الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لا جرم أن ذلك قد ذهب بهم عن معرفة البلاغة ومنعهم أن يعرفوا - مقاديرها وصد أوجههم عن الجهة التي هي فيها، والشق الذي - يحويها (1).
(أ) التقديم في الاستفهام بالهمزة
إذا بدأت بالفعل فقلت: أفعلت؟ كان الشك في الفعل نفسه، وكان غرضك من الاستفهام أن تعلم وجوده ولكنك إذا بدأت بالاسم، فقلت: أأنت فعلت؟ كان الشك في الفاعل من هو؟ وكان التردد فيه، ولهذا فأنه لا يجوز لك أن تقول: أأنت فرغت من الكتاب الذي كنت تكتبه؟ لأن الشك في الفعل لا في الفاعل، فكان من الواجب تقديمه كما أنه لا يجوز لك أن تقول: أكتبت هذا الكتاب؟ ، لأن الشك في الفاعل لا في الفعل، وذلك لفساد أن تقول في الشيء المشاهد أمام عينيك: أموجود أم لا؟
وكذلك الشأن في الهمزة إذا كانت للتقرير، فقول الله تعالى -حكاية عن قول نمروذ -:"أأنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم؟ "لا شبهه في أنهم لم يقولوا ذلك له عليه السلام وهم يريدون أن يقر لهم بأن كسر الأصنام قد كان، ولكن أن يقر لهم بأنه منه كان، ولهذا أشاروا إلى الفعل في قولهم "أأنت فعلت هذا" وقال هو عليه السلام -في الجواب:"بل فعله كبريهم هذا" ولو كان التقرير بالفعل
(1) دلائل الإعجاز صـ 73 إلى صـ 75.
لكان الجواب: فعلت أو لم أفعل، فالهمزة في هذا، وما شاكله من الأمثلة تقرير بفعل قد كان وإنكار له لما كان؟ وتوبيخ لفاعله عليه" (1).
وقد تأتي الهمزة لإنكار أن يكون الفعل قد كان من أصله وماله: قول الله تعالى: أفأصناكم وبكم بالبنين وأتخذ من الملائكة إناثاً؟ أنكم لتقولون قولاً عظيماً "وقوله تعالى أصطفى البنات على البنين؟ ما لكم كيف تحكمون؟ فالآية الأولى تنكر اختصاصهم بالبنين، والآية الثانية تنكر اصطفاء البنات على البنين.
ولكن إذا قدم الاسم على الفعل صار الإنكار منصباً على الفعل، وذلك كقولك لرجل انتحل شعراً: أأنت قلت هذا الشعر؟ كذبت، لست ممن يحسن مثله، فأنت بهذا قد أنكرت أن يكون هو القائل ولكنك لم تنكر الشعر.
هذا هو الفرق بين تقديم الاسم، وتقديم الفعل إذا كان الفعل ماضياً أما إذا كان الفعل مضارعاً، وأردت به الحال، كان المعنى شبيهاً بما مضى في الماضي، فإذا قلت: أتفعل؟ كان المعنى على أنك أردت أن تقرره بفعل هو يفعله، وكنت كمن يوهم أنه لا يعلم أن الفعل كائن وإذا قلت: أأنت تفعل؟ كان المعنى على أنك تريد أن تقرره بأنه الفاعل، وكان أمر الفعل في وجوده ظاهراً، لا يحتاج إلى الإقرار بأنه كائن، أو على أنك تريد أن تنكر أن يكون هو الفاعل.
(1) دلائل الإعجاز صـ 78.
ومثال تقديم الاسم لأن القصد هو الإقرار بأنه الفاعل: قوله تعالى {أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} يقصد بذلك أن يقرره بأن يتعب نفسه في إقناع الناس بدينه حتى كأنه يحاول إكراههم على الإيمان ومثال تقديمه لأن القصد هو إنكار أن يكون هو الفاعل: قوله تعالى {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ} ففي الآية الكريمة إنكار أن يكون المشركون هم الذين يقسمون رحمه الله (1).
