الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المسألة الثالثة: "حقيقة النية
".
مر معنا في المسألة الأولى معنى النية في اللغة، وقيل في حقيقتها - إلى جانب ما سبق -: هي الطلب، قيل: الجد في الطلب، ومنه قول ابن مسعود رضي الله عنه "من ينوي الدنيا تعجزه" أي من يجد في طلبها. وقيل القصد للشيء بالقلب وقيل: عزيمة القلب، وقيل: هي من النوى بمعنى البعد، فكأن الناوي للشيء يطلب بقصده وعزمه ما لم يصل إليه بجوارحه وحركاته الظاهرة لبعده عنه، فجُعلت النيَّة وسيلة إلى بلوغه (1).
قال الزركشي (2): حقيقة النية ربط القصد بمقصود معين. والمشهور أنها مطلق القصد إلى الفعل.
وقال الماوردي (3): هي قصد الشيء مقترناً بفعله، فإن قصده وتراخى عنه فهو عزم. وقال الغزالي في فتاويه: حقيقة النية القصد إلى الفعل وذلك مما يصير به الفعل اختيارياً كالهوي إلى السجود، فإنه يكون تارة
(1) طرح التثريب ج 2 صـ 7، عمدة القاري ج 1 صـ 23، فتح الباري ج 1 صـ 13.
(2)
الزركشي بدر الدين أبو عبد الله محمد بن بهادر الزركشي الشافعيّ المحدث الأصولي اللغوي الأديب ولد سنة 745 بالقاهرة وتوفي سنة 794. وله مؤلفات عديدة منها البحر المحيط في أصول الفقه، والمنثور في القواعد الفقهية. شذرات الذهب لابن العماد ج 6 صـ 335 مختصراً.
(3)
الماوردي: علي بن محمد بن حبيب أبو الحسن أقضى فقهاء عصره من أصحاب التصانيف الكثيرة النافعة ولد بالبصرة سنة 364 ثم انتقل إلى بغداد وولي القضاء توفي سنة 450، وله من المؤلفات - الأحكام السلطانية وأدب الدنيا والدين، الحاوي في فقه الشافعية. الأعلام ج 4 هـ 327 - طبقات السبكي صـ 303
بقصده وتارة يكون بسقوط الإنسان على وجهه بصدمة، فهذا القصد يضاده الاضطرار.
والقصد الثاني كالعلة لهذا القصد وهو الانبعاث لإجابة الداعي لغرض ما، والنية إذا أُطلقت في الغالب أُريد بها انبعاث القصد موجها للغرض، فالغرض علة، وقصد الفعل لا ينفك عن الخطر، إذ اللسان لا يجري عليه كلام منظوم اضطراراً، والفكر قد ينفك عن النية، فهذا يفيدك أن النية عبارة عن: إجابة الباعث المتحرك.
والقصد نوعان: فالقصد الأوّل: يستدعي علماً، فإن من لا يعلم القيام ولا التكبير لا يقصده.
والقصد الثاني: أيضاً يستدعي العلم بأن الغرض إنما يكون باعثاً في حق من علم الغرض فيرجع إلى الثاني وهو النية (1).
وعلى ذلك فقد ذكر الفقهاء للنية معنيين اصطلاحيين: معنىً عاماً، ومعنىً خاصاً.
فالمعنى العام للنية كما ذكره البيضاوي (2): هو: "انبعاث القلب نحو ما يراه موافقاً لغرض من جلب نفع أو دفع ضر حالاً أو مالاً".
(1) المنثور للزركشي جـ 3 صـ 284 بتصرف.
(2)
الإمام البيضاوي ناصر الدين عبد الله بن عمر بن محمد الشيرازي، أبو سعيد البيضاوي قاضٍ مفسر علامة أصولي، ولد في مدينة البيضاء بفارس، وله تآليف جيدة، من أشهرها تفسيره أنوار التنزيل، ومنهاج الوصول إلى علم الأصول وغيرها، توفي سنة 685. الأعلام جـ 4 صـ 110.
وهذا النوع من النية يراد به التمييز في المحتمل كتمييز التصرفات وكتمييز العبادات عن المباحات، وكتمييز العبادات بعضها عن بعض، وهذا هو الإطلاق الأكثر للنية.
وأما المعنى الخاص للنية: فهو "قصد الطاعة والتقرب إلى الله تعالى بإيجاد الفعل (1)، أو الإمتناع عنه". أو هو: "توجه الإرادة نحو الفعل لابتغاء رضاء الله وإمتثال حكمه (2) ".
