الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الكلية الكبرى وأكثر القواعد الأخرى.
المرتبة الثانية: القواعد المذهبية التي تختص بمذهب دون مذهب أو يعمل بمضمونها بعض الفقهاء دون الآخرين مع شمولها وسعة استيعابها لكثير من مسائل الفقه من أبواب مختلفة.
وهذه تعتبر من أسباب اختلاف الفقهاء في إصدار الأحكام تبعاً لاختلاف النظرة في مجال تعليل الأحكام.
ومن أمثلة هذه المرتبة: قاعدة: "لا حجة مع الاحتمال الناشيء عن دليل". وأساسها قولهم "إن التهمة إذا تطرقت إلى فعل الفاعل حكم بفساد فعله". وهذه القاعدة يعمل بها الحنفية والحنابلة دون الشافعية. وقد يعمل بها المالكية ضمن قيود. ومنها عند الحنفية: "الأصل أن جواز البيع يتبع الضمان" وأما عند الشافعي: "فإن جواز البيع يتبع الطهارة". ويأتي بيان ذلك في موضعه إن شاء الله.
مسألة:
رأينا أن القواعد ذوات المجال الضيق - أي التي تختص بباب أو جزء باب - هي ضوابط، إذ مجالها التطبيقي بعض الفروع الفقهية من باب واحد من أبواب الفقه، أو هي تختص بنوع من الأحكام الفرعية لا يعمم في غير مجاله.
ومثال الضابط: "إن المحرم إذا أخر النسك عن الوقت الموقت له أو قدَّمه لزمه دم".
وهذا الضابط عند أبي حنيفة رحمه الله. وخالفه في ذلك الفقهاء الآخرون ومنهم تلميذاه أبو يوسف ومحمد بن الحسن.
فما الفروق بين القاعدة والضابط؟
مع أن الفقهاء كثيراً ما يستعملون لفظ "القاعدة" ويعنون بها الضابط، ويستعملون لفظ "الضابط" ويعنون به القاعدة فالملاحظ أن بين والضابط فرقين رئيسيين هما:
الفرق الأول: أن القاعدة - كما سبق تجمع فروعاً من أبواب شتى ويندرج تحتها من مسائل الفقه ما لا يحصى. واما الضابط فإنه مختص بباب واحد من أبواب الفقه تعلل به مسائله، أو يختص بفرع واحد فقط.
الفرق الثاني: أن القاعدة في الأعم الأغلب متفق على مضمونها بين المذاهب أو أكثرها. وأما الضابط فهو يختص بمذهب معين - إلا ما ندر عمومه - بل منه ما يكون وجهة نظر فقيه واحد في مذهب معين قد يخالفه فيه فقهاء آخرون من نفس المذهب. كما سبق في الضابط المتقدم.
مصادر القواعد الفقهية
أعني بمصادر القواعد الفقهية منشأ كل قاعدة منها وأساس ورودها.
تنقسم مصادر القواعد الفقهية إلى أقسام ثلاثة رئيسية:
القسم الأول: قواعد فقهية مصدرها النصوص الشرعية من كتاب وسنة. فما كان مصدره نصاً من الكتاب الكريم هو أعلى أنواع القواعد وأولاها بالاعتبار حيث إن الكتاب الكريم هو أصل الشريعة وكليتها وكل ما عداه من الأدلة راجع إليه. فمن آيات الكتاب التي حرف مجرى القواعد:
1 -
قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} (1) فقد جمعت هذه الآية على وجازة لفظها أنواع البيوع ما أحل منها وما حرَّم عدا ما استثنى.
2 -
ومنها: قوله تعالى {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} (2) فهذه قاعدة شاملة لتحريم كل تعامل وتصرف يؤدي إلى أكل أموال الناس وإتلافها بالباطل من غير وجه مشروع يحله الله ورسوله، كالسرقة والغصب، والزنا، والجهالة، والضرر، والغرر، فكل عقد باطل يعتبر نوعاً من أكل أموال الناس بالباطل.
3 -
ومنها قوله تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} (3) فكما قال القرطبي (4) وغيره: هذه الآية من ثلاث كلمات - أي جُمل -
(1) الآية 275 من سورة البقرة.
