الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وثالثها: أنه يأتيك من الشيء الواحد بأشياء عدة، ويشتق من الأصل الواحد أغصاناً
في كل غصن ثمرة على حدة فهو يعطيك من الزند بإبرائه (أي إخراج ناره) شبه البخيل الذي لا يعطيك شيئاً وشبه البليد الذي لا يكون له خاطر ينتج فائدة ويخرج معنى وشبه من يخب سعيه ونحو ذلك.
كما أنه يعطيك من القمر الشهرة في الرجل والنباهة
والعز والرفعة، ويعطيك الكمال عن النقصان، والنقصان بعد الكمال، كقولهم (هلال نما فعا دبدرا)، يراد بلوغ النجل الكريم المبلغ الذي يشبه أصله من الفضل، والعقل وسائر معاني الشرف (1).
أنظر إلى قول أبي تمام، يرثي ولدين لعبد الله بن طاهر وقدمتا في يوم واحد:
لهفى على تلك الشواهد منهما
…
لو أمهلت حتى تصير شمائلاً
لغدا سكونهما حجى وصباهما
…
كرماً وتلك الأربحية نائلاً
إن الهلال إذا رأيت نموه
…
أيقنت أن سيصير بدراً كاملاً.
فقد شبه أبو تمام ما كان ينتظر من كل واحد منهما من النمو والارتقاء في درجات الكمال والفضل حتى يبلغ أعلى مراتب الحجي والكرم، والنوال بما يكون للقمر في نموه من مراتب يرتقي فيها من نقصان إلى زيادة حتى يصبر بدراً كاملاً.
(1) أسرار البلاغة صـ 106، صـ 107.
وهذا المثل بعينه يضرب في ارتفاع الرجل في الشرف والعز من طبقة إلى أعلى منها، كما في قول البحتري:
شف تزيد بالعراق إلى الذي
…
عبدوه بالبيضاء أو ببلنجرا
مثل الهلال بدا فلم يبرح به
…
صوغ الليالي فيه حتى أقمرا
ويعطيك شبه الإنسان في نشأته ونمائه إلى أن يبلغ حد التمام، ثم تراجعه إذا انقضت مدة الشباب، كما قال:
المرء مثل هلال حين تبصرة
…
يبدو ضئيلاً ضعيفاً ثم يتسق
يزداد حتى إذا ما تم أعقبه
…
كر الجديدين نقصائم ينمحق
وكذلك يتفرع من حالتي تمامه ونقصانه فروع "لطيفة" فمن ذلك قول ابن باباك:
وأعرت شطر الملك شطر كما له والبدر ف يشطر المسافة يكمل
وقد قاله في الأستاذ أبي علي وقد استوزه فخر الدولة بعد وفاة الصاحب كما أستوزر أبا العباس الضبي من بعده وقول أبي بكر الخوارزمي:
أراك إذا أيسرت خيمت عندنا
…
مقيماً وإن أعسرت زرت لماماً
فما أنت إلا البدر أن قل ضووه
…
أغب وإن زاد الضياء أقاما
فبهذا المعنى لطيف ولكن العبارة لم تساعده على الوجه الذي يجب، وذلك لأن الأغباب: أن يتخلل وقتي الحضور وقت يخلو منه، وهذا يصلح إذا كان إذا نقص نوره لم يوال الطلوع كل ليلة بل يظهر في بعض الليالي ويمتنع من الظهور في بعض
ولكن الأمر ليس كذلك، لأن القمر على نقصانه يظهر كل ليلة حتى يكون السرار.
وقد قال ابن بابك: في نحو هذا:
كذا البدر ويسفر في تمه فإن خاف نقص المحاق انتقب
بمعنى أن البدر يكشف عن وجهه وهو في مرحلة التمام فإذا خاف النقصان بالمحاق وصنع نقاباً على وجه.
