الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المنابع التي أستقى منها عبد القاهر فكرة المنظم
عندما تحدى القرآن الكريم العرب أن يأتوا ولو بمثل أقصر سورة منه، وعجزوا عن ذلك ضاع صوابهم، وضربوا أخماساً في أسداساً من حيراتهم، لأنهم لم يستطيعوا مجاراة القرآن الكريم في بلاغته، وهم أرباب الفصاحة وفرسان البلاغة، وسادة الكلام! ووصفوا القرآن تارة بأنه شعر، وتارة أخرى بأنه سحر.
أما أنه شعر: فلأنهم رأوه منظوماً، ولكنه نظم خاص، فلا هو بالشعر، وفيهم الشعراء المغلقون، ولا هو بالنثر وفيهم الخطباء المفوهون! .
وأما أنه سحر: فلأنهم وجدوا له وقعاً في قلوبهم لم يستطيعوا مغالبته، وتأثيراً في نفوسهم لم يقدروا على التخلص منه.
على أنه أحد خصوم الرسول الألداء - ويقال أنه الوليد بن المغيرة المخزومي - قد استمع إلى النبي صلى الله عليه وسلم -وهو يتلو بعض أي القرآن الكريم: فقال: " والله لقد سمعت من محمد كلاماً ما هو من كلام الأنس، ولا هو من كلام الجن " وأن له لحلاوة وأن عليه لطلاوة" (1)
(1) تفسير الزمخشري في سورة المدثر.
وقد جاء في حديث أبي ذر - في سبب أسلامه - أنه قال - قال لي أخي أنيس: أن لي حاجة إلى مكة، فأنطلق فراث فقلت: ما حبسك؟ قال: لقيت رجلاً يقول أن الله تعالى أرسله: فقلت: فما يقول الناس؟ قال: يقولون: شاعر، ساحر، كاهن، قال أبا ذر: وكان أنيس أحد الشعراء فقال: تالله لقد وضعت قوله على أقراء الشعراء فلم يلتئم على لسان أحد، ولقد سمعت الكهنة فما هو بقولهم، والله أنه لصادق، وأنهم لكاذبون. (1)
والحق أن القرآن الكريم ليس شعراً، وليس سحراً، فقد أقسم الله تعالى للعوب في محكم كتابه قائلاً لهم: فَلا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ (38) ومَا لا تُبْصِرُونَ (39) إنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) ومَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَّا تُؤْمِنُونَ (41) ولا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ" (2)
ولما بحث العلماء مسألة الإعجاز القرآني، لم تغب عن أذهانهم فكرة النظم القرآني - على الرغم من أن منهم من ذهب إلى أن القرآن الكريم معجزة لتضمنه أخباراً غيبية، كالأخبار عن الأمم السابقة، وكالأخبار عما سيحدث في المستقبل ومنهم من ذهب إلى أن الله تعالى قد صرف العرب عن معارضة القرآن الكريم - وأن كانت في مقدورهم - ألا أن فكرة النظم هي التي انتصرت في النهاية كسر
(1) ثلاث رسائل في إعجاز القرآن الكريم صـ 124، صـ 125.
(2)
الحاقة (38 - 42) ..
عظيم لإعجاز القرآن الكريم.
فها هو أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ المتوفى سنة 255 هـ يؤديه إحساسه العميق بروعة النظم، وما يكسبه الكلام من الماء والرونق والحيوية والنضرة والروعة إلى أن يصيح في معاصريه: أن أعجاز القرآن الكريم في نظمه، ويؤلف في ذلك كتاباً، ولكنه يسقط من يد الزمن، (1) ولكنه يكرر هذا المعنى في كتاباته، كقوله" في كتابنا المنزل الذي يدلنا على أنه صدق نظمه البديع الذي لا يقدر على مثله
العباد. (2)
وها هو الأديب اللغوي المحدث أبو سليمان حمد بن محمد بن إبراهيم الخطابي البستي المولود في سنة 319 هـ، والمتوفى سنة 388 هـ يصنف رسالة في " بيان إعجاز القرآن".
وفي هذه الرسالة يقرر أن الناس قديماً وحديثاً قد ذهبوا في هذا الموضوع من القول كل مذهب، ولكنهم لم يصدروا عن رى ثم يناقش فكرة الصرفة، ويد حصنها ولا يرتضيها، ثم يناقش فكرة تضمن القرآن الكريم للأخبار المستقبلة، ولكنه لا يرتضيها شرحاً لأسرار الإعجاز.
(1) البلاغة تطور وتاريخ صـ 52.
(2)
الحيوان جـ 4 صـ 90 ..
وأما القول بأن السر في إعجاز القرآن الكريم إنما هو بلاغته التي أعجزت العرب، فهو رأي صحيح، غير إن أصحاب هذا الرأي - وهم الغالبية العظمى - لم يحاولوا أن يتبينوا مرجع هذه البلاغة قائلين: قد يخفى سببه عن البحث، ويظهر أثره في النفس، لأنك تجد كلامين: أحدهما يهزك ويطريك وتنتشي له، والآخر لا يهزك ولا يطريك، وهما معاً فصيحان، ثم لا يوقف لشيء من ذلك على علة!
ومثل هذا القول لا يقنع في مثل هذا العلم، ولا يشفي من داء الجهل به، وقد أستشهد بعضهم على هذا بمثل ما فعل ذو الرمة وجرير:
فقد ذكرت الرواة أن جريراً مر بذي الرمة وقد عمل قصيدته التي
أولها: نبت عيناك عن طلل بحزوى
…
عفتة الريح وامتننح القطارا
فقال: ألا أنجدك بأبيات تزيد فيها! ، فقال: نعم، فقال:
يعد الناسبون بني تميم
…
بيوت المجد أوسمة كباراً
يعدون الرباب وآل تميم
…
وسعداً ثم حنظلة الخيارا
ويذهب بينها المرئي لغوا
…
كما ألغيت في الدية الحوارا
فوضعها ذو الرمة في قصيدته، ثم مر به الفرزدق، فسأله عما أحدث من الشعر، فأنشد القصيدة، فلما بلغ هذه الأبيات
قال: ليس هذا من بحرك: مضغها أشد لحين منك! قال: فاستدركها بطبعه، وفطن لها بلطف ذهنه. (1)
فلابد - أذن - من سبب لاستحسان كلام دون آخر: وبحث عن السبب فوجده، ولم يتعد هذا السبب النظم.