(2)
الآية 188 من سورة البقرة.
(3)
الآية 199 من سورة الأعراف.
(4)
القرطبي هو: محمد بن أحمد بن أبي بكر الأنصاري الخزرجي الأندلسي أبو =
تضمنت قواعد الشريعة في المأمورات والمنهيات.
فقوله سبحانه: {خُذِ الْعَفْو} دخل فيه صلة القاطعين، والعفو عن المذنبين، والرفق بالمؤمنين، وغير ذلك من أخلاق المطيعين.
ودخل في قوله: {وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ} صلة الأرحام وتقوى الله في الحلال والحرام وغض الأبصار، والاستعداد لدار القرار.
وفي قوله {وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} الحض على التعلق بالعلم، والإعراض عن أهل الظلم، والتنزه عن منازعة السفهاء، ومساواة الجهلة الأغبياء، وغير ذلك من الأخلاق الحميدة والأفعال الرشيدة.
وهذه الآية هي الجامعة لمكارم الأخلاق. قال جعفر الصادق (1): أمر الله نبيه بمكارم الأخلاق في هذه الآية، وليس في القرآن آية أجمع لمكارم الأخلاق من هذه الآية (2).
4 -
ومنها قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} (3)
= عبد الله، من كبار المفسرين من أهل قرطبة رحل إلى الشرق واستقر بمصر وتوفي بها سنة 671 هـ من كتبه "الجامع في أحكام القرآن" الأعلام جـ 5 صـ 322 مختصراً.
(1)
جعفر الصادق هو: جعفر بن محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين بن علي الهاشمي القرشي، أبو عبد الله كان من أجلاء التابعين. أخذ عنه العلم أبو حنيفة ومالك، مولده ووفاته بالمدينة توفي سنة 148 هـ. الأعلام جـ 2 صـ 126 مختصراً.
(2)
الجامع لأحكام القرآن جـ 7 صـ 344 - 347، نظم الدرر جـ 9 صـ 203، الدر المنثور جـ 3 صـ 280.
(3)
الآية 1 من سورة المائدة.
فالأمر يقتضي الوفاء بكل عقد مشروع، واحترام كل ما يلتزم به الإنسان مع الناس.
5 -
قوله تعالى في الآية الجامعة الفاذة {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)} (1).
وغير ذلك في كتاب الله كثير.
ومن الأحاديث الشريفة الجامعة التي جرت مجرى القواعد إلى جانب مهمتها التشريعية فإن الرسول صلى الله عليه أوتي جوامع الكلم واختصر له الكلام اختصاراً.
1 -
قوله عليه الصلاة والسلام وقد سئل عن حكم أنواع من الأشربة فقال عليه الصلاة والسلام: "كل مسكر حرام (2) ". فدل هذا الحديث على وجازة لفظه على تحريم كل مسكر من عنب أو غيره مائع أو جامد، نباتي أو حيواني أو مصنوع.
2 -
ومنها قوله عليه الصلاة والسلام: "لا ضرر ولا ضرار (3) ". القاعدة الكلية الكبرى، فهذا الحديث نص في تحريم الضرر بأنواعه؛ لأن لا النافية تفيد استغراق الجنس فالحديث وإن كان خبراً لكنه في معنى النهي، فيصير المعنى "اتركوا كل ضرر وكل ضرار".
3 -
ومنها قوله عليه الصلاة والسلام "المسلمون عند شروطهم (4) " فظاهر المعنى وجوب احترام كل ما رضيه المتعاقدان من
(1) الآيتان 7، 8 من سورة الزلزلة.
(2)
الحديث يأتي تخريجه.
(3)
الحديث يأتي تخريجه.
(4)
الحديث رواه أبو داود، والحاكم في المستدرك وأحمد في البيع. وقد حسنه الترمذي وضعفه النسائي.
الشروط، إلا الشروط التي تحل الحرام أو تحرم الحلال، كما ورد في رواية.
