الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وأخفت أهل الشرك حتى إنه لتخافك النطف التي لم تخلق!
فقد ادعى أبو نواس أن ممدوحه قد أخاف أهل الشرك قاطبة، حتى أنه قد أخاف من لم يخلق منهم وهذا وصف مستحيل عقلاً وعادة، ولهذا فإنه غير مقبول.
وإنما يقبل العلو في حالات ثلاث:
الأولى: أن يدخل عليه ما يقربه إلى الصحة، نحو لفظة (يكاد) في قول الله تعالى:{يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ} فإضاءة الزيت من غير أن تمسه النار، أمر مستحيل عقلاً وعادة، ولكن الذي قربه من الإمكان لفظه (يكاد) ومن هنا كان الغلو في الآية الكريمة مقبولاً.
وفي قول ابن حمد يس الصقلي - يصف فرساً -:
ويكاد يخرج مسرعة من ظله
…
لو كان يرغب في فراق رفيق.
فخروج الفرس عن ظله من شدة السرعة وصف مستحيل عقلاً وعادة، ولكن الذي قربه إلى الصحة هو قوله (ويكاد) ولهذا كان الغلو هنا مقبولاً.
ومما يقرب الغلو إلى الصحة: لفظ (لو) و (لولا)، وحرف التشبيه، و (يخيل) وما أشبهها.
والثانية: أن يتضمن الغلو نوعاً حسناً من التخييل، كما في قول أبي الطيب المتنبي:
أقبلت تبسم، والجياد عوابس
…
يخببن بالحلق المضاعف والقنا
عقدت سنابكها عليها عثيراً
…
لو تبتغي عنقاً عليه لأمكنا
والخبب: ضرب من العدو، وسنابك الخيل أطراف حوافرها، والعثير: الغبار، والعنق: السير السريع يقول: أنك أقبلت مبتسماً، وجيادك عوابس لكثرة ما عليها من حديد الدروع والقنا، وقد بلغت سرعتها أن سنابكها أثارت غباراً انعقد فوقها وأصبح كالأرض، حتى أنها لو أرادت أن تسير مسرعة عليه لأمكنها ذلك، وهذه مبالغة مقبولة، لأن الذي سوغها ما فيها من تخييل حسن، وهو ادعاؤه كثرة الغبار وجعله كالأرض في الهواء.
وقد جمع القاضي الارجاني بين التخييل الحسن ووجود ما يقرب إلى الصحة - في قوله - يصف الليل بالطول -
يخيل لي: أن سمر الشهب في الدجى
…
وشدت بأهدابي إليهن أجفاني
وسمر الشهب بالدجى: أحكمت فيها بالمسامير، والدجى: جمع دجية وهي الظلمة، والأهداب: جمع هدب، وهو شعر أشفار العينين.
وقد ادعى الشاعر هنا أن طول الليل وصل إلى حالة أن الشهب أحكمت في ظلماته بالمسامير، وأن أهداب عينيه قد شدت إلى النجوم بحبال، وهذا وصف غير ممكن عقلاً وعادة، ولكن الذي قربه من الإمكان: هو هذا التخييل الحسن الناشئ عن ادعاء أن هناك حبالاً ومسامير كانت سبباً في وقوف الشهب وشد الأجفان إليها، مع دخول ما يقرب إلى الصحة وهو (يخيل)، ولهذا كان الغلو هنا مقبولاً.
والثالثة: أن يخرج الغلو مخرج الهزل والخلاعة، لأن صاحبهما لا يعد موصوفاً بنقيصة الكذب، كما بعد في الحد.
وذلك مثل قول الشاعر:
أمر بالكرم إن عبرت به
…
تأخذني نشوة من الطرب
أسكر بالأمس أن عزمت على
…
الشرب غداً إن ذا من العجب!
فقد ادعى الشاعر أنه يسكر بالأمس إن عزم على الشرب غداً وهذا أمر غير ممكن عقلاً وعادة، لما فيه من تقدم المعلول على علته، غير إن إخراجه مخرج الهزل والخلاعة، هو الذي جعل الغلو هنا مقبولاً.
على أن (أل) في (الأمس) للجنس، فيشمل أفراده المقدرة في المستقبل، وكذلك المراد بغد، وبهذا صح قوله: أسكر بالأمس، بالمضارع مع أمس، وقوله (أن عزمت) بأن التي تقلب الماضي إلى المستقبل.
والمراد سكره من مروره بالكرام.