وإذا أردت بالمضارع المستقبل، وقدمت الفعل: كان المعنى على أنك تنكر الفعل نفسه وتزعم أنه لا يكون أو أنه لا ينبغي أن يكون:
فمثال الأول: قول امرئ القيس:
أيقتلني والمشرفي مضاجعي ومسنونة زرق كأنياب أغوال؟
فهذا تكذيب منه لإنسان تهدده بالقتل وإنكار منه أن يقدر على ذلك ويستطيعه.
ومنه قول الله تعالى: {أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ} .
ومثال الثاني: قولك للرجل يركب الخطر: أتخرج في هذا الوقت؟ أتذهب في غير الطريق؟ أتغرر بنفسك؟
ومنه قول الشاعر:
أأترك -إن قلت - دارهم خالدٍ زيارته؟ إني أذن - للئيم!
(1) دلائل الإعجاز صـ 96.
وجملة الأمر: أنك تنحو بالإنكار نحو الفعل (1) سواء أكان بمعنى أنه لا يكون، أو يكون، أو كان بمعنى أنه لا ينبغي أن يكون.
والأول: هو التكذيبي، والثاني هو التوبيخي - كما عرفا فيما بعد - وأن بدأت بالاسم، فقلت: أأنت تمنعني؟ أأنت تأخذ على يدي؟ كنت قد وجهت الإنكار إلى نفس الضمير، وأبيت أن يكون بموضع أن يجيء منه الفعل وأن يكون بتلك المثابة، وصرت كأنك قولت: أن غيرك كالذي يستطيع منعي والأخر على يدي، ولست بذاك، ولقد وضعت نفسك في غير موضعك.
وقد تجعله لا يجيء منه الفعل، لأن نفسه تاباه، ولا ترتضيه، كأن تقول أهو يسأل فلاناً؟ هو أرفع همة من ذلك، أهو يمنع الناس حقوقهم؟ هو أكرم من ذاك.
وقد تجعله لا يفعله لصغر قدره، وقصر همته، وأن نفسه نفس لا تسمو، كقولك: أهو يرتاح للجميل؟ هو أقصر همه من ذلك، وأقل رغبة في الخير مما تظن (2).
ويبين عبد القاهر: أن تفسير الاستفهام بالإنكار في مثل هذا، فيه بعض التجوز، أما الذي هو محض المعنى وحقيقته، فهو إنما يراد بالاستفهام تنبيه السامع، حتى يرجع إلى نفسه لتخجل ويرتدع ويعيا
(1) دلائل الإعجاز صـ 80.
(2)
دلائل الإعجاز صـ 81.
بالجواب، ولو كان للإنكار حقيقة، لكان ينبغي ألا يجيء فيما لا يقول عاقل أن يكون حتى ينكر عليه، كقولهم: أتصعد إلى السماء؟ -أتستطيع أن تنقل الجبال؟ أألى رد ما مضى سبيل؟
ولهذا: فإنه لا يقرر بالمحال، وبما لا يقول إنسان أنه يكون إلا على سبيل التمثيل، وعلى أن يقال له: أنك في دعواك ما ادعيت -بمنزله من يطمع في الممتنع".
ومن هذا الضرب: قول الله تعالى: {أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ} فليس أسماع الصم مما يدعيه أحد، فيكون ذلك للإنكار وإنما المعنى فيه على التمثيل والتشبيه، وأن ينزل الذي يظن بهم أنهم يسمعون أو أنه يستطيع أسماعهم، منزلة من يرى أن يسمع الصم ويهدي العمي.
والسر في أن الله تعالى قال: {أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ} ولم يقل: {أتسمع الصم} هو: أن يقال للنبي صلى الله عليه وسلم: أأنت خصوصاً قد أوتيت مقدرة أسماع الصم أو هداية العمي (1)؟
ومن لطيف ذلك: قول ابن أبي عيينة:
فدع الوعيد، فما وعيدك ضائري د أطنين أجنحة الذباب يضير؟
فقد جعله كأنه قد ظن أن طنين أجنحة الذباب بمثابة ما يضير، حتى ظن أن وعيده يضير.
(1) دلائل الإعجاز صـ 82.