فمن أمثلة ذلك:
- أداء الديون إذا أعطى المدين الدائن من جنس حقه فإنه يحتمل التمليك هبة وقرضاً ووديعة وإباحة وأداء للدين، فلا بد من نية تمييز إقباض الدين عن سائر أنواع الإقباض، ولا يشترط نية التقرب.
فمن لم يقصد أداء الدين لا يقع عن الدين.
- ومن جاز له الشراء لنفسه ولغيره كالوكيل والوصي فإنه يملك التصرف لنفسه ولموكله ويتيمه فإذا أُطلق الشراء ينصرف لنفسه ولا ينصرف إلي غيره إلا بالنية المميزة.
- والإمساك عن الطعام قد يكون حمية وتداوياً، وقد يكون استجابة لأمر الله، فيكون عبادة.
(1) أشباه ابن نجيم صـ 29 وابن نجيم هو: العلامة زين الدين إبراهيم بن محمد الشهير بابن نجيم من مشاهير علماء الحنفية. ولد بالقاهرة سنة 926 هـ وأخذ عن علمائها له مؤلفات في الفقه والأصول والقواعد وغيرها توفي سنة 970 هـ. عن مقدمة كتابه الأشباه والفوائد البهية صـ 134 التعليقات السنية.
(2)
فتح الباري ج 1 صـ 13.
- وإعطاء المال قد يكون زكاة واجبة وقد يكون صدقة وقد يكون كفارة وغير ذلك، فلا تمييز بين غرض وغرض إلا بالنية.
هذا وقد اختلفت عبارات الفقهاء في معنى النية - كما رأينا -، لكن حين النظر إلى تلك التعريفات نرى أن أكثر الفقهاء قد عبروا عنها بالقصد كما مرّ معنا آنفا، ومن هؤلاء:
الزركشي تبعا للماوردي والغزالي في قول عنده، وكما قال النووي: النية هي قصد الشيء مقترناً بفعله (1)، وكما قال ابن قدامة:"ومعنى النية القصد (2) ".
ومرّ معنا قول ابن نجيم حينما عرف النية بأنها: "قصد الطاعة والتقرب إلى الله بإيجاد الفعل (3) ". ومنهم من عرف النية بأنها العزم، فالغزالي يقول في قول آخر له: النية العزم (4).
وقال النووي في قول آخر: "النية القصد وهي عزيمة القلب (5) ". وبذلك قال برهان الدين بن مفلح حيث عرَّف النية بأنها: "العزم على فعل الشيء تقربا إلى الله تعالى (6) ".
(1) شرح النووي على الأربعين صـ 8
(2)
المغني ج 1 صـ 298.
(3)
الأشباه والنظائر لابن نجيم صـ 29.
(4)
إحياء علوم الدين ج 1 صـ 298.
(5)
فتح البارى ج 1 صـ 13، وعمدة القاري ج 1 صـ 23.
(6)
المبدع ج 1 صـ 414، وابن مفلح هو شمس الدين أبو عبد الله محمد بن مفلح الراميني الحنبلي صاحب الفروع، ولد سنة 712 هـ على قول وتوفي سنة 763 هـ.
وابن لبّ (1) من المالكية يقول: النية عزمة القلب خاصة (2).
ومنهم من عرّف النية بأنها الباعث والانبعاث، فالغزالي يقول: فالنية عبارة عن الميل الجازم الباعث للقدرة، ثم يقول: والنية عبارة عن نفس ميل القلب إلى الخير. والبيضاوي يقول: النية هي انبعاث القلب نحو ما يراه .. الخ. وفي قول آخر للغزالي: حقيقة النية هي الإرادة الباعثة للقدرة المنبعثة عن المعرفة، ويضرب لذلك مثلاً: "فالذي يغزو قد يكون الباعث له ميلاً إلى المال فذلك نيته، وقد يكون الباعث ميلاً إلى ثواب الآخرة فذلك نيته، فالنية عبارة عن الإرادة الباعثة (3).
والنية بمعنى الإرادة قالها الكاساني (4) أيضاً حيث يقول: "النيَّة هي الإرادة، فنية الصلاة هي إرادة الصلاة لله تعالى على الخلوص، والإرادة عمل القلب (5) ".
وقال ابن رجب (6): "واعلم أن النية في اللغة نوع من القصد
(1) ابن لب هو أبو سعيد فرج بن قاسم الغرناطي المالكي أورد له الونشريسي فتاوى أحوبة كثيرة وهو نحوي من الفقهاء العلماء، انتهت إليه رئاسة الفتوى في الأندلس، وتوفي سنة 783 هـ. بغية الوعاة ج 2 صـ 234، والإعلام ج 5 صـ 40.