وكذلك ينظر إلى مقابلة البدر للشمس واستمداده من نورها وإلى كون ذلك سبب زيادته ونقصه وامتلائه من النور والائتلاق وحصوله في المحاق، وتفاوت حاله في ذلك، فيصاغ منه كمثال ويبين أشباه ومقاييس، ومن لطيف ذلك قول ابن نباته:
قد سمعنا بالغر من آل ساسا
…
ن ويونان في العصور الخوالي
والملوك الأولى إذا أضاع ذكر
…
وجدوا في سائر الأمثال
مكرمات إذا البليغ تعاطي
…
وصفها لم يجده في الأقوال
وإذا نحن لم نضفها إلى مد
…
حك كانت نهاية في الكمال
إن جمعناهما المر بها الجمـ
…
ع وضاعت فهي ضياع المحال
فهو كالشمس بعدها يملاء البد
…
ر، وفي قربها محاق الهلال
على أن فكرة كون التمثيل يعطيك من الشيء الواحد أشياء كثيرة هي نفسها فكرة القاضي الجرجاني - وفي وساطته - فمن نظراته الفاحصة الناقدة وجد أن التشبيهات قد تتعدد ويكون المشبه به شيئاً واحداً، وتلك مزية من مزايا التشبيه التي لا تكاد تحصى
فقد قال: "وللشعراء في التشبيه أغراض، فإذا شبهوا بالشمس في موضع الحسن أرادوا به البهائم والرونق والضياء ونصوع اللون والتمام، وإذا ذكروه في الوصف بالنباهة والشهرة أرادوا به عموم مطلعها، وانتشار شعاعها، واشتراك العام والخاص في معرفتها وتعظيمها، وغذا قرونه بالجلال والرفعة أرادوا به أنوارها وارتفاع محلها، وإذا ذكروه في باب النفع والأرفاق، قصدوا به تأثيرها في النشوء والنما"(1).
وتلك النظرة الثاقبة من القاضي الجرجاني في التشبيه - قد حدث بعيد القاهر - وتبعه البلاغيون من بعد - أن يذكرها فضيلة من فضائل التشبيه، وأن لم يذكر نفس المثال: الذي ذكره القاضي الجرجاني - وإنما ذكر مثالاً آخر - مماثلاً له.
ولئن جعل القاضي الجرجاني من الشمس مصباحاً مضيئاً لفكرته فلقد جعل عبد القاهر الجرجاني من القمر سراجاً منيراً لترديد نفس الفكرة، واستمع إلى ما يقوله عبد القاهر مردداً به فكرة القاضي الجرجاني "وأنه ليأتيك من الشمس بأشياء عدة ويشقق من الأصل الواحد أغصاناً في كل غصن ثمرة على حدة .. ويعطيك من القمر الشهرة في الرجل والنباهة والعز والرفعة، ويعطيك الكمال عن النقصان، والنقصان بعد الكمال، قولهم هلال نما فعاد بدراً يراد بلوغ النجل الكريم المبلغ الذي يشبه أصله من الفضل والعقل وسائر معاني الشرف (2).
(1) الوساطة صـ 474.
(2)
أسرار البلاغة من صـ 106 إلى صـ 109.
ورابعها: أن المعنى إذا أتاك ممثلاً، فهو في الأكثر ينجلي لك بعد أن يحوجك إلى طلبه بالفكرة، ومن المركوز في الطباع أن الشيء إذا نيل بعد الطلب له والاشتياق إليه كان نيله أحلى، وكان موقعه من النفس أجل وألطف (1)، ولهذا ضرب المثل لكل ما لطف من موقعه ببرد الماء على الظمأ، كما قال الشاعر:
وهن ينبذن من قول يصبن به مواقع الماء من ذي الغلة الصادي
وليس معنى هذا أن يكون التعقيد والتعمية وتعمد ما يكسب المعنى غموضاً، مشرفاً له وزائداً في فضله، لأن عبد القاهر لم يرد هذا الحدث من الفكر والتعب، وإنما أراد القدر الذي يحتاج إليه في نحو قول أبي الطيب:
فإن تفق الأنام وأنت منهم
…
فإن المسك بعض دم الغزال
وقوله:
وما التأنيث للاسم الشمس عيب
…
ولا التذكير فخر للهلال
وقوله:
رأيتك في الذين أرى ملوكاً
…
كأنك مستقيم في محال
وقول النابغة:
فإنك كالليل الذي هو مدركي
…
وأن خلت أن المنتأى عنك واسع
وقوله:
فإنك شمس والملوك كواكب
…
إذا طلعت لم يبد منهن كوكب
(1) أسرار البلاغة من صـ 109 إلى صـ 110.
