الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المقدمة السابعة: نشأة القواعد الفقهية وتدوينها وتطورها
عند الحديث عن مصادر القواعد الفقهية تبين أن من القواعد الفقهية ما أصله من نصوص الكتاب العزيز، أو من نصوص السنة النبوية المطهرة حيث جرى كثير منها مجرى القواعد كما جرى كثير منها مجرى الأمثال.
وإلى جانب ذلك أثر عن فقهاء الصحابة رضوان الله عليهم وكثير من أئمة التابعين ومن جاء بعدهم من كبار أتباعهم عبارات وردت إما عند تأصيل مبدأ، وإما عند تعليل أحكام، وهذه العبارات كانت أساساً لما سمي فيما بعد بالقواعد الفقهية.
ولما كان ما عدا ذلك ناتجاً عن اجتهادات للفقهاء في تعليل الأحكام وتأصيلها فإنه لا يعرف لكل قاعدة فقيه معروف وقائل لها؛ لأن هذه القواعد لم توضع كلها جملة واحدة على يد هيئة واحدة أو لجنة واحدة كما توضع النصوص القانونية في وقت معين على أيدي أناس معلومين.
ولكن هذه القواعد تكونت مفاهيمها وصيغت نصوصها بالتدريج في عصر أزدهار الفقه ونهضته على أيدي كبار فقهاء المذاهب من أهل التخريج والترجيح استنباطاً من دلالات النصوص الشرعية العامة والأدلة الشرعية، وعلل الأحكام وأسرار التشريع والمقررات العقلية.
والمعاني الفقهية لهذه القواعد كانت مقررة في أذهان الأئمة المجتهدين يعللون بها ويقيسون عليها، وقد كانت تسمى عندهم أصولاً.
ولعل أقدم مصدر فقهي يسترعي انتباه الباحث في هذا المجال هو "كتاب الخراج" الذي ألَّفه الإمام أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم
الأنصاري (1) أكبر تلاميذ الإمام أبي حنيفة وحامل لواء المذهب بعده ورئيس قضاة الدولة الإسلامية في عهد الخليفة هارون الرشيد، وقد ألف أبو يوسف كتابه هذا للخليفة هارون الرشيد ليجعل نظاماً وقانوناً تسير عليه الدولة في تنظيم الخراج ومعاملة أهل الذمة، وقد اشتمل هذا الكتاب على عدد من العبارات التي جرت مجرى القواعد بل كانت أساساً بني عليه من جاء بعده.
ولما كان المقصود من تأليف هذه الموسوعة تيسير علم القواعد على العلماء والفقهاء وطلاب العلم، ولما كان وضع هذه المقدمات لتعطي الدارس صورة واضحة عن هذا العلم ومبادئه، ولما كان المقصد وجه الله سبحانه وابتغاء مرضاته رأيت أن أوفى بحث في هذا الجانب وهذه المقدمة هو ما كتبه الأخ الفاضل الدكتور علي بن أحمد الندوي في كتابه القواعد الفقهية: نشأتها، تطورها، دراسة مؤلفاتها، وهو الكتاب الذي قدمه لجامعة أم القرى للحصول على درجة الماجستير، وليس وراء هذا البحث زيادة لمستزيد رأيت أن أعتمد عليه في بيان هذه المقدمة لما اشتمل عليه من أبحاث جليلة مفيدة نافعة والحكمة ضالة المؤمن، قال حفظه الله:
ولما توغلت في بحوث الكتاب - يعني كتاب الخراج - وقفت على عبارات رشيقة تتَّسم بسمات وشارات تتَّسق بموضوع القواعد من حيث شمول معانيها وفيما يلي أورد طرفاً منها:
(1) أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم بن حبيب الأنصاري الكوفي البغدادي صاحب أبي حنيفة وأكبر تلاميذه وأول من نشره مذهبه كان فقيهاً علامة من حفاظ الحديث ولي القضاة ببغداد أيام المهدي والهادي والرشيد، ومات في خلافة الرشيد وهو =
1 -
"التعزير إلى الإمام على قدر عِظَم الجرم وصِغَرهِ" يقول عند تعرّضه لمسائل تتعلق بالتعزير: "وقد اختلف أصحابنا في التعزير قال بعضهم: لا يبلغ به أدنى الحدود أربعين سوطاً، وقال بعضهم: أبلغ بالتعزير خمسة وسبعين سوطاً، أنقص من حدّ الحُرِّ وقال بعضهم: أبلغ به أكثر. وكان أحسن ما رأينا في ذلك والله أعلم: أن التعزير إلي الإمام على قدر عِظَم الجرم وصِغَره ....... "(1).
