الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وثانيها: أن لتصور الشبه بين الشيء في غير جنسه وشكله
والتقاط ذلك له من غير محلته باباً آخر من الظرف واللطف، ومذهباً من مذاهب الإحسان لا يخفي موضعه من العقل، لأنك ترى به الشيئين مثلين متباينين، ومتألفين مختلفين كما في قول ابن المعتز:
ولا زوردية تزهو بزرقتها
…
بين الرياض على حمر اليواقيت
كأنها فوق قامات ضعفن بها
…
أوائل النار في أطراف كبريت
فقد أراك شبهاً لنبات غصن يرف وأوراق رطبة من لهب نار مستول عليه البيس ومبنى الطباع وموضع الجبل على أن الشيء إذا ظهر من مكان لم يعهد ظهوره منه وخرج من موضع ليس بمعدن له، كانت صبابة النفوس به أكثر، وكان بالشغف منها أجدر.
ولا شك أن التمثيل بجمعة بين الشيئين المختلفين في الجنس مما يحرك قوي الاستحسان بل أنه بعمل عمل السحر في تأليف المتباينين حتى يختصر ما بين المشرق والمغرب ويجمع ما بين المشئم والمعرق وهو بربك للمعاني الممثلة بالأوهام شبهاً في الأشخاص الماثلة والأشباح القائمة، وينطبق لك الأخرس ويعطيك البيان من الأعجم، ويريك الحياة في الجماد ويريك التئام عين الأصنداد، وأنظر إلى قول الشاعر:
أنه نار في مرتقى نظر الحاسد
…
ماء جار مع الإخوان
فقد جعل نفسه ناراً، وماء في آن واحد.
وقول الشاعر:
خشن في عيون أعدائه أقبـ
…
ـح من ضيفه رأته السوام
فقد جعل ممدوحه حسناً قبيحاً في وقت واحد.
وقول الشاعر:
له منظر في العين أبيض ناصع
…
ولكنه في القلب أسود أسفع
فقد جمل الشيء أبيض وأسود في حال واحد.
على أن عبد القاهر الجرجاني لا يقصد بقول هذا: أنك متى ألفت الشيء بالبعيد عنه في الجنس على الجملة، فقد أصبت وأحسنت ولكنه يشترط لذلك أن تصيب بين المختلفين في الجنس وفي ظاهر الأمر نهها صحيحاً معقولاً، ونجد للملاءمة والتأليف السوي بينهما مذهباً وإليهما سبيلاً، وحتى يكون ائتلافهما الذي يوجب تشبيهك من حيث العقل والحدس في وضوح اختلافهما من حيث العين والحسن، فأما أن تستكره الوصف، تروم أن تصوره حيث لا يتصور فلا لأنك تكون في ذلك بمنزلة الصانع الأخرق، يصنع في تأليفه وصوغه الشكل بين شكلين لا يلائمانه ولا يقبلانه، حتى تخرج الصورة مضطربة وتجيء فيها نتو، ويكون للعين عنها من تفاوتها نبو، ولم يرد بقوله: أن الحذق في إيجاد الائتلاف بين المختلفات في الأجناس: أنك تقدر أن تحدث هناك مشابهة ليس لها أصل في العقل، وإنما المعنى أن هناك مشابهات خفية يدق المسلك إليها، فإذا تغلغل فكرك فأدركها، فقد استحققت الفضل.
ووازن ذلك: أن القطع التي يجيء من مجموعها صورة الشنف والخاتم أو غيرها من الصور المركبة من أجزاء مختلفة الشكل لو لم يكن بينها تناسباً مكن ذلك التناسب أن يلائم بينها الملاءمة المخصوصة ويوصل الوصل الخاص، لم يكن ليحصل لك من تأليفها الصورة المقصودة.
ألا ترى أنك لو جئت بأجزاء مخالفة ثم أردتها على أن تصير إلى الصورة التي كانت من تلك الأولى طلبت ما يستحيل (1) وقد ذكر الدكتور محمد أبو موسى: أن لهذه الفكرة منبتاً عند الجاحظ، مما رواه من قول سهل بن هرون في بيان أن الناس لو سمعوا رجلين كلاهما على مقدار واحد من البلاغة وكان أحدهما قبيحاً ذميماً والآخر جميلاً نبيلاً، لكان إعجابهم بالقبيح الذميم أكثر من أعجابهم بالآخر وذلك كما يقول: لأن الشيء من غير معدنه أغرب وكلما كان أغرب كان أبعد في الوهم، وكلما كان أبعد في الوهم كان أطرف، وكلما كان أطرف كان أعجب، وكلما كان أعجب كان أبدع، وإنما ذلك كنوادر وكلام الصبيان وملح المجانين، فإن ضحك السامعين من ذلك أشد وتعجبهم به أكثر، والناس موكلون بتعظيم الغريب واستطراف البعيد وليس لهم في الموجود الراهن، وفيما تحت قدرتهم من الرأي والهوى مثل الذي لهم في الغريب القليل، وفي النادر الشاذ.
