الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
على أنك إذا استعرضت أساليب حسن التعليل التي عرض لها عبد القاهر الجرجاني (1)، وجدتها عنده من البلاغة في أكرم مكان.
10) تأكيد المدح بما يشبه الذم:
هو: أن يبالغ المتكلم في المدح، فيعمد إلى الإتيان بعبارة يتوهم السامع منها في بادئ الأمر أنه ذم، فإذا هو مدح مؤكد.
وهو ثلاثة أضرب:
الضرب الأول:
وهو أفضلها: أن يستثني من صفة ذم منفية عن الشيء صفة مدح بتقدير دخولها فيها
، وذلك كقول النابغة الذبياني:
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم
…
بهن فلول من قراع الكتائب.
يقول: أنهم سلموا من العيوب غير أن سيوفهم قد تثلمت من مقارعة الأبطال في ميادين النزال، ولكن تثلم السيوف في مثل هذه المواطن مما يفتخر به، وبهذا يكون قد أتى بدليل ظاهر على شجاعتهم، فأكد مدحهم، ونفى ما كان السامع يترقبه بعد ذكر كلمة "غير " من أنه سيذكر صفة ذم.
(1) أنظر أسرار البلاغة ص 257، ص 258.
وسر بلاغة هذا الضرب من وجوه ثلاثة:
أولها: أنه كدعوى الشيء بينه: فكأن النابغة - في البيت السابق - قد استدل على سلامتهم من العيب، بأن ثبوت العيب فيهم معلق بكون فلول السيوف من مقارعة الأبطال في ميادين النزال عيباً، وهو محال، والمعلق على المحال محال، فيكون عدم العيب محققاً.
وثانيها: أن الأصل في الاستثناء الاتصال، وذكر أداة الاستثناء قبل ذكر ما بعدها يوم إخراج شيء مما قبلها، وأنه إثبات عيب، فإذا جاء المدح بعدها، تأكد المدح، لأنه إثبات مدح بعد مدح.
وثالثها: أن هذا الخداع الذي يأتي به الأديب أو الشاعر من إيهام الذم بذكره أداة الاستثناء، وتلك الخلابة التي يبعثها في أسلوبه بذلك الإيهام، مما ينبه السامع إلى الاهتمام بما يقوله، وينشط ذهنه لاستقبال المعاني التي يضمنها مدحه.
ومن هذا الضرب: قوله تعالى - في السابقين من أهل الجنة- {لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا (25) إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا} . وقوله تعالى: {لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} . فكلمة السلام التي جاءت بعد (إلا) في الآيتين، ليست من اللغو والتأثيم، وإنما هي ألفاظ تحية ورحمة.
ومنه قول ابن الرومي:
ليس به عيب سوى أنه لا تقع العين على شبهه!
فذكر أنه خالص من العيوب، ولكنه لما ذكر أداة الاستثناء (سوى) أوهم أنه سيثبت له عيباً، ولكنه لما ذكر أن العين لا تقع على شبهه، أي أنه لا شبيه له في الحسن، وهذه صفة مدح لا صفة ذم، كان هذا الصنيع مؤكداً لمدحه الذي بدأه.
ومنه. قول صفي الدين الحلي:
لا عيب فيهم سوى أن النزيل بهم يسلو عن الأهل والأوطان والحشم.
أي أنهم مبرأون من العيوب، غير أنهم يكرمون نزيلهم حتى يسلوا أهله، ووطنه، وحشمه، وتلك صفة مدح لا صفة ذم فتأكد بهذا مدحهم وبلغت العبارة أسمى درجات البلاغة.
لأنه قد استدل على سلامتهم من العيوب بأن علق ثبوت العيب فيهم على كون إكرامهم لنزيلهم عيباً، وهو محال والمعلق على محال محال، وهذا أشبه بقولهم: حتى يبيض القار، وحتى يشيب الغراب.
ولأنه لما ذكر أداة الاستثناء قبل ذكر إكرامهم لنزيلهم - والأصل في الاستثناء الاتصال - أوهم صنيعه هذا أنه سيخرج شيئاً مما نفاه عنهم، وأنه سيثبت لهم عيباً، فلما أثبت لهم صفة إكرام النزيل تأكد