فهنا بعد أن سجَّل الخلاف القائم بين فقهاء ذلك العصر في موضوع التعزير نحا الإمام أبو يوسف منحى جديداً، وهو أن وضع أصلاً في هذا الباب بتفويض الأمر إلى الحاكم، بحيث سوَّغ له أن يُقَدِّر التعزير في ضوء الملابسات المحيطة بالجرم وصاحبه.
2 -
"كل من مات من المسلمين لا وارث له، فماله لبيت المال"(2): لا شك أن هذه العبارة كسابقتها تقرر قاعدة قضائية مهمَّة. وهي بمثابة شاهد على وجود قواعد جرت على أقلام الأقدمين مصوغةً بصياغات مُحْكَمة.
3 -
"ليس للإمام أن يُخْرج شيئاً من يد أحدٍ إلا بحق ثابت معروف"(3): هذه العبارة نظيرة للقاعدة المشهورة المتداولة "القديم يُترك على
= أول من دعي فاضى القضاة من كتبه الخراج ومسند أبي حنيفة والآثار وغيرها توفي سنة 182 هـ. سير أعلام النبلاء جـ 8 صـ 535 فما بعدها بتصرف واختصار.
(1)
كتاب الخراج، (ط. القاهرة الرابعة، المطبعة السلفية، 1392 هـ) صـ 180.
(2)
المصدر نفسه، صـ 201.
(3)
المصدر نفسه، صـ 71.
قِدَمِه" (م/ 6).
ويمكن أن تكتسب العبارة سِمة القاعدة بعد تعديل طفيف فيها على النحو التالي:
"لا يُنْزَعُ شيءٌ من يد أحد إلَاّ بحقٍ ثابتٍ معروف"(1).
4 -
"ليس لأحد أن يُحدِث مرْجاً في ملك غيره، ولا يتخذ فيه نهراً ولا بئراً ولا مزْرَعةً، إلا بإذن صاحبه، ولصاحبه أن يُحدث ذلك كله"(2).
إذا نظرت في هذه العبارة ثم سرَّحْتَ طرفك في القواعد المتداولة في الحِقبة الأخيرة، لمحت فيها شبيهاً للكلام المذكور.
وذلك الشبيه ما جاء في قواعد مجلة الأحكام العدلية أنه: "لا يجوز لأحد أن يتصرف في ملك الغير أو حقه (3) بلا إذنه"(م / 96).
وبجانب آخر يظهر عند الموازنة بين النَّصين ان عبارة كتاب الخراج تفيد الحظر على التصرف الفعلي في ملك الغير في حين أن قاعدة المجلة يتسع نطاقها إلى منع التصرّف القولي مع التصرف الفعلي.
وكل ذلك يساعد على فهم التطور المُثمِر المتواصل في مجال هذا العلم.
5 -
"لا ينبغي لأحد أن يُحْدِث شيئاً في طريق المسلمين مما يضرّهم.
(1) هكذا صاغها الأستاذ الجليل مصطفى الزرقا في: المدخل الفقهي العام 2/ 982، لفقرة:596.
(2)
كتاب الخراج، صـ 111.
(3)
هذه الزيادة من شرح القرق أغاجي صـ 73
ولا يجوز للإمام أن يقطع شيئاً مما فيه الضرر عليهم ولا يسعه ذلك (1) ".
هذه العبارة يتحقق فيها معنى القاعدة باعتبار أن الشطر الأول منها يتعلق بقواعد رفع الضرر، والشطر الثاني يتمثَّل فيه مفهوم القاعدة الشهيرة: التصرف على الرعية منوط بالمصلحة" (م / 58).
6 -
"وإن أقرَّ بحقّ من حقوق الناس من قذف، أو قصاص في نفس، أو دونها أو مال، ثم رجع عن ذلك نُفِّذ عليه الحكم فيما كان أَقرَّ به، ولم يبطل شيء من ذلك برجوعه"(2).
هذه العبارة كسابقتها وردت في صيغة مطوّلة، لكنها تُصَوِّر في معنى الكلمة مدلول القاعدة المتداولة:"المرء مؤاخذ بإقراره"(م/79).