فالسبب الحقيقي - في رأي الخطابي - إن أجناس الكلام مختلفة فمنها البليغ الرصين الجزل، ومنها: الفصيح القريب السهل، ومنها الجائز الطلق الرسل.
والقسم الأول: هو أعلى طبقات الكلام وأرفعه، والقسم الثاني هو أوسط الكلام وأقصده، والقسم الثالث: هو أدناه وأقربه.
وقد حازت بلاغة القرآن الكريم من كل هذه الأقسام الثلاثة حصة، وأخذت من كل نوع من أنواعها شعبة، فانتظم بامتزاج هذه الأوصاف الثلاثة نمط من الكلام يجمع بين الفخامة والعذوبة، فكان اجتماع هذين الأمرين الفخامة والعذوبة - في نظمه - مع نبو كل واحد منهما عن الآخر فضيلة خص بها القرآن الكريم.
ولا تقوم أجزاء الكلام إلا على هذه الأمور الثلاثة: (لفظ حامل، ومعنى قائم، ورباط لهما ناظم).
(1) ثلاثة رسائل في إعجاز القرآن صـ 25 ..
ومن هنا كانت فكرة النظم - كما نرى - وهي الفكرة التي أستقى منها عبد القاهر الجرجاني، ومن كتابات أخرى تالية لها حتى نضجت في ذهنه فكرة النظم، وأصبحت نظرية متكاملة واضحة المعالم والخطوط في كتابه "دلائل الإعجاز".
وأما أن النظم هو أساس صور البيان - كما يتضح عند الحديث عن النظم عند عبد القاهر - فقد استقاها عبد القاهر من قول الخطابى:
" وأما رسوم النظم فالحاجة إلى الثقافة والحذق فيها أكثر، لأنها لجام الألفاظ، وزمام المعاني، وبه تنتظم أجزاء الكلام ويلتئم بعضه ببعض، فتقوم له صورة في النفس يتشكل بها البيان". (1)
على أن الخطابي قد وجد لإعجاز القرآن وجهاً آخر: وهو صنيعة بالقلوب وتأثيره في النفوس، فإنك لا تسمع كلاما غير القرآن منظوماً ولا منثوراً إذا قرع السمع خلص له إلى القلب من اللذة والحلاوة في حال، ومن الروعة والمهابة في أخرى ما يخلص منه إليه، تستبشر به النفوس، وتنشرح له الصدور، حتى إذا أخذت حظها منه عادت مرتاعة، قد عراها الوجيب والقلق، وتغشاها الخوف والغرق، تقشعر منه الجلود، وتنتزع له القلوب، يجول بين النفس ومضمراتها وعقائدها الراسخة فيها، فكم من عدو للرسول صلى الله عليه وسلم من رجال العرب وفتاكها أقبلوا يريدون اغتياله وقتله، فسمعوا آيات
(1) ثلاث رسائل في إعجاز القرآن صـ 36.
من القرآن الكريم، فلم يلبثوا حين وقعت في مسامعهم أن يتحولوا عن رأيهم الأول، وأن يركنوا إلى مسالمته، ويدخلوا في دينه وصارت عداوته موالاة، وكفرهم إيماناً "وقصة إسلام عمر بن الخطاب رضي الله عنه خير شاهد على هذا. (1)
ولعلك لاحظت أن الخطابي قد ركز على أمرين لبيان أعجاز القرآن الكريم، وهما: النظم وتأثير القرآن في النفوس، وأن هذين الأمرين قد لاحظهما هو بدوره من وصف العرب للقرآن الكريم حين تحداهم - تارة بأنه شعر، لأنهم رأوه منظوماً (2) - على حد تعبير الخطابي نفسه - وتارة بأنه سحر وذلك لتأثيره في نفوسهم تأثيراً لم يستطيعوا دفعه عنها.
ولعلك تلاحظ - أيضاً - أن هذين الأمرين هما اللذان أدار عليها عبد القاهر كتابيه: دلائل الإعجاز وأسرار البلاغة، فقد أراد أولهما على نظرية النظم، وأدار الثاني على مدى تأثير صور البيان في النفوس ويمضي في نفس الطريق أبو بكر محمد بن الطيب الباقلاني المتوفى سنة ×××× وهو من المتكلمين على مذهب الأشاعرة - في كتابه "إعجاز القرآن"، فيرد على مطاعن الملاحدة على أسلوب القرآن الكريم، مبيناً أن الحاجة
(1) ثلاث رسائل صـ 70، صـ 71.
(2)
ثلاث رسائل صـ 28.
إلى الحديث عن إعجاز القرآن أمس من الحاجة إلى البحوث اللغوية والنحوية، وأن الجاحظ قد صنف في نظم القرآن كتاباً، غير أنه لم يزد فيه على ما قاله المتكلمون من قبله، أما هو فيصرح بأنه سيضيف إلى من سبقوه ما يجب وصفه من طرق البلاغة وسبل البراعة.
وفي أول فصل من كتابه يبين أن القرآن الكريم معجز ببلاغته ثم يعقد فصلاً ثانياً يرد على القائلين بفكرة الصرفة، كالنظام والرمانى.
وفي فصل أخر يبين وجوه الإعجاز القرآني - في رأيه ورأي أصحابه الأشعريين - فيرجعها إلى أمور ثلاثة:
أولهما: ما تضمنه القرآن الكريم من الأخبار عن الغيوب وثانيهما: ما تضمنه من القصص الديني وسير الأنبياء، مع أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان أمياً، لا يقرأ ولا يكتب. وثالثهما: بلاغته. وهنا يتحدث عن نظرية الإعجاز القرآني، فيقول عن القرآن الكريم "أنه بديع النظم عجيب التأليف، متناه في البلاغة إلى الحد الذي يعلم عجز الخلق عنه.