لأنك تعلم أن هذا الضرب من المعاني كالجواهر في الصدف، ولا يبرز لك إلا بعد أن تشقه عنه، وكالعزيز المحتجب، لا يريك وجهه حتى تستأذن عليه، ثم ما كل فكر يهتدي إلى وجه الكشف عما اشتمل عليه، ولا كل خاطر يؤذن له في الوصول إليه، فما أحد يفلح في شق الصدفة، ويكون في ذلك من أهل المعرفة (1).
وأما التعقيد المذموم، فهو الذي ينشأ من عدم ترتيب اللفظ ترتيباً بمثله تحصل الدلالة على الغرض، حتى إذا احتاج السامع أن يطلب المعنى بالحيلة ويسعى إليه من غير الطريق.
كما في قول الشاعر:
وكذا اسم أغطية العيون جفونها
…
من أنها عمل السيوف عوامل
وقوله:
ثانيه في كبد السماء ولم يكن
…
كاثنين فإن إذ هما في الغار
وقوله:
يدي لمن شاء رهن من يذق جرعاً من راحتيك دري: ما الصأب والعمل وإنما ذم هذا الجنس: لأنه أحوجك إلى فكر زائد على المقدار الذي يجب في مثله، وكدك بسوء الدلالة، وأودع المعنى لك في قالب غير مستو ولا مملس، بل خشن مضرس، حتى إذا رمت إخراجه منك عسر عليك وإذا خرج خرج مشوه الصورة ناقص الحس.
على أن المعنى الذي تحصل عليه من أعمال الفكر والروية إنما يزيدك فرحاً وأنشأ وسروراً، إذا كان لذلك أهلاً، فأما إذا كنت معه كالفائدة
(1) أسرار البلاغة صـ 111.
في البحر، يحتمل المشقة العظيمة، ويخاطر بالروح، ثم يخرج الخرز، فالأمر بالصند مما بدأت به.
ولذلك كان أحق أصناف لتعقيد بالذم، ما يتعبك، ثم لا يجدي عليك، ويورقك ثم لا يروق لك، وما سبيله إلا سبيل البخيل الذي يدعوه لوم في نفسه، وفساد في حسه إلى أن لا يرضي بضعته في بخله وحرمان فضله حتى بأبي التواضع ولين القول، فيأتيه ويشمخ بأنفسه، ويسوم المتعرض له باباً ثانياً كمن الاحتمال تناهياً في سخفه.
أو كالذي لا يؤيك من خبره في أول الأمر فتستريح إلى الياس ولكنه يطمعك ويحسب على المواعيد الكاذبة حتى إذا طال العناء وكثر الجهد، تكشف عن غير طائل وحصلت منه على ندم لتعبك في غير حاصل، وذلك مثل ما تجده لأبي تمام من تعسفه في اللفظ وذهبه به في نحو من التركيب لا يهتدي النحو إلى إصلاحه، وأغراب في الترتيب يعمي الإعراب في طريقه ويضل في تعريفه.
والأبيات السالفة هي التي عناها عبد القاهر، والتي سبق أن أشرنا إلى أن القاضي الجرجاني قد أوردها في كتاب الوساطة ونبه إلى أنها لم ترتب ترتيباً سليماً يراعي فيه قانون النحو، وأن القاضي الجرجاني من خلال نقيده لمثل هذه الأبيات قد كشف عن وجه النظم، فبينه عبد القاهر في دلائل الإعجاز.