ثم يقول الدكتور أبو موسى "وقد انتفع عبد القاهر بذلك النص انتفاعاً ذكياً في باب التمثيل وبيان أثره في النفوس، ولا بد أن يكون ذلك أساس الفرق في التشبيه الغريب البعيد، والمبتذل القريب لأن مسألة ظهور الشيء من مكان لم يعهد ظهوره منه - التي هي لب هذا النص - محور أساسي في دراسة أسباب تأثير التمثيل، وأسباب الغرابة والطرافة في التشبيه مطلقاً (2).
(1) أسرار البلاغة صـ 121، صـ 122.
(2)
خصائص التراكيب صـ 18، صـ 19.
وهذا كلام جيد بالغ الجودة، ولكن عبد القاهر الجرجاني لم يحوجنا إلى أعمال الفكر والروية حتى نهتدي إلى منبع فكرته عن بعد التشبهي وغرابته - والتي تدور حول أعمال الفكر والروية فقد صرح بأنه نقل فكرته هذه عن الجاحظ، فقال "وقال الجاحظ في أثناء فصل يذكر فيه ما في الفكر والنظر ومن الفضيلة -"وأين تقع لذة البهيمة بالعلوفة، ولذة السبع يلطع الدم وأكل اللحم" من سرور الظفر بالأعداء، ومن انفتاح باب العلم بعد إدمان قرعة وبعد: فإذا أعدت الحلبات لجري الجياد، ونصبت الأهداف ليعرف فضل الرماه في الأبعاد والسداد، فرهان العقول التي تستبق، ونضالها الذي تمتحن قواها في تعاطيه هو الفكر والروية والقياس والاستنباط ولن يبعد المدى في ذلك - ولا يدق المرمى إلا بما تقدم من تقرير الشبه بين الأشياء المختلفة، فإن الأشياء المشتركة في الجنس المتفقة في النوع، تستغني بثبوت الشبه بينها وقيام الاتفاق فيها عن تعمل وتأمل في إيجاب ذلك لها وتثبيته فيها، وأنها لصنعة تستدعي جودة القريحة والحذق الذي يلطف ويدق في أن يجمع أعناق المتنافرات المتباينات في ريقه، ويعقد بين الأجنبيات معاقد نسب وشبكة، وما شرفت صنعة، ولا ذكر بالفضيلة عمل إلا لأنهما يحتاجان من دقة الفكر ولطف النظر ونفاذ الخاطر إلى ما لا يحتاج إليه غيرهما (1).
(1) أسرار البلاغة صـ 117، صـ 118، صـ 119.
على أن القاضي الجراجاني قد سبق عيد القاهر الجرجاني في تقسيم التشبيه إلى البعيد القريب والغريب المبتذل، وإرجاع البعيد الغريب إلى أعمال الفكر والروية، والقريب المبتذل إلى أنه لا يحتاج إلى أعمال الفكر والروية، فقد ذكر القاضي الجرجاني في السرقات الشعرية تشبيهات كثيرة قد تداولت بين العرب وصنفها صنفين: عام مشترك: وأرجع تداوله وكثره ظهره إلى أنه مركب في النفس تركيب الخلقة (أي أنه لا يحوج في فهمه إلى أعمال الفكر والروية) وصنف سبق إليه المتقدم، وأرجع تداوله إلى كثره استعماله واستفاضته على ألسنة الشعراء، وأن لم يكن قد أتى إلا عن روية كثيرة أو فكر طويل (1).
وقد أتى القاضي الجرجاني بألوان من التشبيه الذي يعتبره البلاغيون قريباً مبتذلاً، وبين أن الشعر قد تصرفوا فيه بما أخرجه عن دائرة الابتذال إلى دائرة الاختراع والابتداع (2) فأوحت هذه الفكرة إلى عبد القاهر الجرجاني أن يبحث مسألة التصرف في التشبيه القريب المبتذل بما يجعله بعيداً غريباً (3).
(1) الوساطة صـ 184، صـ 185.
(2)
الوساطة صـ 186، صـ 187، صـ 188.
(3)
أسرار البلاغة صـ 127.