ولا يزيد على هذا القدر في رويته لفكرة النظم، ولم يتعمق في الوقوف على خصائص النظم - كما فعل عبد القاهر من بعده - اللهم إلا أن يقرر أن القرآن الكريم لا تتفاوت آية ولا تتباين، بخلاف كلام الفصحاء فأنه يتفاوت من موضوع إلى موضوع. وأن القرآن الكريم يخرج في
بلاغة صياغته عن طوق الأنس والجن.
ثم يذكر أنه مما يبين لك روعة القرآن الكريم: أن الكلمة منه إذا ذكرت في تضاعيف كلام فإنهما تتألق بين جاراتها تألقاً، وأنه قد وضع في أوائل بعض صوره حروفاً مجموعها: أربعة عشر حرفاً هي نصف حروف المعجم، ليبين بذلك أن كلامه منتظم من نفس الحروف التي يستخدمها العرب، ومع ذلك فأنهم قد عجزوا عن معارضته.
هذا إلى أنه قد خلا من الغريب الوحشي المستكره، ومن الصنعة المتكلفة السقوتة.
وبهذا فإن الباقلاني لم يخرج عن قوله: أن القرآن الكريم معجز ببلاغته، وأن بلاغته ترجع إلى نظمه الفريد، ولم يستطع الولوج إلى نظرية النظم لبيان أسرارها وخصائصها.
غير أن أدبياً معاصراً له هو القاضي على بن عبد العزيز الجرجاني المتوفى سنة 312 هـ قد تحدث عن النظم في كتابه " الوساطة بين المتنبي وخصومه" واستطاع أن يزيل شيئاً من الغموض الذي كان يحيط بنظرية النظم، وأن يزيح الستار قليلاً عن بعض جوانبها، وأن يلهم تلميذه، عبد القاهر من بعده كيفية الوصول إلى معالمها، وأن يعطيه النبراس الذي يهتدي به للوقوف على أسرارها.
ومع أن القاضي الجرجاني لم يكن يتعرض لنظرية الإعجاز القرآني
في كتابه هذا، إلا أنه قد تحدث عن النظم باعتباره معياراً من معاييره البلاغية في وساطته بين المتنبي وخصومه.
أورد القاضي الجرجاني - في وساطته - كلمة "النظم" كثيراً، كقوله "فما هذا من المعاني التي يضيع لها حلاوة اللفظ، وبهاء الطبع ورونق الاستهلال - ويشيح عنها حتى يهلهل لأجلها النسج ويفسد النظم"(1) وكقوله: وهو يعيب على قول أبي تمام:
بدى لمن شاء رهن لم يذق جرعاً من راحتيك درى ما الصاب والعسل
فحذف عمدة الكلام وأخل بالنظم" (2) وكقوله "وهلا بلغ أقصى ما يحتمله الوزن وأكثر ما يمكنه النظم" (3) وكقوله: ومنها ما خانه السبك، فساء ترتيبه، وأخل نظمه"(4) وكقوله: "وبين الكلامين في صحة النظم وعذوبة المنطق ما تراه"(5) وكقوله: " وتتبين تفاوتها في سوء الترتيب واختلال النظم"(6).
(1) الوساطة صـ 98.
(2)
الوساطة صـ 79.
(3)
الوساطة صـ 99.
(4)
الوساطة صـ 100.
(5)
الوساطة صـ 192.
(6)
الوساطة صـ 417.
وكقوله في قول الأعشى:
إذا كان هادئ الفتى في البلاد صدر القناة - أطاع الأمير "فإن هذا البيت - كما تراه - سليم النظم من التعقيد - بعيد اللفظ عن الاستكراه"(1)
وكقوله في بيت الطيب:
إذا ما ضربت القرن ثم أجزتني فكل ذهباً لي مرة منه بالكلم
فلم يحفل بسواه النظم، وهلهلة النسج لما حصل له الغرض في أنهار الطعنة" (2)
وبعد: فماذا قصد الجرجاني من كلمة النظم في المواضع التي ذكرها فيها؟
في الواقع أنه لم يكن يقصد منها - إلا ما قصده تلميذه عبد القاهر الجرجاني من بعده، وهو تتبع معاني النحو فيما بين الكلم، إذ من المستبعد أن يكون قد قصد بها وزن الشعر مثلاً، لأن الأبيات التي نقدها في هذه المواضع لم تكن مختلة الوزن، كما أنه لا يمكن أن يكون قد قصد بها مجرد ترتيب لا يكون على حسب معاني النحو، لأن الترتيب إذا كان بهذه المثابة أدى إلى هلهلة النسج التي يأباها فلم يبق إلا أن يكون قد قصد بها تتبع معاني النحو فيما بين الكلم - كما قصد عبد القاهر الجرجاني تلميذه من بعده
(1) الوساطة صـ 418.
(2)
الوساطة صـ 424.
ولقد شد انتباهي طويلاً ذلك الفصل الذي عقده في وساطته وعنوان له بعبارة "مواقع الكلام". فلقد حاول أن يثبت فيه أن مزية الكلام إنما ترجع إلى نظمه، لا إلى جزالته وقوته، ولا إلى ما فيه من تنسيق وتزويق، ولكنه لا يستطيع أن يبين لنا أسباب تلك المزية كما بينها عبد القاهر من بعده - إذ هو لا يستطيع أن يفصح لنا عن تلك الأسباب بأكثر من أن هذا أمر تستخبر به النفوس المهذبة وتستشهد عليه الأذهان المثقفة، بل أنه يجهر بأنك لا تستطيع أن تذكر لهذه المزية سبباً، بل ويقيم الدليل على هذا من الأمور الحسية المشاهدة، فيقول، وأنت قد ترى الصورة تستكمل شرائط الحسن، وتستوفى أوصاف الكمال، وتذهب في الأنفس كل مذهب، وتقف من التمام بكل طريق، ثم تجد أخرى دونها في انتظام المحاسن والتئام الخلقة وتناصف الأجزاء، وتقابل الأقسام وهي أحظى بالحلاوة، وأدنى إلى القبول، وأعلق بالنفس، وأسرع ممازجة للقلب، ثم لا تعلم - وإن قاسيت واعتبرت ونظرت وفكرت - لهذه المزية سبباً، ولما خصت به مقتضياً".
