الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مواضع التأنق في الكلام
وقف نقاد العرب طويلاً عند مطلع القصيدة، وعند الانتقال من فاتحتها إلى الغرض منها، ثم عند خاتمتها.
ولهذا قالوا: أنه ينبغي للشاعر أو الأديب أن يتأنق في ثلاثة مواضع من كلامه حتى تكون أعذب لفظاً وأحسن سبكاً، وأصح معنى:
الموضع الأول:
الابتداء، ويسمونه (حسن الابتداء)
، لأنه أولها يقرع السمع، فإن أحسن الشاعر أو الأديب ابتداء كلامه، أقبل السامع على كلامه، وأحسن الإصغاء إليه فوعاه، وإن كان غير ذلك أعرض عنه ولم يلتفت إليه، وإن كان في غاية الحسن.
وضربوا لحسن الابتداء أمثلة كثيرة من المطالع الجيدة، فمنها قول النابغة:
كليني لهم - يا أميمة - ناصب
…
وليل أقاسيه بطيء الكواكب.
قالوا: أنه أحسن ابتداءات الجاهلية (1)، وذلك لأنه دل من أول الأمر
(1) الصناعتين ص 419.
على حال الشاعر عندما غضب عليه النعمان وتوعده، وصور ما يعتلج في قلبه من هم أعياه، وأقض مضجعه، وحرمه النوم الهانئ، فألم به أرق جعل ليله طويلاً، وكل ذلك قد وضع في أسلوب بين واضح، وارتباط قوي بين شطري البيت وتناسب في القوة والجزالة.
كما أنهم قالوا: أن أحسن مرئية جاهلية ابتداء قول أوس بن حجر:
أيتها النفس: اجملي جزعاً
…
إن الذي تحذرين قد وقعا (1)
ولعل حسن هذا المطلع راجع إلى تعبيره عما كان يضمره الشاعر لهذا الذي يرئيه من حب وإعزاز، وما كان يخضى عليه من عدوان الموت، ونزل الحام بساحته، أما وقد نزل هذا الحذو، فإنه نفسه قد مضت في الحزن إلى أبعد الغايات، واستسلمت إلى البكاء والنحيب والجزع، وهو لذلك يطلب إليها أن تتحمل المصاب في صبره، وألا تسترسل في آلامها برغم أن ما تحذره من المكروه قد نزل بساحتها وألم بها.
ومن المطالع الجيدة التي أعجب بها القاضي الجرجاني لأبي الطيب المتنبي:
أتراها لكثرة العشاق
…
تحسب الدمع خلقه في المآقي؟
(1) الصناعتين ص 419.
فالشاعر محب متيم، يذرف دموعه لينال وصال محبوبه، ولكنها لاهية عنه، ومحبوبته جميلة، رائعتا الجمال، يعشقها كل من يراها، كأنها لكثرة عشاقها الذي يذرفون دموعهم في سبيل رضاها، قد ظنت أن الدموع في عيون الناس أمر طبيعي جبل عليه الناس جميعاً، ولهذا أنها لا تثير انتباهها، ولا تستعطف قلبها دموع أبي الطيب.
وربما كان سر إعجاب القاضي الجرجاني بهذا المطلع راجعاً - بالإضافة إلى جمال الأسلوب ووضوح المعنى وجدته - إلى إيراد، في صيغة تساؤل يثير في النفوس الانتباه، وتحريك الأذهان، وإصغاء الأذان، وإلى تعبيره عن محبوبته بالضمير الذي يثير في النفوس كل هذه الأمور، ويثير فيها الشوق إلى معرفة هذه المحبوبة من تكون؟ أو كان الشاعر عندما عبر عنها بالضمير قد افترض أن الناس جميعاً يعلمون جبه وأنه لن يكون إلا لمن فتن الجميع بجمالها، وتعلقوا بمحاسنها.
ولهذا فإن الجرجاني قد عبر عن إعجابه بهذا المطلع فقال: "فإنه ابتداء ما سمع مثله، ومعنى انفرد باختراعه (1) ومن المطالع التي أعجب بها الجرجاني قول أبي الطيب:
إذا كان مدح فالنسيب المقدم
…
أكل فصيح قال شعراً متيم؟ !
(1) الوساطة ص 158.