الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وأمر طبيعي أن يبدأ العالم حياته بالتأليف فيما كان دائراً بين العلماء السابقين من مسائل ولكن عبد القاهر - في هذه المرحلة التي كان يكتب فيها (أسرار البلاغة) - لم يكن قد أطلع على كتاب "نقد الشعر" لقدامه لأنك لا تجد (في أسرار البلاغة) أثراً للكناية، ولا للتمثيل = على حد الاستعارة - وهما اللتان الهمتا عبد القاهر نظرية البيان - وهو يكتب الدلائل - كما أسلفنا لك -
والمرحلة الثانية: هي المرحلة التي أستلهم فيها عبد القاهر - وهو يكتب دلائل الإعجاز
- "نظرية البيان" من كتاب "نقد الشعر" لقدامه، والتي وجد فيها أن الكناية، والتمثيل -على حد الاستعارة بل والاستعارة يمكن أن تدخل في إطار واحد هو (أن يطلق اللفظ ويراد به غير ظاهره) مع ما لهذه الأمور الثلاثة من فروع قد لا تحصى عدداً، فعقد في الدلائل فصلاً بهذا العنوان:
والمرحلة الثالثة: هي المرحلة التي وضحت لديه فيها ملامح النظرية كاملة
، مميزة عن غيرها من موضوعات فأطلق فيها القول أطلاق القوانين العامة التي تميز البيان من غيره، ووجد المدخل الحقيقي إلى علم البيان كما أسلفنا لك.
هذا هو الأصل الذي يجب أن تبنى عليه فهمك لمسائل البيان في فكر عبد القاهر الجرجاني من خلال كتابيه "أسرار البلاغة" ودلائل الإعجاز.
فإذا ما وقعته أمام نظريك فإن في استطاعتك أن تفهم ما يعنيا عبد القاهر من مواءمات البيات في الكتابين كما أنه في استطاعتك -
حينئذ - أن تنظر النظرة السليمة إلى تراقه، ومن خلال هذه النظرة تجد الرؤية واضحة جلية، لا تحتاج معها إلى محاولة تأويل ما قد يتعارض من أقواله تأويلاً لم يخطر لعبد القاهر الجرجاني على بال، وهذه النظرية السليمة هي التي أوصد المتأخرون دونها الأبواب، وأغمضوا العيون، وأصموا الآذان، وعكفوا على مسائل البلاغة من خلال الكتابين، دون مراعاة لطبيعة المرحلة التي كان يكتب فيها عبد القاهر كلا من الكتابين، ودونك بعضاً من هذه الأمثلة التي تطور فهم عبد القاهر لها، وهو يكتب الدلائل، بعد أن كانت رؤيتها غائمة أمام ناظريه، وهو يكتب "الأسرار" وبخاصة ما يتصل منها بالتمثيل -على حد الاستعارة -:
يقول عبد القاهر الجرجاني: (أعلم أن الشبه إذا انتزع من الوصف، لم يخل من وجهين:
احدهما: أن يكون لأمر يرجع إلى نفسه، والآخر أن يكون لأمر لا يرجع إلى نفسه: فالأول: ما مضى في نحو تشبيه الكلام بالعسل في الحلاوة وذلك أن وجه الشبه هناك، أن كل واحد منهما: يوجب في النفس لذة وحالة محمودة ويصادف منها قبولاً، وهذا حكم واجب" "للحلاوة من حيث هي حلاوة" أو للعسل من حيث هو عسل".
وأما الثاني - وهو ما ينتزع منه الشبه لأمر لا يرجع إلى نفسه: فمثاله أن يتعدى الفعل شيء مخصوص يكون له من أجله حكم خاص، نحو
كونه واقعاً في موقعه وعلى الصواب، أو واقعاً غير موقعه، كقولهم "هو كالقابض على الماء، والراقم في الماء" فالشبه هنا منتزع مما بين القبض والماء، وليس بمنتزع من القبض نفسه، وذلك أن فائدة قبض اليد على الشيء أن يحصل فيهان فإذا كان الشيء مما لا يتماسك ففعلك القبض في اليد لغو، وكذلك القصد في الرقم، أن يبقي أثر في الشيء، وإذا فعلته فيما لا يقبله كان فعلك كلا فعلك، وكذلك قولهم (يضرب في حديد بارد)، (وينفخ في غير فحم)(1).
ثم قال: "ومن هذا الباب، قولهم (أخذ القوس باربها)، وذلك أن المعنى على وقوع الأخذ في موقعه ووجوده من أهلهن فلست تشبه من حيث الأخذ نفسه وجنسه، ولكن من حيث الحكم الحاصل له بوقوعه من باري القوس على القوس، وكذلك قولهم (ما زال يفتل منه في الذروة والغارب) الشبه مأخوذ مما بين القتل وما تعدي إليه من الذروة والغارب ول وأفردته لم تجد شبهاً بينه وبين ما يضرب هذا الكلام مثلاً له، لأنه يضرب في الفعل أو القول، يعرف به الإنسان عن الامتناع إلى الإجابة وعن الآباء عليك في مرادك إلى مرافقتك والمصير إلى ما تريد منه، وهذا لا يوجد في الفتل من حيث هو فتل" وإنما يوجد في الفتل إذا وقع في الشعر من ذروة البعير وغاربه" (2).
(1) أسرار البلاغة (مطبعة الاستقامة) صـ 116، صـ 117.
(2)
أسرار البلاغة (مطبعة الاستقامة) صـ 119، صـ 120.
ثم قال أيضاً: ومن الواضح في كون الشبه معلقاً بمجموع الجملتين" حتى لا يقع في الوهم تميز أحداهما عن الأخرى قوله "بلغني أنك تقدم رجلا ًوتؤخر أخرى، فإذا أتاك كتابي هذا فاعتمد على أيهما شئت والسلام" وذلك أن المقصود من هذا الكلام التردد بين الأمرين وترجيح الرأي فيهما ولا يتصور التردد والترجيح في الشيء الواحد فلو جهدت وهمك أن تتصور لقولك "تقدم رجلاً" معنى وفائدة ما لم تقل "وتؤخر أخرى" أو تنوه في قلبك كلفت نفسك شططاً" وذكر أبو أحمد العسكري: أن هذا النحو من الكلام يسمى (المماثلة).
(1)
التمثيل في الأسرار (تشبيه تمثيلي): وهذه التسمية توهم أنه شيء غير المراد بالمثل والتمثيل وليس الأمر كذلك، كيف وأنت تقول "مثلك مثل من يقدم رجلاً ويؤخر أخرى" ووزان: هذا أنك تقول: (زيد الأسد) فيكون تشبيهاً على الحقيقة، وإن كنت لم تصرح بحرف التشبيه، ومثله أنك تقول:(أنت ترقم في الماء)(وتضرب في حديد بارد) و (تنفخ في غير فحم) فلا تذكر ما يدل صريحاً على أنك تشبه، ولكنك تعلم أن المعنى على قولك: أنت كمن يرقم في الماء وكمن يضرب في حديد بارد، وكمن ينفخ في غير فحم، وما أشبه ذلك مما تجيء فيه بمشبه به ظاهر تقع هذه الأفعال في صفة اسمه أو صلته" (1).
تلك خمسة أمثلة، أو قل أنها خمسة أمثال من الأمثال التي جعلها عبد القاهر الجرجاني من باب التمثيل - على حد تعبيره - أو التشبيه التمثيلي - على حد قول المتأخرين، ولم يتنبه إلى أنها جميعاً
(1) أسرار البلاغة (مطبعة الاستقامة) صـ 126، صـ 127.