فالقاضي الجرجاني يدرك جمال الأساليب، ولكنه لا يكلف نفسه عناء البحث عن أسبابه، وكيف لا؟ وهو الذي يعتبر السائل عن
هذا السبب متعنتا متجافا؟ ولو قيل لك: كيف صارت هذه الصورة وهي مقصورة عن الأولى في الأحكام والصفة وفي الترتيب والصنعة، وفيما يجمع أوصاف الجمال، وينتظم أسباب الاختيار أحلى وأرشق وأحظى وواقع؟ لأقمت السائل مقام المتعنت المتجانف، ورد دثه رد المستبهم الجاهل، ولكان أقصى ما في وسعك وغاية ما عندك أن تقول: موقعه في القلب الطف، وهو بالطبع أليق، ولم تعدم مع هذه الحال معارضاً يقول لك: فما عبث من هذه الأخرى؟ وأي وجه عدل بك عنها؟ ألم يجتمع لها كيت وكيت، تتكامل فيه ذيه وذيه؟ وهل للطاعن إليها طريق؟ وهل فيها لغامز مغمز؟ يحاجك بظاهر تحسه النواظر، وأنت تحيله على باطن تحصله الضمائر" (1).
وهكذا يذكر الجرجاني أن من يحاجك في مثل هذه الصور السابقة إنما ينظر إلى ظاهر تحسه النواظر، وأنت ترجعه إلى باطن تحصله الضمائر، فما ذلك الظاهر الذي يقصده من الكلام؟ وما ذلك الباطن الذي يقصده منه؟
أن الظاهر الذي يقصده هو: ما يجتمع للكلام من جزالة وقوة، وما يتوافر فيه من تزويق وتنميق، وكان تكتمل فيه نواحي الجمال الظاهرة من صور بيانية، أو بديعية وأما الباطن الذي يريده فهي المعاني اللطيفة والدقائق الخفية التي تحصل عليها من النظم أو من نفس الكلام وجوهره،
(1) الوساطة صـ 412.
وموقعه، ومكانه - على حد تعبيره - كما سيصرح بذلك فهو يطبق تلك النظرية على الكلام بعد أن طبقها على الصور الحسية التي تدركها الأبصار، فيقول: "كذلك الكلام منثورة منظومة مجملة ومفصلة: تجد منه المحكم الوثيق، والجزي القوي، والمصنع المحكم، والمنسق الموشح، قد هذب كل التهذيب، وثقف غاية التثقيف، وجهد فيه الفكر، وأتعب لأجله الخاطر، حتى احتمى ببراءته عن المعائب واحتجز بصحته عن المطاعن، ثم تجد لفؤادك عنه نبوة، وترى بينه وبين ضميرك فجوة، فأن خلص إليهما فإن يسهل بعض الوسائل إذنه، ويمهد عندهما حاله، فأما بنفسه وجوهره، وبمكانه، وموقعه
فلا" (1).
فالمدار عند القاضي الجرجاني - في مجال تفضيل نظم على آخر - هو جوهر الكلام، ومكانه، وموقعه - كما ترى - وقد تأثر بهذه العبارة الأخيرة معاصرة القاضي عبد الجيار المتوفي سنة 415 فقال: "أعلم أن الفصاحة لا تظهر في أفراد الكلام، وإنما تظهر في الكلام بالضم على طريقة مخصوصة، ولا بد مع الضم من أن يكون لكل كلمة صفة، وقد يجوز في هذه الصفة أن تكون بالمواضعة التي تتناول الضم، وقد تكون بالإعراب الذي له مدخل فيه، وقد تكون بالموقع، وليس لهذه الأقسام الثلاثة رابع، لأنه أما أن تعتبر فيه الكلمة، أو حركاتها، أو موقعها
(1) الوساطة صـ 412، ص÷ــ 413.
ولا بد من هذا الاعتبار في كل كلمة، ثم لا بد من اعتبار مثله في الكلمات، إذا انضم بعضها إلى بعض، لأنه قد يكون لها عند الانضمام صفة، وكذلك لكيفية إعرابها وحركاتها، وموقعها، فعلى هذا الوجه الذي ذكرناه إنما تظهر مزية الفصاحة بهذه الوجوه دون ما عداها" (1).
وهكذا ألهمه القاضي الجرجاني بفصله الذي عقده في وساطته لمواقع الكلام أن يخطو بنظرية النظم خطوة أخرى.
وربما كان أصرح مما ذكرناه وأكثر وضوحاً وأحسن شاهداً على تمثل القاضي الجرجاني لنظرية النظم التي كانت تدور بخلده، ولا يستطيع الإفصاح عن مزاياها، قوله: "واقل الناس حظاً في هذه الصناعة (النقد) من اقتصر في اختياره ونفيه، وفي استجادته، واستسقاطه على سلامة الوزن، وإقامة الإعراب، وأداء اللغة، ثم كان همه وبغيته أن يجد لفظاً مروقاً وكلاماً مزوقاً، قد حشى تجنيساً وترصيعاً، وشحن مطابقة وبديعاً، أو معنى غامضاً قد تعمق فيه مستخرجه وتغلغل إليه مستنبطه، ثم لا يعبأ باختلاف الترتيب، واضطراب النظم، وسوء التأليف وهلهله النسج، ولا يقابل بين الألفاظ ومعانيها، ولا يسير ما بينهما من نسب، ولا يمتحن ما يجتمعان فيه من سبب، ولا يرى
(1) المغنى في أبواب التوحيد العدل الجزء السادس عشر صـ 199.