7 -
"كل ما فيه مصلحة لأهل الخراج في أراضيهم وأنهارهم، وطلبوا صلاح ذلك لهم، أجيبوا إليه، إذا لم يكن فيه ضرر على غيرهم"(3).
وبعد التأمل في تلك العبارات وأشباهها يمكن القول بأن فكرة التأصيل كانت مركوزةً في أذهان المتقدِّمين، وإن لم تظهر في سورة جليّة لعدم الحاجة إليها كثيراً.
وكذلك من أقدم ما وصل إلينا من تلك المصادر بعض كتب الإمام محمد بن الحسن الشّيْباني (4)(189 هـ).
(1) كتاب الخراج صـ 101.
(2)
المصدر نفسه، صـ 183.
(3)
كتاب الخراج صـ 183.
(4)
محمد بن الحسن بن فرقد، أبو عبد الله الشيباني الكوفي صاحب أبي حنيفة العلّامة فقيه العراق، ولد بواسط ونشأ في الكوفة وأخذ عن أبي حنيفة بعض الفقه وتمم الفقه على القاضي أبي يوسف، وروى عن أبي حنيفة والأوزاعي ومالك بن أنس =
فإذا أنعمنا النظر في كتاب الأصل ألْفَيْناه يعلل المسائل وهذا التعليل كثيراً ما يقوم مقام التَّقعيد.
وإليك مقتبسات من الكتاب المذكور، حتى يتبين كيف يُؤَصِّل الأحكام، ويقرنها بقواعدها.
ويقول في مبحث "الاستحسان": ولو أن رجلاً كان متوضئاً، فوقع في قلبه أنه أحدث وكان ذلك أكبر رأيه، فأفضل ذلك أن يعيد الوضوء، وإن لم يفعل وصلى على وضوئه الأول، كان عندنا في سعة، لأنه عندنا على وضوء حتى يستيقن بالحدث".
"وإن أخبره أحد مسلم ثقة، أو امرأة ثقة، مسلمة حرة أو مملوكة: أنك أحدثت، أو نمت مضطجعاً، أو رعفت، لم ينبغ له أن يصلي هذا. ولا يشبه هذا ما وصفت لك قبله من الحقوق، لأن هذا أمر الدين، فالواحد فيه حجة إذا كان عدلاً، والحقوق لا يجوز فيها إلا ما يجوز في الحكم"(1).
فإذا تأملنا في هذا النص وجدناه يعلل الحكم "بأكبر الرأي" وهو الظن الغالب وبناء عليه يفضل إعادة الوضوء في الصورة المذكورة، ثم يفتي بجواز الصلاة إن لم يعد الوضوء بناء على القاعدة المقررة "اليقين لا يزول بالشك".
= وغيرهم، وأخذ عنه الشافعي فأكثر جداً وهو ناشر مذهب أبي حنيفة ولد سنة 132، وتوفي سنة 189 بالري. سير أعلام النبلاء جـ 9 صـ 134.
(1)
كتاب الأصل، تحقيق أبي الوفاء الأفغاني؛ (ط. الهند الأولى، مطبعة دائرة المعارف العثمانية) 3/ 162.
هذا في الفقرة الأولى، أما الفقرة الثانية فهو ينص فيها على أصلين:
أولاً: كون خبر الواحد حجة في أمر الدين إذا كان عدلاً، ولقد ذكر هذه القاعدة في موضع أخر فقال:
"ما كان من أمر الدين، الواحد فيه حجة. (إذا كان عدلاً)(1).
ثانياً: الحقوق لا يجوز فيها إلا ما يجوز في الحكم، أي لا يكفي فيها قول واحد ولو كان عدلاً، كما في أمر الدين، بل لا بد من شاهدين كما في الحكم. والله أعلم.
ولا شك أن مثل هذا المنهج في التعليل أقرب ما يكون إلى منهج التقعيد الذي وجد في القرون المتأخرة.
وأحياناً نجده يسلك طريق البدء بالقاعدة ويفرَّع بعض المسائل عليها كما يتمثل ذلك في النص التالي.
3 -
و .... كل أمر لا يحل إلا بملك أو نكاح فإنه لا يحرم بشيء، حتى ينتقض النكاح والملك، ولا يكون الرجل الواحد المسلم ولا المرأة في ذلك حجة، إنه إنما حل من وجه الحكم ولا يحرم إلا من الوجه الذي حل به منه.