(2)
عن المعيار المغرب ج 1 صـ 146.
(3)
الأربعين في أصول الدين صـ 171 - 172.
(4)
الكاساني أو الكاشاني: أبو بكر بن مسعود بن أحمد علاء الدين صاحب كتاب بدائع الصنائع، مات بحلب سنة 578 هـ. طبقات الفقهاء لطاش كبرى زادة صـ 102 اختصار.
(5)
بدائع الصنائع ج 1 صـ 127.
(6)
ابن رجب هو الإمام الحافظ عبد الرحمن بن أحمد بن رجب السلامي البغدادي =
والإرادة (1) ".
فإذاً قد ورد تعريف النية وبيان حقيقتها عند الفقهاء بمعانٍ عدة، هي: القصد والعزم والباعث والإنبعاث والإرادة الباعثة والإرادة؛ فهل هنالك فرق حقيقي بين معاني هذه الألفاظ؟.
يقول البدر العيني (2) في عمدة القاري: "إن الحافظ أبا الحسن علي بن المفضل المقدسي (3) قد جعل في أربعينه: النية والإرادة والقصد والعزم بمعنى، ثم قال: وكذا أزمعت على الشيء وعمدتُ إليه"(4)، والعزم هو إرادة الفعل والقطع عليه.
ويقول ابن رجب: والنية في كلام العلماء تقع بمعنيين (5): أحدهما تمييز العبادات بعضها عن بعض كتمييز صلاة الظهر من صلاة العصر، أو تمييز العبادات بعضها عن بعض كتمييز الغسل من الجنابة من غسل التبرد
= ثم الدمشقي صاحب كتاب طبقات الحنابلة، والقواعد، توفي سنة 795 هـ.
(1)
جامع العلوم والحكم صـ 7.
(2)
والبدر العيني هو: محمد بن أحمد بن موسى أبو محمد بدر الدين العيني الحنفي: مؤرخ علَّامة من كبار المحدثين أصله من حلب من قرية عينتاب - وإليها نسب صاحب عمدة القاري شرح صحيح البخاري وغيره توفي سنة 855 بالقاهرة الأعلام ج 7 صـ 163 مختصراً.
(3)
هو أبو الحسن علي بن الفضل شرف الدين اللخمي أصله من بيت المقدس ومولده وسكنه الأسكندرية، له تصانيف منها كتاب الأربعين. توفي سنة 611 بالقاهرة الأعلام ج 5 صـ 23 مختصراً.
(4)
عمدة القاري ج 1 صـ 23.
(5)
وهذان المعنيان فى الحقيقة يرجعان إلى المقصود من شرع النية وليس إلى حقيقة النية.
والتنظيف ونحو ذلك. وهذه النية هي التي توجد كثيراً في كلام الفقهاء.
والمعنى الثاني بمعنى تمييز المقصود بالعمل وهل هو لله وحده لا شريك له أو لله وغيره. وهذه هي النية التي يتكلم بها العارفون في كتبهم في كلامهم على الإخلاص وتوابعه، وهي التي توجد كثيراً في كلام السلف، وهي النية التي يتكرر ذكرها في كلام النبي صلى الله عليه وسلم تارة بلفظ النية، وتارة بلفظ الإرادة، وتارة بلفظ مقارب لذلك. وقد جاء ذكرها كثيراً في كلام الله عز وجل بغير لفظ النية أيضاً من الألفاظ المقاربة لها، وإنما فرَّق مَنْ فَرَّقَ بين النية وبين الإرادة والقصد ونحوهما لظنهم اختصاص النية بالمعنى الأول الذي يذكره الفقهاء فمنهم من قال: النية تختص بفعل الناوي، والإرادة لا تختص بذلك؛ كما يريد الإنسان من الله أن يغفر له ولا ينوي ذلك. والنية في كلام النبي صلى الله عليه وسلم وسلف الأمة إنما يراد بها المعنى الثاني غالباً، فهي حينئذٍ بمعنى الإرادة، ولذلك يعبر عنها بلفظ الإرادة في القرآن كثيراً، كما قد يعبر عنها بلفظ الابتغاء (1).
ومن هنا نستطيع القول إن النية والإرادة والقصد والعزم والابتغاء والانبعاث ألفاظ تؤدي معنى متقارباً، إذ تدل جميعها على توجه القلب نحو المقصود المراد، والله أعلم، وتطلق الإرادة على الله تعالى ولا يطلق عليه غيرها.
(1) جامع العلوم والحكم صـ 7، 8.