اللفظ إلا ما أدى إليه المعنى، ولا الكلام إلا ما صوره له الغرض ولا الحسن إلا ما أفاده البديع، ولا الرونق إلا ما كساه التصنيع" (1).
وهكذا يعتبر القاضي الجرجاني أن النقد الأدبي السليم هو الذي يوجه إلا سلامة النظم وحسن الترتيب، لا إلى مظاهر التزويق ومشاهد التنسيق، ولا إلى ألوان البديع المختلفة، من تجنيس وترصيع ومطابقة، وهو حريص كل الحرص على تأكيد هذا المعنى، مهتم كل الاهتمام بمحاولة إبرازها يدور بخلده عن النظم، ولكنه - كما قلنا لا يستطيع أن يبين أسباب جماله، وأسرار حسنه" وقد حملني حب الإفصاح عن هذا المعنى على تكرير القول فيه، وإعادة الذكر له ولو احتمل مقدار هذه الرسالة استقصاوه، واتسع حجمها للاستيفاء له، لاسترسلت فيه، ولا شرفت بك على معظمه"(2).
ولكن الذي نريد أن نثبته هنا هو أن المعاني اللطيفة، والدقائق التي تنشأ عن نظم الكلام، هي تلك التي أدركها القاضي الجرجاني بقلبه، ولم يستطع الإفصاح عنها، والتي أدركها تلميذه عبد القاهر بقلبه، وبحث عنها فوجدها، وبين أسبابها.
(1) الوساطة صـ 413.
(2)
نفس المرجع.
ولم لا؟ ألم يور القاضي الجرجاني من الأبيات التي استحسنها للبحتري هذه الأبيات:
بلونا ضرائب من قد نرى فما أن رأينا لفتح ضريباً
هو المرء أبدت له الحادثات عزماً وشيكاً، ورايا صليباً
تنفل في خلقي سودد سماحاً مرجى وبأساً مهيباً
ولكنه لم يعلق عليها مبيناً سبب استحاسنه لها واستجادته إياها فأتي عبد القاهر الجرجاني، فيبين ذلك السبب؟ فلا يرجعه إلى صور بيانية أو بديعية، أو غيرهما مما هو راجع إلى الصنعه الخارجية وإنما يرجع إلى المعاني الناشئة عن النظم فيقول "وإذا قد عرفت ذلك فأعبد إلى ما تواصفوه بالحسن، وتشاهدوا له بالفضل، ثم جعلوه كذلك من أجل النظم خصوصاً دون غيره مما يستحسن له الشعر أو غير الشعر من معنى لطيف أو حكمه، أو أدب، أو استعاره أو تجنيس أو غير ذلك مما لا يدخل في النظم، وتأملهن فإذا رأيتك قد ارتحت واهتززت، واستحسنت، فانظر إلى حركات الإريحية مم كانت؟ وعندما ظهرت؟ فإنك ترى عياناً أن الذي قلت لك كما قلت: أعمد إلى قول البحتري:
بلوناً ضرائب من قد نرى فما أن رأينا لفتح ضريباً
ويتم الأبيات السابقة، ثم يقول: "فإذا رأيتها قد راقتك، وكثرت عندك، ووجدت لها اهتزازاً في نفسك، فعد فأنظر في السبب
واستقص في النظر، فإنك تعلم ضرورة أن ليس إلا أنه قدم وأخر وعرف ونكر، وحذف واضمر، وأعاد وكرر، وأتى مأتى يوجب الفضيلة، أفلا ترى أن أول شيء "يروقك منها: قوله: (هو المرء أبدت له الحادثات) ثم قوله: (تنقل في خلق سودد) بتنكير السودد، وإضافة الخلقين إليه، ثم قوله:(فالكسيف) وعطفه بالفاء، مع حذفه المبتدأ، لأنه المعنى -لا محالة -: فهو كالسيف لم تكرير الكاف في قوله (وكالبحر) ثم أن قرن إلى كل واحد من التشبيهين شرطاً جوابه فيه - ثم أن أخرج من كل واحد من الشرطين حالاً على مثال ما أخرج من الآخر وذلك قوله: (صارخاً) هنالك و (مستثيباً) ههنا؟ " (1)
وكأن عبد القاهر قد عنى أستاذه القاضي الجرجاني بقوله: "وإذا عرفت ذلك فاعمد إلي ما تواصفوه بالحسن وتشاهدوا له بالفضل ثم جعلوه كذلك من أجل النظم خصوصاً دون غيره".
على أن عبد القاهر قد أخذ من أستاذه القاضي الجرجاني فصلاً من وساطته، هو الذي سمى "مواقع الكلام"(2) فحوره عبد القاهر ووضحه وجعل عنوانه "فصل في أن هذه المزايا في النظم بحسب المعاني
(1) دلائل الإعجاز صـ 58، صـ 59.
(2)
الوساطة صـ 412.
والأغراض التي توم (1) "فقد بين فيه أن مزية النظم ليست للفروق التي تحدث منه من حيث هي، وإنما تجب لها بحسب المعاني والأغراض التي يوضع لها الكلام، وإنما تجب لها بحسب المعاني والأغراض التي يوضع لها الكلام، ثم بحسب موقع بعضها من بعض، واستعمال بعضها مع بعض، وقد استشهد في ذلك بالصور الحسية كما استشهد القاضي الجرجاني، ثم بدأ بطبقة على الأسلوب، شأنه في ذلك شأن أستاذة، وإليك قطعة من هذا الفصل تؤيد صحة ما نذهب إليه:
قال الإمام عبد القاهر الجرجاني "وإذا عرفت أن مدار النظم على معاني النحو، وعلى الوجوه والفروق التي من شأنها أن تكون فيه فاعلم أن الفروض والوجوه كثيرة ليس لها غاية تقف عندها، ونهاية لا تجد لها ازدياداً بعدها، ثم أعلم أن ليست المزية واجبة لها في نفسها، ومن حيث هي على الإطلاق، ولكن تعرض بسبب المعاني والأغراض التي يوضع لها الكلام، ثم بحسب موقع بعضها من بعض، واستعمال بعضها مع بعض، تفسير هذا: أنه ليس إذا راقك التنكير في (سودد) من قوله: (تنقل في خلقي سودد) وفي (دهر) من قوله (فلو أذنبا دهر) فإنه يجب أن يروقك أبداً في كل شيء، ولا إذا استحسنت لفظ ما لم يسم فاعله في قوله:(وأنكر صاحب) فإنه ينبغي ألا تراه في مكان إلا أعطيته مثل استحسانك ههنا، بل ليس من فضل ومزيه إلا بحسب
(1) دلائل الإعجاز صـ 60، 63.