ألا ترى أن عقدة النكاح وعقدة الملك لا ينقضهما في الحكم إلا رجلان أو رجل وامرأتان، فإن كان الذي يحل بذلك لا يحل إلا به لم يحرم حتى ينتقض الذي به حل.
كل أمر يحل بغير نكاح ولا ملك إنما يحل بالإذن فيه، فأخبر رجل مسلم ثقة أنه حرام فهو عندنا حجة في ذلك،
(1) كتاب الأصل (3/ 116).
ولا ينبغي أن يؤكل ولا يشرب ولا يتوضأ منه" (1).
وقد وحدت هناك قواعد جامعة أخرى جرت على لسانه عند التعليل والتوجيه لبعض الأحكام، وإليك نماذج منها.
4 -
"كل من له حق فهو له على حاله حتى يأتيه اليقين على خلاف ذلك" واليقين أن يعلم أو يشهد عنده الشهود العدول (2).
5 -
"التحري يجوز في كل ما جازت فيه الضرورة"(3). وبناء على ذلك إذا اشتبه عليه الطاهر بالنجس لم يجب عليه أن يتحرى في أحدهما للوضوء وينتقل إلى البدل وهو التيمم بخلاف الشرب.
6 -
"لا يجتمع الأجر والضمان"(4) فانظر إلى هذه القواعد كيف أُحْكم نسجها وصقلت صياغتها وإن منها ما يماثل تم الأسلوب الذي راج وشاع في كتب المتأخرين عند التقعيد على سبيل المثال قوله "لا يجتمع الأجر والضمان" فقد عبرت عنه "المجلة": بالصيغة نفسها تقريباً وهي: "الأجر والضمان لا يجتمعان"(5).
(1) كتاب الأصل (3/ 113).
(2)
المصدر نفسه (3/ 166).
(3)
المصدر نفسه (3/ 34).
(4)
كتاب الأصل (3/ 45)، ولقد وردت هذد القاعدة في كتاب التحري كما في النص الآتي: ولو آجر العبد نفسه - وهو محجور عليه - رجلاً سنة بمائة درهم ليخدمه، فخدمه ستة أشهر، ثم أعتق العبد فالقياس في هذا: أنه لا أجر للعبد فيما مضى لأن المستأجر كان ضامناً له، ولا يجتمع الأجر والضمان، ولكنا نستحسن إذا سلم العبد أن يجعل له الأجر فيما مضى، فيأخذه العبد فيدفعه إلى مولاه، فيكون ذلك لمولاه دونه".
(5)
مجلة الأحكام (م /86).
وعلى ذلك المنوال جرى الإمام المذكور في مواضع من كتابه "الحجة" أيضاً، فعلى سبيل المثال نجده في كتاب البيوع من الكتاب المذكور يتطرق إلى مسائل كثيرة ثم في الختام يضع قاعدة مهمة فيقول:
7 -
"كل شيء كره أكله والانتفاع به على وجه من الوجوه فشراؤه وبيعه مكروه، وكل شيء لا بأس بالانتفاع به فلا بأس ببيعه"(1).
وعلى غرار ما سبق لما قلبنا النظر في كتاب "الأم" الذي أملاه الإمام الشافعي رحمه الله (204 هـ) على بعض أصحابه وجدناه أحياناً يقرن الفروع بأصولها. وتلك الأصول في الغالب لا تعدو أن تكون ضوابط فقهية ومن الخليق بأن نسميّها "كُلّيات" باعتبار بدايتها بـ "كلّ".
وبجانب ذلك هناك قواعد فقهية يمكن إجراؤها وتطبيق الفروع عليها في كثير من الأبواب. وهي آية بيّنة على رواسب هذا العلم في أقدم المصادر الفقهية، ورسوخ فكرة التعليل والتأصيل للأحكام عند الأئمة الأولين. وإليك نماذج متنوعة من الكتاب المذكور:
1 -
"الأعظم إذا سقط عن الناس سقط ما هو أصغر منه": هذه القاعدة جرت على لسان الإمام الشافعي عند تعليل بعض الأحكام المتعلقة بالإكراه كما جاء في الكتاب المذكور تحت عنوان: "الاكراه وما في معناه": قال الشافعي رحمه الله: قال الله
(1) كتاب الحجة على المدينة، ترتيب وتصحيح وتعليق: السيد مهدي حسن الكيلاني. (ط الهند: حيدر أباد، 1983 هـ / 1968 م، تصوير بيروت، عالم الكتب)(2/ 771 - 772).