القسم الثاني: ما كان من غير النصوص:
وهو أنواع:
النوع الأول: قواعد فقهية مصدرها الإجماع المستند إلى الكتاب والسنة، فمن أمثلة قواعد هذا المصدر:
1 -
قولهم: "لا اجتهاد مع النص" فهذه القاعدة تفيد تحريم اجتهاد في حكم مسألة ورد فيها نص من الكتاب أو السنة أو الإجماع؛ لأنه إنما يحتاج للاجتهاد عند عدم وجود النص، أما عند وجوده فلا اجتهاد إلا في فهم النص ودلالته.
2 -
قولهم "الاجتهاد لا ينقض بمثله" أو بالاجتهاد" وهذا أمر مجمع عليه والمراد أن الأحكام الاجتهادية إذا فصلت بها الدعوى على الوجه الشرعي ونفذت أنه لا يجوز نقضها بمثلها لأن الاجتهاد الثاني ليس أولى من الاجتهاد الأول، ولأنه إذا نقض الأول جاز أيضاً نقض الثاني بثالث والثالث بغيره فلا يمكن أن تستقر الأحكام.
ولكن إذا تبين مخالفة الإجتهاد للنص الشرعي أو لمخالفته طريق الاجتهاد الصحيح، أو وقوع خطأ فاحش، فينقض حينئذٍ.
النوع الثاني: وهو قسمان:
الأول: قواعد فقهية أوردها الفقهاء والمجتهدون مستنبطين لها من أحكام الشرع العامة ومستدلين لها بنصوص تشملها من الكتاب والسنة والإجماع ومعقول النصوص مثل:
1 -
قاعدة "الأمور بمقاصدها" مستدلين لها بقوله عليه الصلاة
والسلام: "إنما الأعمال بالنيات .. " وقد جعلنا هذا الحديث رأس القاعدة وعنواناً دالاً عليها لا دليلاً لها، وصُدَّرت به هذه الموسوعة تيمناً واقتداءً.
ومثل قاعدة "اليقين لا يزول بالشك" المستَدَلّ لها بأحاديث كثيرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، مثل قوله عليه الصلاة والسلام "إذا شك أحدكم في صلاته فلم يدر كم صلى أثلاثاً أم أربعاً، فليطرح الشك وليبن على ما استيقن
…
الحديث (1)" ومثل قاعدة: "المشقة تجلب التيسير" وهي قاعدة رفع الحرج وقاعدة الرخص الشرعية. وأدلتها كثيرة من الكتاب والسنة والإجماع والمعقول. ومثل قاعدة: "العادة محكَّمة" وهي قاعدة اعتبار العرف وتحكيمه فيما لا نص فيه وأدلتها من الكتاب والسنة والإجماع كثيرة منها قوله تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (199)} (2)
وقوله سبحانه {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} (3) ومنها قوله صلى الله عليه وسلم لهند "خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف (4) ".
ومنها قاعدة: "إعمال الكلام أولى من إهماله" ومن أدلتها قوله تعالى: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18)} (5) وقوله
(1) رواه مسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
(2)
الآية 199 من سورة الأعراف.
(3)
الآية 19 من سورة النساء.
(4)
الحديث رواه البخاري في البيوع والنفقات والأقضية وهو عند مسلم وغيره أيضاً.
(5)
الآية 18 من سورة ق.
عليه الصلاة والسلام: "إن الله تعالى عند كل لسان قائل فليتق الله عبد ولينظر ما يقول (1) ". إحدى روايات الحديث.
الثاني: قواعد فقهية أوردها الفقهاء المجتهدون في مقام الاستدلال القياسي الفقهي حيث تعتبر تعليلات الأحكام الفقهية الاجتهادية ومسالك الاستدلال القياسي عليها، أعظم مصدر لتقعيد هذه القواعد وإحكام صيغها بعد استقرار المذاهب الفقهية الكبرى وانصراف أتباعها إلى تحريرها وترتيب أصولها وأدلتها. كما قال أستاذنا الزرقا.