الموضع، وبحسب المعنى الذي تريده، والغرض الذي توم، وإنما سبيل هذه العاني سبيل الاصباغ التي تعمل منها الصورة والنقش فكما أنك ترى الرجل قد تهدي في الأصباغ التي عمل منها الصورة والنقش في ثوبه الذي نسج إلى ضرب من التخير والتدبر في أنفس الأصباغ وفي موقعها، ومقاديرها، وكيفية مزجه لها، وترتيبه إياها إلى ما لم يتهد إليه صاحبه، فجاء نقشه من أجل ذلك أعجب، وصورته أغرب كذلك حال الشاعر والشاعر في توخيها معاني النحور ووجوهه التي علمت أنها محصول النظم" (1).
فعبد القاهر الجرجاني يدرك الفروق والوجوه التي تنشأ عن توخي معاني النحو فيما بين الكلم، أي الناشئة عن النظم، والتي أدركها القاضي الجرجاني، بطبعه، ولم يستطع الإفصاح عنها، ولكنه يستدرك فيبين أن المزية ليست لتلك الفروق في أنفسها ولكنها تعرض لها بحسب المعاني والأغراض التي يصاغ لها الكلام بحسب موقع بعضها من بعض، واستعمال بعضها مع بعض.
وهذا ما يقصده القاضي الجرجاني بقوله: (ولا يقابل بين الألفاظ ومعانيها ولا يسبر ما بينهما من نسب ولا يمتحن ما يجتمعان
(1) دلائل الإعجاز صـ 60.
فيه من سبب" (1) وبقوله "فإن خلص إليهما فبأن يسهل بعض الوسائل إذنه، ويمهد عندهما حاله، فأما بنفسه وجوهره، وموقعه ومكانه فلا" (2).
ذلك لأن معنى قول القاضي الجرجاني "ولا يقابل بين الألفاظ ومعانيها .. الخ" أنه يعيب على الناقد الذي لا يعبأ بمقابلة الألفاظ بمعانيهما، وليست هذه المعاني إلا الأغراض التي يصاغ لها الأسلوب والتي ذكرت في مقدمة وساطته فقال: "ولا أمرك بإجراء أنواع الشعر كله مجرى واحداً ولا أن تذهب بجميعه مذهب بعضه، بل أرى لك أن تقسم الألفاظ على رتب المعاني، فلا يكون غزلك كافتخارك، ولا مديحك كوعيدك، ولا هجاوك كاستبطائك، ولا هزلك بمنزله جدك، ولا تعرضك مثل تصريحك، بل ترتب كلا مرتبته، فتلطف إذا تغزلت وتفخم إذا افتخرت، وتتصرف للمديح تصرف مواقعه، فإن لمدح بالشجاعة والباس يتميز عن المدح باللباقة والظرف، ووصف الحرب والسلاح ليس كوصف المجلس والمدام، فلكل واحد من الأمرين نهج هو أملك به وطريق لا يشاركه الآخر فيه، وليس ما رسمته لك في هذا الباب بمقصود
(1) الوساطة صـ 413.
(2)
نفس المصدر.
على الشعر دون الكتابة، ولا بمختص بالنظم دون النثر، بل يجب أن يكون كتابك في الفتح أو الوعيد خلاف كتابك في التشوق والتهنئة واقتضاء المواصلة، وخطابك إذا حذرت وزجرت أفخم منه إذا وعدت ومنيت" (1)، وعبد القاهر يضرب مثالاً للأسلوبيين يفرق بينهما جمال النظم بما يشاهد من الصور المرئية (2) تماماً كما فعل القاضي الجرجاني (3) ثم يعقب ذكر الصورتين المرئيتين بذكر الشاعر والشاعر يفرق بينهما توخي معاني النحو (4)، كما فعل القاضي الجرجاني، إذا أردف ذكر الصورتين المرئيتين بذكر منثور الكلام ومنظومة (5).
وقد سبق أن عرفت أن عبد القاهر الجرجاني قد فسر نظرية النظم بما استشهد به القاضي الجرجاني، وجعله مثالاً لما استجاده وأستحسنه للبحتري (6).
(1) الوساطة صـ 24.
(2)
دلائل الإعجاز صـ 60.
(3)
الوساطة صـ 412.
(4)
دلائل الإعجاز صـ 60.
(5)
الوساطة صـ 412.
(6)
الوساطة صـ 27، ودلائل الإعجاز صـ 58، صـ 59.