ولعلك تلاحظ معي أن عبد القاهر هنا - وأن ذكر أن أبا تمام قد تعسف في لفظه وترتيب لكماته، الذي ضل معه النحو وعمى الإعراب لم يهتد إلى عبارة "توخي معاني النحو فيما بين الكلم" كما اهتدى
إليها وهو يعالج نفس الأبيات في دلائل الإعجاز (1)، مما يدل على أن عبد القاهر - وهو يؤلف "الأسرار" لم يكن قد اهتدى إلى ترجمة لنظريته في النظم، وبالتالي فإن تأليف "أسرار البلاغة" كان قبل تأليف "دلائل الإعجاز".
وليس معنى أن يكون الكلام في غاية الوضوح وعلى أبلغ ما يكون من الإبانة، أنه يغنيك عن الفكرة إذا كان المعنى لطيفاً ذلك لأن المعاني اللطيفة لا بد فيها من بناء ثان على أول، ورد تال على سابق.
وإن أردت دليلاً على هذا، وشاهداً ينطبق بصحته فالنظر إلى قول البحتري (2) في المدح:
دان على أيدي العفاة وشاسع
…
عن كل ند في الندى وضريب
كالبدر وافرط في العلو وضووه
…
للعصبة السارين جد قريب
أفلست تحتاج - في الوقوف على الغرض من قوله "كالبدر أفرط في العلو" - إلى أن تعرف البيت الأول، فتتصور حقيقة المراد منه - ووجه المجاز في كونه دانياً شاسعاً، وترقم ذلك في قلبك، ثم تعود إلى ما يعرض البيت الثاني عليك من حال البدر ثم تقابل إحدى الصورتين بالأخرى، وترد البصر من هذه إلى تلك، وتنظر إليه وكيف شرط في العلو الإفراط، ليشاكل قوله:(شاسع) لأن الشسوع هو الشديد من البعد ثم قابله بما لا يشاكله من مراعة التناهي في القرب فقال: (جد قريب)؟
(1) أنظر دلائل الإعجاز صـ 56، والوساطة صـ 89، صـ 79.
(2)
أسرار البلاغة صـ 90.
هذا هو الذي عناه عبد القاهر الجرجاني بالحاجة غلى الفكر فيه، أن المعنى لا يحصل لك إلا بعد انبعاث منك في طلبه واجتهاد في نيله (1).
على أن المعنى الذي يحوجك إلى أعمال الفكر والروية في استخراجه، وأن لم تحاول استخراجه بأعمال فكرك ورويتك فقد أعمل فيه الأديب أو الشاعر فكره ورويته، ومن الطبيعي: أن الشيء إذا علم أنه لم ينل في أصله إلا بعد التعب ولم يدرك إلا باحتمال النصب كان للعلم بذلك من أمره ما يدعو الناس إلى تعظيم شأنه وتفخيم أمره - مثل ما يكون لمباشرة الجهد فيه، وملاقاة الكرب دونه: "وإذا عثرت يالهوينا على كنز من الذهب لم تخرجك سهولة وجوده إلى أن تنسى جملة أنه الذي كد الطالب، وحمل المتاعب، حتى إن لم تكن فيك طبيعة من الجود تتحكم عليك، ومحبة للثناء تستخرج النفيس من يذيك، كان من أقوى حجج الصنن الذي يخامر الإنسان أن تقول (أن لم يكدني فقد كد غيري)، كما يقول الوارث للمال المجموع: عفواً إذا ليم على بخله به، وفرط شحه عليه: إن لم يكن كسبي وكدي، فهو كسب والدي وجدي، ولئن لم الق فيه عناء، فلقد عاني سلفي فيه الشدائد - ولقوا في جمعه الأمرين، أفاضيع ثمروه وافرق ما جمعوه، وأكون كالهادم لما أنفقت الأعمال في بنائه.
(1) أسرار البلاغة صـ 114، صـ 115.