الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وذلك كما في قول عبد الله بن العباس بن الفضل بن الربيع:
لولا التطير بالخلاف، وأنهم
…
قالوا: مريض لا يعود مريضاً
لقضيت نحبي في فنائك خدمة
…
لأكون مندوباً قضى مفروضاً
والخلاف، مخالفة العرف والعادة، والنحب: الأجل، والمندوب: اسم مفعول من الندب والتورية هنا في قوله: (مندوباً) لأن هذا اللفظ له معنيان: قريب، وهو: السنون من السنة، وليس مراداً وبعيد، وهو: المرثى، وهو المراد هنا، لأن المعنى: لأكون ميتاً مرئياً قضى مفروضاً عليه وهو: الموت حزناً على ذلك المريض.
والشاهد هنا في أن عدم إرادة المعنى القريب واضح لا يحتاج إلى تأمل.
بلاغة التورية:
قال ابن يعقوب المغربي (1) في قول الله تعالى: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} - الأيدي: جمع يد، واليد لها معنيان قريب وهو الجارحة المعلومة، وبعيد، وهو: القدرة التي إطلاق اليد عليها مجاز، والمراد بها هنا: المعنى البعيد الذي هو القوة والقدرة، والقرينة: استحالة الجارحة على الله تعالى، وقد تقدم منه وجه خفائها فتكون تورية وإن كانت مجازاً، وقد قرنت
(1) شروح التلخيص جـ 4 من ص 324 - ص 326.
بما يلائم المعنى القريب الذي هو الجارحة - وهو البناء - لأنه إنما يعهد بالجارحة والمعهود بالقوة: الإيجاد والخلق، فقد رشح فيها معنى التورية، وأصلها الذي هو الخفاء بوجود ما يبعد عن المراد مع خفاء القرينة. وهذا - أعنى: كون اليد أطلقت على معناها المجازي البعيد بقرينة خفية فكانت تورية - مبنى على ما اشتهر بين أهل الظاهر من المفسرين الذين يقتصرون على ما يبدو، ولم يظهر لهم هنا للأيدي إلا المعنى البعيد.
وأما عند من يوسم بالتحقيق، ممن يمارس مقتضى تراكيب البيان، فالكلام تمثيل على سبيل الاستعارة وهو: أن مجموع "بنيناها بأيد" نقل عن أصله على طريق التشبيه، وأصله: وضع لبنة وما يشبهها على أخرى بقوة الأيدي، إلى الإيجاد بالقوة، لأن النفس بالمحسوس أعرف .....
فمبنى التورية عند ابن يعقوب على خفاء القرينة، مع كون المراد بعيداً وإن لم نسلم له بهذا الشرط، فكم من مجاز قد خفيت قرينته وبعدت عن كثير من الأذهان، ويكون مع هذا واقعاً موقعه من الروعة والخلابة والسحر والجمال. وكم من تورية - في عرفهم - ظهرت قرينتها، ومع هذا فإنهم لم يضنوا عليها بهذا الاسم.
والعصام يقول (1) في تعريف التورية: "فالمختصر الواضح أن يقال: هو: أن يطلق اللفظ على غير ما وضع له لقرينة خفية مما يتعلق بإيراد المعنى الواحد بطرق مختلفة في وضوح الدلالة "ثم قال: "فهو داخل في أصل البلاغة، فكيف عد من البديع؟ ".
فتعريف العصام للتورية ينطبق على تعريفهم للمجاز سوى تقييده بخفاء القرينة - وقد علمت أن هذا قيد غير كاف للفصل بينهما - كما أسلفنا -.
ولهذا فإن الذي نطمئن إليه هو: أن التورية من باب المجاز إذا كان العنى المورى عنه مجازياً، وأما إذا كان حقيقياً: فهي من باب المشترك، وهو مجازاً وحقيقة على خلاف قارفي موطنه من كتب الأصول.
وعلى أية حال فإن التورية عائدة على الأسلوب بالتحسين الذاتي لا العرضي (2).
وإنما عدت من البديع، لأن المعنى القريب فيها: لسرعة إدراكه قبل البعيد. يكون كالحجاب، فيظهر من ورائه للطفه بصورة الوجه
(1) الأطول جـ 2 ص 194.
(2)
الصبع البديعي ص 480.