي نظائر ذلك مما وصوفوه بفساد النظم - وعابوه من جهة سوء التأليف أن الفساد والخلل كانا من أن تعاطي الشاعر ما تعاطاه في هذا الشأن على غير صواب وصنع في تقديم أو تأخير، أو حذف أو أضمار أو غير ذلك
مما ليس له أن يصنعه، وما لا يسوغ ولا يصح على أصول هذا العلم.
وإذا ثبت أن سبب فساد النظم، واختلاله، ألا يعمل بقوانين هذا الشأن، ثبت أن سبب صحته أن يعمل عليها، ثم إذا ثبت أن مستنبط صحته وفساده من هذا العلم، ثبت أن الحكم كذلك في مزيته، والفضيلة التي تعرض فيه، وإذا ثبت جميع ذلك ثبت أن ليس هو شيئاً غير توخي معاني هذا العلم، وأحكامه فيما بين الكلم والله الموفق للصواب.
وإذا قد عرفت ذلك فاعمد إلى ما تواصفوه بالحسن وتشاهدوا له بالفضل ثم جعلوه كذلك من أجل النظم خصوصاً دون غيره مما يستحسن له الشعر أو غير الشعر من معني لطيف، أو حكمه، أو أدب، أو استعاره أو تجنيس، أو غير لك مما لا يدخل في النظم، وتأمله: فإذا رأيتك قد ارتحت واهتززت واستحسنت، فأنظر إلى حركات الأربحية مم كانت؟ وعندما ذا ظهرت؟ فإنك ترى عياناً أن الذي قلت لك كما قلت أعمد إلى قول البحتري:
بلونا ضرائب من قد نرى فما أن رأينا لفتح ضريباً
هو المرء أبدت له الحادثات عزماً وشيكا هورايا صليباً
تنقل في خلقي اسودد سماحاً مرجي، وبأساً مهيباً
فكالسيف أن جئنته صارخاً وكالبحر أن جئته مستثيباً
فإذا رأيتها قد راقتك، وكثرت عندك، ووجدت لها اهتزاز في نفسك
فعد فأنظر في السبب، واستقص في النظر فإنك تعلم ضرورة أن ليس إلا أنه قدم وآخر، وعرف ونكر وحذف واضمر، وأعاد وكرر، وتوخي على الجملة وجها من الوجوه التي يقتضيها علم النحو، فأصاب في ذلك كله ثم لطف موضع صوابه، وأتى مأتى يوجب الفضيلة: أفلا ترى أن أول شيء يروقك منها: قوله: (هو المرء أبدت له الحادثات) ثم قوله: (تنقل في خلقي سودد) بتنكير السودد، وأضافه الخلقين إليه، ثم قوله:"فكالسيف" وعطفه بالفاء مع حذفه المبتدأ، لأن المعنى لا محاله - فهو كالسيف، ثم تكريره الكاف في قوله "وكالبحر" ثم أن قرن إلى كل واحد من التشبيهين شرطاً جوابه فيه، ثم أن أخرج من كل واحد من الشرطين حالاً على مثال ما أخرج من الأخر وذلك قوله (صارخاً) هناك و (مستثيباً) ههنا، لا ترى حسناً تنسبه إلى النظم ليس سببه ما عددت، أو ما هو في حكم ما عددت فاعرف ذلك.
وأن أردت أظهر أمراً في هذا المعنى، فأنظر إلى قول إبراهيم بن عباس:
فلو إذ نبا دهر، وأنكر صاحب وسلط أعداء، وغاب نصير
تكون عن الأهواز داري بنجوة ولكن مقادير جرت وأمور
وإني لأرجو بعد هذا محمداً لأفضل ما يرجى أخر ووزير
فأنت ترى ما ترى من الرونق والطلاوة والحلاوة، ثم تتفقد السبب في ذلك فتجده إنما كان من أجل تقديمه الظرف الذي هو (إذ نبا) على عامله الذي هو تكون، وأن لم يقل، فلو عن الاهواز دارى بنجوه إذ
نبا دهر، ثم قال:(تكون) ولم يقل كانت، ثم أن نكر الدهر ولم يقل (فلو إذ نبا الدهر) ثم أن ساق هذا التنكير في جميع ما أتى به من بعد، ثم أن قال:(وأنكر صاحب) ولم يقل (وأنكرت صاحبا) لا ترى في البيتين الأولين شيئاً غير الذي عددته لك تجعله حسناً في النظم، وكله من معاني النحو - كما ترى - وهكذا السبيل أبداً في كل حسن ومزية رأيتهما قد نسبا إلى النظم، وفضل وشرف أحيل فيهما عليه (1).
