الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
نظرية النظم عند عبد القاهر الجرجاني
لما كانت نظرية النظم التي اهتدى إليها عبد القاهر الجرجاني مستقاة من كلام النقاد السابقين عن صحة النظم، وفساده عند الشعراء كالذي رأيته من حديث القاضي الجرجاني، عن روعة النظم وقبحه عند بعض الشعراء، من أمثال: أبي تمام، والبحتري، وأبي الطيب المتنبي وغيرهم، وكان اهتمامه منصرفاً كلية إلى فهم نقاد الشعر لتلك النظرية لأنهم هم الذين استطاعوا أن يكشفوا عن وجه النظم - على حد تعبير عبد القاهر الجرجاني - كما سبق أن أسلفنا -، وكان عليه أن ينوه بمكانة الشعر، وأن يرد على من زهد فيه ولما كانت نظرية النظم قائمة على أساس نحوي، وكان هنالك من يحاول في جدوى النحو وفائدته - كما في مناظرة أبي سعيد السيرافي ويونس بن متى - كان عليه - أيضاً - أن ينوه بعلم النحو وأن يرد على من زهد فيه.
على أنه من الطبيعي أن يتوجه النقد إلى نتاج قرائح الشعراء وإلى ما تضمنته حصائد ألسنتهم من مدح أو هجاء، أو غيرها من أغراض الشعر الأخرى، وأن يعرض كل ذلك على ميزان النقد بإظهار محاسنه ومساوئه بإبراز ما في أشعارهم من سلامة النظم وحسنه أو من فساد، وقبحه
فإذا ما أحسن البعض وسلم نظمه، فإن علة الحسن، وسلامة النظم، ربما لم تكن ظاهرة بينة في ذلك الوقت وإذا ما أساء البعض الآخر وفسد نظمه فإن علة القبح وفساد النظم تبدو بينة جلية، وذلك بمقارنة السيء بالحسن والفاسد بالسليم إذ يبدو الفرق واضحاً جلياً عند المقارنة والموازنة.
وذلك بخلاف ما إذا كانت المقارنة بين أسلوبين كل منهما سليم النظم صحيح التأليف، لأنه ما دام النظم سليماً والتأليف صحيحاً فإن الفرق بين الأسلوبيين لا يبدو واضحاً جلياً، كالذي قالوه من قولهم (قد يخفي سببه عن البحث، ويظهر اثره في النفس لأنك تجد كلامين أحدهما يهزك ويطربك وتنتشي له، والآخر ليس كذلك وهم فصيحان، ثم لا يوقف على شيء مسمن ذلك على علة)(1).
ولهذا كانت المقارنة بين أساليب الشعراء والموازنة بينهم من حيث الإحسان والإساءة - والإجادة والتقصير وعلى الأخص: من حيث سلامة النظم وحسنه وفساده وقبحه، مبينة وموضحة لعلل السلامة والفساد وأسباب الحسن والقبح، ومن ثم فإنها كانت كاشفة عن وجه النظم على حد تعبير عبد القاهر الجرجاني، ولهذا كله فإن عبد القاهر الجرجاني قد أشاد بالشعر، وهي على من زهد في روايته، لأنه عن طريق نقده - وبيان جيده من رديئة، وحسنه من قبيحة يظهر ميزان البلاغة ومعيارها، وهو النظم السليم، الذي غذا ما عرفت طريقة الصحيح، وسبيلة القويم، فقد عرفت معيار النقد الأدبي السليم
(1) ثلاث رسائل في إعجاز القرآن صـ 24.
الذي به تظهر بلاغة القرآن الكريم، وتكشف دلائل إعجازه.
ذلكم هو السر في حديثه عبد القاهر الجرجاني عن الشعر ورد على من زهد فيه، في مطلع كتابه "دلائل الإعجاز" تمهيداً للحديث عن نظرية النظم.
على أن من فضلاء النقاد في العصر الحديث من ذهب إلى غير هذا السبيل الذي سلكناه في بيان السبب الذي من أجله قدم عبد القاهر الجرجاني حديثاً عن الشعر في مستهل كتابة دلائل الإعجاز.
فقد رأي الدكتور أحمد بدوي أن السر في هذا أن عبد القاهر "يرى محاسن الكلام والبلاغة الأخاذة تبدو في الشعر في صورة بارعة ويرى من الخطأ حرمان نفسه، وحرمان كتابه من هذا المورد العذب الذي تتجلى فيه البلاغة، وتتبرج في زينتها، فكان من الضروري أن يبدأ كتابه بالدفاع عن هذا المورد العذب الذي سيستمد منه نماذجه وأمثلته (1) ولو كان الأمر كما ذكر الدكتور أحمد بدوي، لما خص عبد القاهر الشعر بالتمثيل وإعطاء النماذج - حيث تجد عبد القاهر لا يمثل بأي القران إلا نادراً - ولأكثر من التمثيل بالقرآن الكريم الذي تتجلى فيه البلاغة بأروع ما تتجلى في الشعر.
وقد شرح عبد القاهر الجرجاني نظريته في النظم على هذا النحو:
(1) عبد القاهر الجرجاني/ د. أحمد بدوي صـ 377.