الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التقديم والتأخير
يرى عبد القاهر الجرجاني: أنه باب كثير الفوائد، جم المحاسن واسع التصرف بعيد الغاية، لا يزال يفتر لك عن بديعة ويفضى بك إلى لطيفة، ولا تزال ترى شعراً يروقك مسمعه، ويلطف لديك موقعه، ثم تنظر فتجد سبب أن راقك ولطف عندك أن قدم فيه شيء وحول اللفظ عن مكان إلى مكان، غير أنه لم يجد أحداً قد اعتمد فيه شيئاً يجرى مجرى الأصل غير العناية والاهتمام، فقد ظنوا أنه يكفي أن يقال في كل شيء قدم في موضع من الكلام أنه قدم للعناية، ولأن ذكره أهم، من غير أن يذكروا من أين كانت تلك العناية ولم كان أهم؟ ولهذا صغر أم التقديم والتأخير في نفوسهم، وهونوا الخطب فيه.
كما أنه من الخطأ أيضاً - أن يقسم الأمر في تقديم الشيء وتأخيره قسمين فيجعل مفيداً في بعض الكلام، وغير مفيد في البعض الآخر، وأن يعمل تارة بالعناية، وتارة أخرى بأنه توسعة على الشاعر والكاتب حتى تطرد لهذا قوافيه، ولذلك سجعه.
ذلك لأنه من البعيد أن يكون في جملة، النظم ما يدل تارة ولا يدل تارة أخرى.
وقد مضى الأمام عبد القاهر الجرجاني على هدي من هذه الأسس في بحثه لمسائل التقديم والتأخير:
يقول الإمام: "فصل: القول في التقديم: هو باب كثير الفوائد، جم المحاسن، واسع التصرف، بعيد الغاية، لا يزال يفتر لك عن بديعه، ويفضى بك إلى لطيفة، ولا تزال ترى شعراً يروقك مسمعه ويلطف لديك موقعه ثم تنظر فتجد سبب أن راقك ولطف عندك أن قدم فيه شيء وحول اللفظ عن مكان إلى مكان: وأعلم أن تقديم الشيء على وجهين تقديم يقال أنه على نية التأخير وذلك في كل شيء أقررته مع التقديم على حكمه الذي كان عليه وفي جنسه الذي كان فيه كخبر المبتدأ، غذا قدمته على المبتدأ، والمفعول، إذا قدمته على الفاعل كقولك "منطلق زيد" و" ضرب عمراً زيد" معلوم أن (منطلق) و (عمراً) لم، يخرجا بالتقديم عما كان عليه من كون هذا خبر مبتدأ ومرفوعاً بذلك، وكون ذلك مفعولاً ومنصوباً من أجله كما يكون إذا أخرت.
وتقديم لا على نية التأخير: ولكن على أن تنقل الشيء من حكم إلى حكم، وتجعله باباً غير بابه وإعراباً غير إعرابه، وذلك أن تجيء إلى اسمين يحتمل كل واحد منها أن يكون مبتدأ ويكون الآخر خبراً له فتقدم تارة هذا على ذاك وأخرى ذاك على هذا: ومثاله: ما تصنعه (بزيد) و (المنطلق) حيث تقول مرة: "زيد المنطلق) وأخرى: (المنطلق زيد) فأنت في هذا لم تقدم المنطلق على أن يكون متروكاً على حكمه الذي كان عليه مع التأخير، فيكون خبر مبتدأ - كما كان
بل على أن تنقله عن كونه خبراً إلى كونه مبتدأ، وكذلك لم تؤخر زيداً على أن يكون مبتدأ - كما كان - بل على أن تخرجه عن كونه مبتدأ إلى كونه خبراً.
وأظهر من هذا: قولنا (ضربت زيداً)، و (زيد ضربته) لم تقدم زيداً على أن يكون مفعولاً منصوباً بالفعل - كما كان - ولكن على أن ترفعه بالابتداء، وتشغل الفعل بضميره وتجعله في موضع الخبر له، وإذ قد عرفت هذا التقسيم، فأني أتبعه بجملة من الشرح.
وأعلم أنا لم نجدهم اعتمدوا فيه شيئاً يجرى مجرى الأصل غير العناية والاهتمام، قال صاحب الكتاب:
-وهو يذكر الفاعل والمفعول -: كأنهم يقدمون الذي بيانه أهم لهم وهم بشأنه أعني - وأن كانا جميعاً يهمانهم ويعنيانهم - ولم يذكروا في ذلك مثالاً، وقال النحويون: أن معنى ذلك: أنه قد يكون من أغراض الناس في فعل ما أن يقع بإنسان بعينه ولا يبالون من أوقعه كمثل ما يعلم من حالهم في حال الخارجي، يخرج فيعبث ويفسد ويكثر منه الأذى: أنهم يريدون قتله ولا يبالون من كان القتل منه ولا يعينهم منه شيء فإذا قتل وأراد مريد الأحبار بذلك فإنه يقدم ذكر الخارجي، فيقول قتل الخارجي زيد، ولا يقول: قتل زيد الخارجي لأنه يعلم أن ليس في أن يعلموا أن القاتل له زيد جدوى وفائدة فيعنيهم ذكره ويهمهم ويتصل بمسرتهم، ويعلم من حالهم أن الذي هم متوقعون له
ومتطلعون إليه متى يكون وقوع القتل بالخارجي المفسد وأنهم قد كفوا شره وتخلصوا منه.
ثم قالوا: فإن كان رجل ليس له بأس ولا يقدر فيه أن يقتل فقتل رجلاً، وأراد المخبر أن يخبر بذلك فإنه يقدم ذكر الفاعل، فيقول: قتل زيد رجلاً، ذاك لأن الذي يعنيه ويعني الناس من شأن هذا القتل طرافته وموضع الندرة فيه وبعده كان من الظن، ومعلوم أنه لم يكن ناد رأوا بعيداً من حيث كان واقعاً بالذي وقع به ولكن من حيث كان واقعاً من الذي وقع منه، فهذا جيد بالغ، إلا أن الشأن في أنه ينبغي أن يعرف في كل شيء قدم في موضع من الكلام مثل هذا المعنى ويفسر وجه العناية فيه هذا التفسير، وقد وقع في ظنون الناس: أنه يكفي أن يقال: أنه قدم للعناية، ولأن ذكره أهم، من غير أن يذكر من أين كانت تلك العناية ولم كان أهم؟ ولتخيلهم ذلك قد صغر أمر التقديم والتأخير في نفوسهم وهونوا الخطب فيه، حتى أنك لترى أكثرهم يرى تتبعه والنظر فيه ضرباً من التكلف وأن لم تر ظناً أزري على صاحبه من هذا وشبهه.
وكذلك صنعوا في سائر الأبواب، فجعلوا لا ينظرون في الحذف والتكرار والإظهار والإضمار، والفصل والوصل ولا في نوع من أنواع الفروق والوجوه إلا نظرك فيما غيره أهم لك بل فيما أن لم تعلمه لم يضرك