وهكذا يبين عبد القاهر الجرجاني - بعد أن ذكر إجماع العلماء على تفخيم شأن النظم وتعظيم قدره - أنه ليس إلا أن تتوخى معاني النحو فيما بين الكلم، كأن تفطر في أوجه الخبر، والشرط والجزاء، والحال والحروف التي تشترك في معنى ثم ينفرد كل واحد منها بخصوصية، وفي الجمل التي تسرد، فيعرف فيها موضع الفصل، من موضع الوصل.
وتتصرف في التعريف والنتكير والتقديم والتأخير، في الكلام كله، وفي الحذف والتكرار، والإظهار والاضمار، فتضع كل ذلك في مكانه وموقعه وتستعمله استعمالا صحيحاً موفقاً.
ولم يفته أن يبين لك: أنه قد استنتج نظريته في النظم من تصرف النقاد السابقين، إذ أنهم جعلوا النظم السليم معياراً نقدياً أصيلاً، فمن خلال نقدهم للأشعار التي استجادوها واستحسنوها، والإشعار التي ردوها واستقحموها، كشفوا عن وجه النظم، إذا أنهم أرجعوا حسن الشعر وجودته إلى سلامة النظم وجودته، وأرجعوا قبح الشعر ورداءته
(1) دلائل الإعجاز صفاحات (55، 56، 57، 58، 58، 60).
إلى فساد النظم وسوء تأليفه، كما أنهم قد رأوا سلامة النظم في العمل بقوانين النحو، ورأوا فساد النظم في عدم العمل بها فبإن له بذلك أن النظم ليس إلا تتبع معاني النحو فيما بين الكلم.
ولعلك على ذكر مما أسلفناه لك من أن عبد القاهر الجرجاني قد استنبط هذا القول من تصرف القاضي الجرجاني في وساطته بين المتبني وخصومه وأنه قد استشهد بما استحسنه القاضي الجرجاني من أبيات للبحتري وغيره، وبما استقبحه من أبيات أخرى لبعض الشعراء، وأن الأولى قد أرجع القاضي الجرجاني حسنها إلى سلامة النظم، ولم يزد على هذا وأن الثانية قد أرجع قبحها إلى فساد النظم وهلهلة النسج وسوء التأليف، وأنها لم تجس على قوانين النحو.
وفي هذا الفصل الذي نعرضه عليك الآن: يذكر أن مزايا النظم إنما تكون وتحدث بسبب المعاني والأغراض التي يقصدها البليغ، غذ ليس للفروق والوجوه التي تحدث في النظم، من تعريف، وتنكير، وتقديم، وتأخير غيرها، مزيه حتى تكون ملائمة ومناسبة للأغراض التي يقصدها البليغ.
وقد اسلفنا لك أن هذا المعنى قد استقاه من فصل عقده القاضي الجرجاني عن مواقع الكلام، حيث ذكر أن النقد الأدبي السليم أنما هو ذلك الذي يوجه إلى جوهر الكلام وموقعه، ومكانه من النظم، ثم اهتمامه بمناسبة الألفاظ لمعانيها، ومعرفة ما بينهما من أسباب ووشائج قربي،
وأن القاضي الجرجاني قد كان يقصد بهذه المعاني: الأغراض التي يقصدها الأديب بشعره أو نثره، والتي أشار غليها في مقدمة وساطته بقوله "ولا آمرك بإجراء أنواع الشعر كله مجرى واحداً، ولا أن تذهب بجميعه مذهب بعضه، بل أرى لك أن تقسم الألفاظ على رتب المعاني فلا يكون غزلك كافتخارك، ولا مديحك كوعيدك، ولا هجاؤك كاستبطائك ولا هزلك بمنزلة جدك ولا تعرضك مثل تصريحك، بل ترتب كلا مرتبته وتوفيه حقه، فتلطف إذا تغزلت، وتفخم إذا افتخرت، وتتصرف للمديح تصرف مواقعه، فإن المدح بالشجاعة والباس بيتميز عن المدح باللباقة والظرف، ووصف الحرب والسلاح ليس كوصف المجلس والمدام، فلكل واحد من الأمرين نهج هو أملك به، وطريق لا يشاركه الآخر فيه"(1).
وهذا المعنى هذا الذي عبر عنه المتأخرون من البلاغيين في تعريفهم للبلاغة أنهم: مطابقة الكلام لمقتضى الحال (2).
يقول عبد القاهر الجرجاني: "فصل في أن هذه المزايا بحسب المعاني والأغراض التي توم".
"وغذا عرفت أن مدار أمر النظم على معاني النحو، وعلى الوجوه والفروق التي من شأنها أن تكون فيه فاعلم أن الفروق والوجوه كثيرة ليس لها غاية تقف عندها، ونهاية لا تجد لها ازدياداً بعدها، ثم أعلم أن ليست
(1) الوساطة صـ 24.
(2)
الإيضاح صـ 8.