وإذا كان عبد القاهر الجرجاني قد فسر "النظم" بأنه "توخي معاني النحو فيما بين الكلم "فإن القاضي الجرجاني قد كشف عن هذا المعنى، حيث أنه جعل فساد النظم نتيجة لعدم الجري على قوانين النحو، وإذا كان فساد النظم والإخلال به نتيجة لعدم العمل بقوانين النحو، فإن حسن النظم وسلامته، إنما هو في العمل بقوانين النحو، فقد قال: في بيت أبي الطيب:
كالريح أشجاه طاسمة بأن تسعدا والد مع أشفاه ساجمه
"و" من يرى هذه الألفاظ الهائلة، والتعقيد المفرط، فيشك أن وراءها كنزاً من الحكمة، وأن في طيها الغنيمة الباردة حتى إذا فتشها وكشف عنها سترها، وسهر ليالي متوالية فيها حصل على أن "وفاء كما يا عاذلي بأن تسعداني إذا درس شجاي، وكلما ازداد تدارساً ازددت له شجوا، كما أن الربع شأشجاه دارسه "فما هذا من المعاني التي يضيع لها حلاوة اللفظ وبهاء الطبع، ورونق الاستهلال، حتى يهلهل لأجلها النسج ويفسد النظم، ويفصل بين الباء ومتعلقها بخبر الابتداء قبل تمامه ويقدم ويؤخر، ويعمى ويعوص، ولو احتمل الوزن ترتيب الكلام على صحته فقيل:"وفاؤكما بأن تسعدا أشجاه طاسمة كالربع" أو" وفاكما بأن تسعدا كالربع أشجاه طاسمة" لظهر هذا المعنى الضنون به، المتنافس فيه، فأما قوله "والد مع أشفاه ساجمه "فخطاب مستأنف، وفصل منقطع عن الأول، وكأنه قال "وفاوكما والربع أشجاه ماطسم، والد مع
أشفاه مأسجم" (1).
ويعيب على أبي تمام قوله:
يدي لمن شاء رهن لم يذق جرعاً من راحتيك دري ما الصاب والعسل
معلقاً عليه بقوله: طفحذف عمدة الكلام، وأخل بالنظم، وإنما أراد يدي لما شاء رهن (إن كان) فحذف (إن كان) من الكلام فأفسد الترتيب، وأحال الكلام عن وجهه (2).
وذلك معناه: أن أبا تمام - لعدم جريه على قوانين النحو بحذفه عمدة الكلام - قد أخل بالنظم، ولو جرى على قوانين النحو، فلم يحذف عمدة الكلام لكان النظم سليماً.
ويعلق على من أخذ قول أبي العطاء:
حلت وزيته، فعم مصابها فالناس فيه كلهم مأجور
فقال: ولقد أصاب غليلها من لم يصب وتصيرت فقداً لهن لم يفقد
بقوله: "وبين الكلامين في صحة النظم، وعذوبة المنطق ما تراه"(3).
ومعنى ذلك - أيضاً - أن البيتين - وأن كان معناهما واحداً - إلا أنهما قد اتفقا في صحة النظم، وكان لهما من عذوبة المنطق قدر كبير، وليس
(1) الوساطة صـ 98.
(2)
الوساطة صـ 97.
(3)
الوساطة صـ 191، 192.
بخاف أن كلا البيتين قد جرى على مقتضى قواعد النحو، وبالتالي فإن الجرى على ما تقتضي هذه القواعد تتم به صحة النظم، وتنشأ عذوبة الكلام".
هكذا يجعل القاضي الجرجاني صحة النظم في العمل بقوانين النحو، وفساده في عدم العمل بها، ومعنى ذلك بوضوح أن النظم عنده: هو العمل بقوانين النحو، وبعبارة أخرى: هو: توخي معاني النحو فيما بين الكلم على حسب الأغراض التي يوضع لها الكلام - على حد تعبير عبد القاهر الجرجاني -.
وليس ذلك استنتاجنا نحن فحسب -ولكنه - أيضاً - استنتاج عبد القاهر الجرجاني نفسه، فقد استنبط ذلك من تصرف القاضي الجرجاني في كتاب الوساطة، فذكر أن العلماء - وأن كان يعني القاضي الجرجاني -قد كشفوا عن وجه النظم، فبعد أن بين أطباق العلماء على تعظيم شأن النظم بقوله "وقد علمت أطباق العلماء على تعظيم شأن النظم وتفخيم قدره، والتنويه بذكره، وأجماعهم على أن لأفضل مع عدمه، ولا قدر لكلام إذا هو لم يستقم له، ولو بلغ في غرابة معناه ما بلغ، ويتهم الحكم بأنه الذي لا تمام دونه، ولا قوام إلا به، وأنه القطب الذي عليه المدار والعمود الذي به الاستقلال (1)، وبعد أن بين أن النظم ليس
(1) دلائل الإعجاز صـ 54، صـ 55.
إلا أن تضع كلامك الوضع الذي يقضتيه علم النحو، وتعمل على قوانينه وأصوله، وتعرف مناهجه التي نهجت، فلا تزيغ عنها، وتحفظ الرسوم التي رسمت لك فلا تخل بشيء منها" (1).
ذكر الاستنتاج الذي أوضحناه أنفاً، فقال:"هذا هو السبيل فلست بواجد شيئاً يرجع صوابه - إن كان صواباً - وخطؤه - إن كان خطأ - إلى النظم ويدخل تحت هذا الاسم إلا وهو معنى من معاني النحو، قد أصيب به موضعه، ووضع في حقه، وعومل بخلاف هذه المعاملة، فأزيل عن موضعه، واستعمل في غير ما ينبغي له، فلا ترى كلاماً قد وصف بصحة نظم أو فساده، أو وصف بمزيه وفضل فيه إلا وأنت تجد مرجع تلك الصحة، وذلك الفساد، وتلك المزيه، وذلك الفضل إلى معاني النحو وأحكامه، ووجدته يدخل في أصل من أصوله، ويتصل بباب من أبوابه"(2).
ثم يقول "ويكفيك أنهم قد كشفوا عن وجه ما أردناه، حيث ذكروا فساد النظم، فليس يخالف في نحو قول الفرزدق:
وما مثله في الناس إلا مملكاً أبو أمه حي أبوه يقاربه
(1) دلائل الإعجاز صـ 55.
(2)
دلائل الإعجاز صـ 56.