عز وجل {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ} (1) ثم أضاف إلى ذلك قائلاً: "وللكفر أحكام كفراق الزوجة وأن يقتل الكافر ويغنم ماله، فلما وضع الله عنه، سقطت عنه أحكام الإكراه على القول كله لأن الأعظم إذا سقط عن الناس سقط ما هو أصغر منه وما يكون حكمه بثبوته عليه"(2).
2 -
"الرخص لا يُتَعَدَّى بها مواضعها": نص على هذه القاعدة عند بيان مسائل تتصل بصلاة العذر، إذ يقول معلّلاً لبعض الأحكام:" .... إن الفرض استقبال القبلة والصلاة قائماً، فلا يجوز غير هذا إلا في المواضع التي دل رسول الله صلى الله عليه وسلم عليها، ولا يكون شيء قياساً عليه، وتكون الأشياء كلها مردودة إلى أصولها. والرخص لا يتعدى بها مواضعها"(3). ونجده يوحي إلى معنى هذه القاعدة في موضع آخر مع ضرب المثال لها فيقول: "
…
ولم نُعَدِّ بالرخصة موضعه كما مر نُعَدِّ بالرخصة المسح على الخفين، ولم نجعل عمامة ولا قفازين قياساً على الخفين" (4).
ويبدو عند التأمل أن هذه القاعدة قريبة مما تقرره القاعدة المشهورة: "ما ثبت على خلاف القياس ففيره لا يقاس عليه"(5).
3 -
"ولا ينسب إلى ساكت قول قائل ولا عمل عامل إنما ينسب إلى
(1) سورة النحل: الآية 106.
(2)
الأم (تصوير بيروت: دار المعرفة) 3/ 236
(3)
المصدر نفسه (1/ 80، باب صلاة العذر).
(4)
المصدر نفسه (2/ 167) باب فوت الحج بلا حصر عدوّ ولا مرض ولا غلبته على العقل.
(5)
انظر في الرسالة، صـ 420.
كلّ قوله وعمله" (1).
هذه القاعدة أفصح عنها عند نقاش موضوع الاجتماع على مسائل فقهية. ثم تداولها الفقهاء وطبقوها في كثير من الأحكام.
ولا شك أن القاعدة في موضعها جرت حسب مقتضى الموضوع، وربما لم تكن هناك حاجة إلي مزيد من الكلام لكن الفقهاء لم يقفوا عندها بل أتبعوها باستثناء يُكمل الموضوع فأضافوا إليها:"ولكن السكوت في موضع الحاجة بيان" وهذا المثال خير شاهد على التطور المستمر المتواصل في صيغ القواعد على امتداد الزمان.
4 -
(أ)"يجوز في الضرورة ما لا يجوز في غيرها"(2).
(ب) "قد يباح في الضرورات ما لا يباح في غير الضرورات (3).
(ج)"كل ما أحل من مُحرَّم في معنى لا يحل إلا في ذلك المعنى خاصة، فإذا زايل ذلك المعنى عاد إلى أصل التحريم، مثلاً: المَيْتَة المُحرَّمة في الأصل المُحَلَّةُ للمضطر، فإذا زايلت الضرورة عادت إلى أصل التحريم"(4). فهذه القواعد الثلاث - التي تباينت صيغها ومظاهرها - نجدها متحدةً في مغزاها، فإنها تُفْضى إلى مفهوم واحد وهو بيان حكم الضرورة.
(1) الأم، باب الخلاف في هذا الباب (أي باب الساعات التي تكره فيها الصلاة)(1/ 152).
(2)
المصدر نفسه (4/ 168 باب تفريع فرض الجهاد.
(3)
المصدر نفسه (4/ 142)، تفريق القسم فيما أوجف عليه الخيل والركاب.
(4)
المصدر نفسه (4/ 362)، الحجة في الأكل والشرب في دار الحرب.
ثم القاعدة الأخيرة بجانب بيان الحكم تضيف قيداً إلى القاعدة، وهو: فإذا زايلت الضرورة عادت إلى أصل التحريم. ومما لا غبار عليه ان هذه القواعد جرت على نسق قويم ورصين.