وهذه القواعد التي استنبطها الفقهاء المتأخرون من خلال أحكام المسائل التي أوردها أئمة المذاهب في كتبهم أو نقلت عنهم لا تخرج عن نطاق أدلة الأحكام الشرعية الأصلية أو التبعية الفرعية، فالناظر لهذه القواعد والباحث عن أدلة ثبوتها وأساس التعليل بها يراها تندرج كل منها تحت دليل شرعي إما من الأدلة المتفق عليها كالكتاب والسنة والإجماع، وإما من الأدلة الأخرى كالقياس والاستصحاب والمصلحة - أو الاستصلاح - والعرف، والاستقراء، وغير ذلك مما يستدل به على الأحكام؟ لأنه لا يعقل ويستبعد جداً أن يبني فقيه مجتهد حكماً لمسألة فقهية، أو يعلل لمسائل فقهية معتمداً على مجرد الرأي غير المدعوم بأدلة الشرع أو معتمداً على الهوى والتشهي، فهم رحمة الله عليهم كانوا أجلّ وأورع وأتقى وأخشى لله من أن يفتي أحدهم أو يحكم في مسألة أو يقضي بحكم غير مستند إلى دليل شرعي مقرر، وسواء اتفق عليه أم اختلف الفقهاء في اعتباره فمن استند إلى القياس لا يقال: إنه حكم بغير ما أنزل الله: لأن هناك من يُنكر القياس ولا يعمل به.
(1) إتحاف السادة المتقين للزبيدي جـ 5 صـ 454، والحلية جـ 8 صـ 160، 352.
وكذلك من استند في حكمه إلى المصلحة الغالبة أو مصلحة غلب على ظنه وجودها لا يقال: إن حكمه مخالف للشرع لأن غيره من الفقهاء قد لا يعمل بالمصلحة ولا يستدل بها، أو لا يرى في هذه المسألة مصلحة.
وكذلك بالنسبة للعرف أو قول الصحابي، أو شرع من قبلنا، أو سد الذرائع أو الاستقراء أو غير ذلك من الأدلة أو مواطن الاستدلال التي ما عمل بها من عمل إلا مستدلاً لها بأدلة من الكتاب أو السنة أو المعقول المبني على قواعد الشرع وحِكمه.
من أمثلة هذه القواعد المستنبطة والمعلل بها قولهم:
1 -
"إنما يثبت الحكم بثبوت السبب" هذه قاعدة أصولية فقهية استنبطها الفقهاء المجتهدون من الإجماع ومعقول النصوص، فمثلاً: يثبت وجوب صلاة الظهر وتعلقها في ذمة المكلف بزوال الشمس، فزوال الشمس سبب لثبوت الوجوب للصلاة، فلو لم يثبت الزوال لم يثبت الوجوب، وقد يستدل لها بقوله تعالى:{أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ} (1)
ومنها قولهم: "الأيمان في جميع الخصومات موضوعة في جانب المدعى عليه إلا في القسامة".
وهذه القاعدة مستنبطة من الحديث: "البينة على المدعي واليمين على المدَّعى عليه (2) ". ومنها قولهم: "إذا اجتمعت الإشارة
(1) الآية 78 من سورة الإسراء.
(2)
الحديث رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة.
والعبارة واختلف موجبهما غُلِّبت الإشارة (1) ". هذه القاعدة مستنبطة من المعقول والعرف.
ومنها قولهم:
"إذا وجبت مخالفة أصل أو قاعدة وجب تقليل المخالفة ما أمكن (2) ".
فهذه القاعدة مستنبطة من معقول النصوص الرافعة للحرج والمشقة مثل قوله تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} (3).
ومثل قوله عليه الصلاة والسلام: "إذا أمرتكم بشيء فخذوا منه ما استطعتم (4) ".
(1) أشباه السيوطي صـ 314، الفرائد البهية صـ 22، المنثور للزركشي جـ 1 صـ 167 وأشباه ابن الوكيل ق 1 صـ 315.
(2)
قواعد المقري القاعدة الثانية والستون بعد المئتين.
(3)
الآية 286 من سورة البقرة.
(4)
الحديث أخرجه ابن ماجة عن أبي هريرة رضي الله عنه. المقدمة الحديث الثاني جـ 1 صـ 3.