الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
نظرة عبد القاهر الجرجاني إلى البديع:
وضع عبد القاهر الجرجاني (البديع) موضعه الحقيقي من علم البلاغة: فقد جعل بعض فنونه -كالمزاوجة، والتقسيم، والعكس، من النمط الأعلى من النظم، وقد علمت أن النظم هو أساس البلاغة التي تفرعت منهتاً مسائل علم المعاني، وصور البيان، وقيم الجمال البلاغي: المعنوية منها واللفظية - على حد سواء - وقد كانت ألوان البديع حتى عصر عبد القاهر الجرجاني داخلة في إطار علم البيان، من حيث الدراسة والتصنيف، بل أن بعض صور البيان -كالاستعارة والتمثيل - كانت معدودة -من قبله - في فنون البديع.
على أن عبد القاهر الجرجاني لم يكن يجعل البديع علماً مستقلاً، بل أنه لم يكن يجعل فنون البديع إلا صوراً من صور البيان، ندخل في إطار نظرية النظم مثلما تدخل صور البيان، ولهذا فإنه يسلك المزاوجة، والعكس، والتقسيم، والسجع، والاستعارة، والتشبيه في عقد النظم، ويجعلها من النظم الذي يتحد في الوضع، ويدق فيه المصنع، بل أنه ليمتدحه بأنه النمط العالي، والباب الأعظم، والذي لا ترى سلطان المزية يعظم في شيء كعظمة فيه" (1).
(1) دلائل الإعجاز ص 66.
ومما هو أصل في أن يدي النظر، وبغض المسلك في توخي المعاني: أن تتحد أجزاء الكلام، ويدخل بعضها في بعض، ويشتد ارتباط ثان منها بأول، وأن يحتاج في الجملة إلى أن تضعها في النفس وضعاً واحداً، وأن يكون حالك فيها حال الباني، يضع ببينه في حال ما يضع بيساره هناك، وفي حال ما يبصر مكان ثالث ورابع يضعهما بعد الأولين:
فمن المزاوجة قول البحتري:
إذا ما نهى الناهي، فلج بي الهوى
…
أصاخت إلى الواشي فلج بها الهجر
ومن العكس قول سليمان بن داود القضاعي:
فبينا المرء في علياء أهوى
…
ومنحط أتيح له اعتلاء
وبينا نعمة إذ حال بؤس
…
وبؤس إذ تعقبه ثراء
ومن التمثيل قول كثير عزة:
وأني وتهيامي بعزة بعدما
…
تخليت مما بيننا وتخلت:
لكالمرتجي ظل الغمامة، كلما
…
تبوأ منها للمقبل اضمحلت
ومن التقسيم - وخصوصاً إذا قسمت ثم جمعت - قول حسان بن ثابت:
قوم غذا حاربوا ضروا عدوهم أو حاولوا النفع في أشباعهم نفعوا
سجية تلك فيهم غير محدثة
…
إن الخلائق -فاعلم - شرها البدع
ومن تشبيه شيئين بشيئين: قول الفردزق:
والشيب ينهض في الشباب كأنه
…
ليل يصبح بجانبيه نهار
على أنه من الكلام ما لا يحتاج إلى فكر وروية لينتظم، بل أنه لا يحتاج إلى أكثر من أن تضم بعضه إلى بعض، صنيع من يعمد إلى لآلئ لينظمها في سلك حتى يمنعها من التفرق، كما في قول النابغة في الثناء السجوع:"أيفا خرك الملك اللخمي"؟ فوالله لقفاك خير من وجهه، ولشمالك خير من يمينه، ولا خصمك خير من رأسه، ولخطؤك خير من صوابه، ولعيك خير من كلامه، ولخدمك خير من قومه" (1).
وهكذا يسلك عبد القاهر الجرجاني فنون البديع في عقد النظم، ولهذا: فإن المزية فيها إنما هي بحسب المعاني التي وضعت لها، والأغراض التي دعت إليها، فليس لسهولة الألفاظ فيها، وسلامتها مما يثقل على اللسان اعتداد حتى يكون قد ألف منها كلام، ثم كان ذلك الكلام صحيحاً في نظمه، والغرض الذي أريد به" (2).
(1) دلائل الإعجاز صـ 67.
(2)
دلائل الإعجاز صـ 331.
ولهذا نعم العلماء من يحمله تطلب السجع والتجنيس على أن يضيم لهما المعنى، ويدخل الخلل عليه من أجلهما، كالذي صنع أبو تمام في قوله:
ذهبت بمذهبه السماحة، والتوت فيه الظنون: أمذهب أم مذهب؟
فإذا ما نظرت إلى تجنيسه في: (أمذهب أم مذهب؟ ) فاستضعفته، وإلى تجنيس من قال:
ناظراه فيما جنى ناظراه
…
أو دعاني أمت بما أو دعاني
فاستحسنته، لم تشك بحال في أن ذلك لم يكن لأمر يرجع إلى اللفظ، ولكن: لأنك رأيت الفائدة ضعفت في الأول، وقويت في الثاني، وذلك لأنك رأيت أبا تمام لم يزدك بمذهب ومذهب، على أن أسمعك حروفاً مكرره، لا تجد لها فائدة -وإن وجدت - إلا مكلفاً متحملة، ورأيت الأخر قد أعاد عليك للفظه كأنه يخدعك عن الفائدة وقد أعطاها، ويوهمك أنه لم يزدك، وقد أحسن الزيادة ووفاها: ولهذه النكتة كان التجنيس -وخصوصاً المستوفي منه (1).
فعبد القاهر الجرجاني لا يعتبر فنون البديع علماً مستقلاً، لأنه لم يفردها بالذكر، وإنما يدخلها في باب النمط العالي من النظم الذي
(1) دلائل الإعجاز صـ 331، 332.