ثم هى وأشباهها ربما ساعدت الفقهاء على سبْك القاعدة وصهرها في قالب أضبط وأركز، فقد شاهدنا هذا التطور، ووجدنا الفقهاء يعبرون عما سبق بقولهم: الضرورات تبيح المحظورات، وكذا: الضرورة تُقدر بقدرها.
5 -
"الحاجة لا تُحق لأحد أن يأخد مال غيره"(1).
هذه القاعدة يتبين فيها مدى احترام حقوق العباد في أحوالهم والحفاظ عليها، إذ الحاجة لا تبرّر أخذ مال الغير، فلو أخذه أحد لكان آثماً وضامناً، بخلاف الضرورة التي تُسْقط الإثم وتفرض الضمان إذ الاضطرار لا يُبطلُ حقّ الغير.
وقد أشار الإمام الشافعي أيضاً إلي ذلك الفرق بين الضرورة والحاجة في القاعدة التالية:
6 -
"
…
وليس بالحاجة محرَّم إلَاّ في الضرورات" (2).
وما سوى تلك القواعد هناك عبارات مذهبية تحمل سمة القواعد كما ورد في النص التالي: "والرخصة عندنا لا تكون إلَاّ لمطيع، فأما العاصي فلا"(3).
فهذه العبارة وأمثالها لما تكررت على ألسنة الفقهاء اكتسبت
(1) المصدر نفسه (2/ 77).
(2)
الأم (3/ 28)، باب ما يكون رطباً أبداً.
(3)
المصدر نفسه (1/ 226) في أي خوف تجوز فيه صلاة الخوف وصـ 200 ط الشعب.
صيغة مركزة، فقد عبر عنها الفقهاء المتأخرون في المذهب بقولهم:"الرُّخص لا تناط بالمعاصي".
أما "الكليات" التي أشرت إلى وجودها في مستهل الكلام هنا فهي كثيرة، وبعضها قريب من مفهوم القواعد، ومعظمها ضوابط فقهية. وفيما يلي تقدم نماذج منها ونختم بها موضوع القواعد عند الإمام الشافعي.
1 -
"كل ما له مثل يردُّ مثله، فإن فات يردّ قيمته (1) "
2 -
"كل من جُعل له شيء فهو إليه إن شاء أخذه وإن شاء تركه"(2).
3 -
"كل حق وجب عليه فلا يبرئه منه إلا أداؤه"(3).
وفيما يبدو أن هذه الأمثلة يتحقق فيها مفهوم القاعدة وتصلح أن تدرج في سلكها من حيث المظهر والمعنى.
أما الكليات التي ينطبق عليها مفهوم الضابط فهي مثل قوله: "كل ثوب جهل من ينسجه، أنسجه مسلم، أو مشرك، أو وثني، أو مجوسي، أو كتابي، أو لبسه واحد من هؤلاء أو صبي، فهو على الطهارة حتى يعلم أن فيه نجاسة"(4).
وكذلك قوله: "كُلُ حالٍ قدر المصلي فيها على تأدية فرض الصلاة كما
(1) المصدر نفسه (3/ 241)، الإقرار بغصب شيء بعده وغير عدد.
(2)
المصدر نفسه (3/ 199) ، التفليس.
(3)
المصدر نفسه (2/ 68 - 69)، باب صيغة زكاة الفطر قبل قسمها.
(4)
المصدر نفسه (1/ 55) باب طهارة الثياب.
فرض الله تعالى عليه صلاها، وصلى ما لا يقدر عليه كما يطيق" (1).
فإن هذين المثالين لا يسري عليهما حكم القاعدة، فإنهما من الضوابط، ولكن يمكن أن نعدّ كلا المثالين ضابطاً في ميدان القواعد، من حيث إن المثال الأول يتضمن فروعاً تتعلق بالقاعدة الأساسية الشهيرة "اليقين لا يزول الشك".
والمثال الثاني بمثابة فرع لما تُقَرِّره القاعدة المتداولة بين الفقهاء: "الميسور لا يسقط بالمعسور".
ومن القواعد المنسوبة إلي الإمام الشافعي رحمه الله القاعدة المشهورة: "إذا ضاق الأمر اتسع" فقد ذكر العلامة الزركشي نقلاً عن أئمة الشافعية أن هذه القاعدة من عبارات الشافعي الرشيقة. وقد أجاب بها في عدة مواضع منها: ما إذا فقدت المرأة وليها في سفر فولت أمرها رجلاً يجوز. قيل له: كيف هذا؟ فقال: إذا ضاق الأمر اتسع" (2).
