الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بلاغة الجناس:
في أثناء احتجاج عبد القاهر الجرجاني للمعنى على اللفظ - في أول أسرار البلاغة - ذكر أن هناك أقساماً قد يتوهم في بدء الفكرة، وقبل إتمام العبرة أن الحسن والقبح فيها لا يتعدى اللفظ والجرس إلى ما يناجى فيه العقل النفسي، ولكنها إذا حققت النظر، وأمعنت الفكر ترجع إلى هذا الذي يناجى فيه العقل النفسي ثم بين أن من هذه الأقسام التجنيس والحشو.
أما التجنيس: فقد كشف النقاب عن سر إعجابك به قائلاً: "أما التجنيس فإنك لا تستحسن اللفظتين إلا إذا كان موقع معنييهما من العقل حميداً، ولم يكن مرمى الجامع بينهما مرمى بعيداً، أتراك استضعفت تجنيس أبي تمام في قوله - من قصيدة يمدح بها الحسن بن وهب -:
ذهبت بمذهب السماحة فالتوت
…
فيه الظنون: أمذهب أم مذهب؟
واستحسنت تجنيس القائل "حتى نجا من خوفه وما نجا"، وقول المحدث:
ناظراه فيما جنى ناظراه
…
أو دعاني أمت بما أودعاني!
لأمر يرجع إلى اللفظ علم لأنك رأيت الفائدة ضعفت عن الأول وقويت في الثاني ورأيتك لم يزدك بمذهب ومذهب على أن أسمعك حروفاً مكررة
تدوم لها فائدة فلا تجدها إلا مجهولة منكرة، ورأيه الآخر قد أعاد عليك اللحظة كأنه يخدعك عن الفائدة وقد أعطاها، ويوهمك كأنه لم يزدك وقد أحسن الزيادة ووفاها، فبهذه الصريرة صار التجنيس وخصوصاً المستوفى منه، الشفق في الصورة من حلى الشعر ومعدوداً في أقسام البديع.
فقد تبين لك أن ما يعطي التجنيس من الفضيلة لم يتم إلا بنصرة المعنى، إذ لو كان باللفظ وحده لما كان فيه إلا مستحسن ولما وجد فيه معيب مستهجن، ولذلك؟ ؟ ؟ الاستكثار منه والولوع به، وذلك لأن المعاني لا تدين في كل موضع لما يجذبها التجنيس إليه، إذ الألفاظ خدم المعاني، والمعرفة في حكمها، وكانت المعاني هي المالكة سياستها المستحقة طاعتها (1).
فالحسن في التجنيس - عند عبد القاهر - حسن معنوي قبل أن يكون لفظياً، لأنك لا تستحسن اللفظتين إلا إذا كان موقع معنييهما من العقل موقعاً حميداً، ولم يكن مرمى الجامع بينهما فرمى بعيداً، ولأن الفضيلة في التجنيس إذا كانت باللفظ وحده، لكان التجنيس مستحسناً في كل حال، مع أن الأمر ليس كذلك، "لأن المعاني لا تدين في كل موضع لما يجذبها لتجنيس إليه".
وعلى هذا فإن التجنيس لا يستحسن إلا إذا كان مطابقاً لمقتضى الحال، ولهذا فإنه في البلاغة من الصميم.
(1) أسرار البلاغة ص 11، ص 12 (مطبعة الإستقامة).
أما سر استحسان التجنيس - عند عبد القاهر أيضاً - فهو: هذا الخداع اللفظي الذي يخدعك به الشاعر أو الأديب ويبدي لك الكلام في صورة التكرير والإعادة، مع أنه قد تضمن حسن الإفادة والزيادة.
ومع أن عبد القاهر الجرجاني قد ذكر هذه الفائدة للتجنيس - وهي حسن الإفادة مع أن الصورة صورة التكرير والإعادة - فإن بهاء الدين السبكي ينقل عن صاحب كنز البلاغة، عماد الدين إسماعيل بن الأثير الحلبي - وهو من علماء القرن الثامن الهجري - أنه قال: "لم أر من ذكر فائدة الجناس، وخطر لي أنها الميل إلى الإصغاء إليه فإن مناسبة الألفاظ تحدث ميلاً وإصغاء إليها، ولأن اللفظ المشترك إذا حمل على معنى ثم جاء والمراد به معنى آخر كان للنفس تشوف إليه (1). وكأنه لم يطلع على أسرار البلاغة على أنك لا تجد تجنيساً مقبولاً، ولا سجعاً حسناً حتى يكون المعنى هو الذي طلبه واستدعاه وساق المتكلم نحوه، وحتى تجده لا تبتغي به بدلاً، ولا تجد عنه حولاً.
ومن هنا كان أحلى تجنيس تسمعه وأعلاه وأحق بالحسن وأولاه: ما وقع من غير قصد من المتكلم إلى اجتلابه وتأهب لطلبه، أو ما هو لحسن ملاءمته - وإن كان مطلوباً -، بهذه المنزلة وفي هذه الصورة، وذلك
(1) شروح التلخيص جـ 4، ص 411، ص 413.