وقول المتنبي:
ولذا اسم أغطية العيون جفونها من أنها عمل السيوف عوامل
وقوله:
الطيب أنت إذا أصابك طيبه والماء أنت إذا اغتسلت -الغاسل
وقوله:
وفاوكما كالربع أشجاه طاسمة بأن تسعدا، والدمع مع أشفاه ساجمة
وقول أبي تمام:
ثانية في كبد السماء ولم يكن كاثنين ثان إذهما في الغار
وقوله:
يدي لمن شاء رهن لم يذق جرعاً
…
من راحتيك دري ما الصاب والعمل
وفي نظائر ذلك مما تواصفوه بفساد النظم، وعابوه من جهة سوء التأليف، أن الفساد والخلل كانا من أن تعاطي الشاعر ما تعاطاه من هذا الشأن على غير الصواب، وصنع في تقديم أو تأخير، أو حذف وأضمار أو غير ذلك مما ليس له أن يصنعه، وما لا يسوغ ولا يصح على أصول العلم، وغذا ثبت أن سبب فساد النظم واختلاله إلا يعمل بقوانين هذا الشأن ثبت أن الحكم كذلك في مزيته والفضيلة التي تعرض فيه، وإذا ثبت جميع ذلك ثبت أن ليس هو شيئاً غير توخي معاني هذا العلم وأحكامه فيما بين الكلم" (1).
(1) دلائل الإعجاز صـ 58.
فعبد القاهر الجرجاني يذكر أن العلماء - والقاضي الجرجاني منهم - قط كشفوا عن وجه ما أراده، حيث ذكروا فساد النظم، وبينوا أسبابه، وهي تنحصر في عدم العمل بقوانين النحو، ويستشهد ما ذكروه في هذا الشأن، وستة الأبيات السابقة قد ذكرها القاضي الجرجاني في وساطته - عدا البيت الخامس - وجعلها في عداد ما عيب من أجل سوء النظم، لعدم جريها على حسب قواعد النحو (1).
ثم يقول: "وإذا قد عرفت ذلك فاعمد إلى ما تواصفوه بالحسن، وتشاهدوا له بالفضل، ثم جعلوه كذلك من أجل النظم خصوصاً دون غيره مما يستحسن له الشعر أو غير الشعر من معنى لطيف، أو حكمه، أو أدب، أو استعاره أو تجنيس، أو غير ذلك مما لا يدخل في النظم، وتأمله، فإذا رأيتك قد ارتحت، واهتززت، واستحسنت، فأنظر إلى حركات الأريحية مم كانت، عندما ذا ظهرت، فإنك ترى عياناً أن الذي قلت لك كما قلت أعمد إلى قول البحتري:
…
ثم يورد أبيات البحتري التي سبق أن ذكرها، وبينت أن القاضي الجرجاني قد استحسنها واستجادها، ولكنه
(1) فالبيت الأول ذكره الجرجاني في وساطته صـ 419 والثاني صـ 89، والثالث صـ 89، صـ 39 والرابع صـ 98، والسادس صـ 79.
لم يبين لنا سبب تلك الاستجادة، ولا سر ذلك الاستحسان، وأن عبد القاهر الجرجاني قد تكفل بذلك (1).
ولهذا كله: فإننا نعتقد أن نظرية النظم التي جعلها عبد القاهر الجرجاني أساساً لعلم المعاني - كما سمي من بعده- والتي فتح مغاليتها وبين أقسامها، وذكر شواهدها، كانت مستوحاه من كلام القاضي في كتاب الوساطة، وأن عبد القاضي الجرجاني أساس فكرة النظم، ثم تكفل بتفسيرها، وتوضيحها، وذكر شواهدها، ولعل عبد القاهر الجرجاني - وهو النحوي البارع الذكي - قد قرأ - أيضاً - ما دار بين أبي سعيد السيرافي وبين أبي بشر منتى بن يوسف في مجلس أبي الفتح بن جعفر بن الفرات في مناظره حادة بينهما حول جدوى علم النحو وفيها يقول أبو سعيد - السيرافي "إذا كانت الأغراض المعقولة والمعاني المدركة لا يتوصل إليها إلى باللغة الجامعة للأسماء والأفعال والحروف، أفليس قد لزمت الحاجة إلى معرفة اللغة .. معاني النحو منقسمة بين حركات اللفظ وسكناته وبين وضع الحروف في مواضتها المقتضية لها وبين تأليف الكلام بالتقديم والتأخير، وتوخي الصواب في ذلك، وتجنب الصواب في ذلك، وأن زاع عن التعنت فإنه لا يخلو من أن يكون سائغاً بالاستعمال النادر والتأويل البعيد، أو مردوداً لخروجه عن عادة القوم
(1) دلائل الإعجاز صفات 60، 61، 62، 63.
الجارية عن فطرتهم، فأما يتعلق باختلاف لغات القبائل فذلك شيء مسلم به ومأخوذ عنهم، وكل ذلك محصور بالتتبع والرواية والسماع والقياس المطرد على الأصل المعروف من غير تحريف، وإنما دخل العجب على المنطقيين لظنهم أن المعاني لا تعرف ولا تستوضح إلا بطريقتهم ونظرهم وتكلفهم. إذا قال لك القائل: كن نحوياً لغوياً فصيحاً فإنما يريد: أفهم عن نفسك ما تقول، ثم رم أن يفهم عنك غيرك، وقدر اللفظ على المعنى، فلا ينقص عنه.
هذا إذا كنت في تحقيق شيء على ما هو به، فأما إذا حاولت فرش المعنى وبسط المراد، فأجل اللفظ بالرواد في الموضحة، والأشباه المقربة والاستعارات الممتعة، وسدد المعاني بالبلاغة (1).
لا بد أن عبد القاهر قد قرأ هذا، فقد وردت في العبارة السابقة عبارة "معاني النحو" ولفظه "التتبع" تلك التي نجد لها أثراً في قوله: عندما يعرف النظم بقوله: تتبع معاني النحو فيما بين الكلم على حسب الأغراض التي يوضع لها الكلام.
ولعله قد قرأ -أيضاً - ما نقلناه لك عن القاضي عبد الجيار - حول فكره النظم والتي كان متأثراً فيها هو الآخر بفكرة القاضي الجرجاني عن جوهر الكلام، وموقعه، ومكانه من النظم.
(1) راجع الجزء الثامن معجم الأدباء صـ 190 وما بعدها (طبعة دار المأمون القاهرة).