هناك عبارات مروية عن الإمام أحمد (3) رحمه الله (241 هـ). أوردها الإمام أبو داود (4) في كتاب "المسائل" تتسم بطابع القواعد.
(1) المصدر نفسه (1/ 81) باب صلاة المريض.
(2)
انظر: الزركشي: المنثور في القواعد، تحقيق الدكتور: تيسير فائق أحمد محمود (ط. الكويت) ج 1/ 120 - 121.
(3)
الإمام أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال الذهلي الشيباني المروزي أحد الأئمة الأعلام، ولد سنة 164، وتوفي سنة 241، وهو أشهر من أن يُترجم له، وقد أطال الذهبي الحديث عنه في كتابه سير أعلام النبلاء جـ 11 من صـ 177 - 358، وما أوفاه حقه.
(4)
أبو داود الإمام سليمان بن الأشعث بن شداد بن عمرو الأزدي السجستاني شيخ =
وهي قواعد مفيدة في أبوابها. منها: ما جاء في باب الهبة عنه قال: "سمعت أحمد يقول: "كل ما جاز في البيع تجوز فيه الهبة والصدقة والرهن" (1).
وفي باب بيع الطعام بكيله ورد عن طريقه قول أحمد أنه قال: "كل شيء يشتريه الرجل مما يكال أو بوزن فلا يبعه حتى يقبضه، وأما غير ذلك فرخص فيه"(2).
ومن هذا الباب ما روى عن القاضي سَوَّار (3) بن عبد الله (245 هـ) قوله: "كل أمر خالف أمر العامة فهو عيب يرد به"(4).
من خلال هذا العرض الوجيز لبعض ما وصل إلينا من الأحاديث والآثار والأقوال في معنى القواعد يمكن أن نخلص إلى الأمور التالية:
1 -
وجدت القواعد الفقهية ورسخت فكرتها عند الأقدمين في غضون هذه المراحل كلها، قبل أن تعرف تلك العبارات باعتبارها قواعد
= السنة، محدِّث البصرة، أحد حفاظ الإسلام، صاحب السنن، ولد سنة 202 هـ ورحل وجمع وصنف مات في شوال سنة 275. أهـ مختصراً. سير أعلام النبلاء جـ 13 صـ 203 فما بعدها.
(1)
أبو داود السجستاني: كتاب مسائل الإمام أحمد، تقديم: السيّد رشيد رضا، ط. بيروت الثانية). صـ 203.
(2)
المصدر نفسه، صـ 202.
(3)
هو سوَّار بن عبد الله القاضي العنبري، أبو عبد الله البصري، نزل بغداد، وولي بها قضاء الرَّصافة، وكان فقيهاً، فصيحاً، أديباً، شاعراً، سئل الإمام أحمد عن سوار فقال: "ما بلغني عنه إلا خير، توفي سنة خمس وأربعين ومائتين. أنظر. الخطيب/ تاريخ بغداد (ط. بيروت) ج 9/ 211 - 212.
(4)
وكيع: أخبار القضاة (2/ 55).
وتصطبغ بصبغة "العلم".
2 -
إذا أردنا أن نرسم صورة واضحة لتطور حركة التأليف في مجال القواعد، فإن علينا أولاً أن نعتمد على مثل تلك النصوص المبعثرة هنا وهناك فهي مصدر الانطلاق لنا في هذا الباب.
3 -
لقد جرت على ألسنة المتقدمين من القواعد ما تضارع القواعد المتداولة في القرون المتأخرة ولا سيما بعض ما ذكرناه عن الإمام محمد والإمام الشافعي - رحمهما الله - فهي تقريباً نفس القواعد المعهودة لدينا في أساليبها وصيغها.
4 -
فيما يظهر أن تلك الآثار والأقوال كانت حافزاً للمتأخرين على استنباط القواعد وجمعها وتدوينها، والتقدم نحو هذا الاتجاه.
وعلى أقل التقدير يمكن القول بناء على هذه النماذج المأثورة أنه قامت اللبنة الأولى للقواعد في غضون القرون الثلاثة الأولى، بحيث شاع فيها استعمال تلك القواعد وتبلورت فكرتها في أذهانهم، وإن لم يتسع نطاقها، لعدم الحاجة إليها كثيراً في تلك العصور. وهو الطور الأول الذي أسميناه طور "النشوء والتكوين" للقواعد الفقهية.