الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المسألة الرابعة
[في إثبات صيغ العموم]
وقبل الخوض في الدلالة لابد من بيان مذاهب الناس فيها، فإن التصديق مسبوق بالتصور.
فنقول: ذهب جماهير المتكلمين منا و [من] المعتزلة، وجماهير الفقهاء: إلى أن للعموم صيغا مخصوصة موضوعة له خاصة به، وهو مذهب الشافعي رضي الله عنه.
وذهب المرجئة: إلى أنه لا صيغة للعموم في
لغة العرب.
وأما الواقفية: بهم وقولان:
أحدهما: أن ما يظن أنه من صيغ العموم فهو مشترك بين العموم والخصوص وعليه الأكثرون.
وثانيهما: الوقف بمعنى إنا لا ندري أن تلك الصيغ حقيقة في العموم مجاز في الخصوص، أو بالعكس، أو هي مشتركة بينهما.
وهو اختيار القاضي أبي بكر رحمه الله تعالى.
ومن الواقفية من فصل بين الأمر والنهي والوعد والوعيد، والإخبار، فقطع بالعموم في الأول، وتوقف في الثاني.
وذهب أرباب الخصوص إلى أن هذه الصيغ نصوص في أقل الجمع، وهو
إما الثلاثة أو الاثنان، على اختلاف فيه، مجملات في العموم.
والمختار إنما هو مذهب الجماهير.
والدليل عليه وجوه بعضها:
عام أي غير مختص بصيغة دون صيغة، وبعضها: خاص أي مختص بصيغ مخصوصة.
أما العام فوجهان:
أحدهما: أن العموم معنى تمس الحاجة إلى التعبير عنه، فيكون الداعي إلى الوضع حاصلا سواء كان الواضع هو الله تعالى أو العبد لما عرفت ذلك في اللغات، والمانع غير حاصل بالأصل، ولأن المانع:
إما عقلي: وهو ممتنع إذ العقل داعي إليه لما فيه من الفائدة، وجهة الدعاء إلى الفعل لا يكون جهة المنع منه.
وإما شرعي: وهو أيضا غير حاصل وهو ظاهر، فإن الوضع لو كان قبل كل الشرائع، امتنع تحقق المانع الشرعي إذ ذاك، وأن لم يكن كذلك ولم يوجد في الشرائع ما يمنع منه لم يكن المانع الشرعي حينئذ أيضا متحققا.
وإما حسي: وإما طبيعي: وهما أيضا ظاهر الانتفاء، فإذا المانع غير متحقق لانحصار المانع في هذه الأربعة، والفعل عند وجود الداعي إليه،
وعدم المانع منه واجب، فيكون الوضع متحققا، إما قطعا أو ظاهرا، والمسألة عندنا ظنية.
فإن قيل / (203/أ) لا نسلم أن العموم معنى تمس الحاجة إلى التعبير عنه، وهذا لأن الإنسان قلما يتعلق غرضه بكل الخلائق الذي بالمشرق والمغرب حتى يحتاج إلى التعبير عنه، وإذا لم تكن الحاجة ماسة إلى التعبير عنه لم يكن الداعي إلى الوضع حاصلا، كما في سائر الروائح المخصوصة والاعتمادات المتعينة، والتعبير عن معنى الحال والاستقبال وغيرهما من المعاني التي لا تمس الحاجة إلى التعبير عنه، وإذا لم يكن الداعي إليه حاصلا لم يمكن الحكم بتحقق الوضع لا قطعا ولا ظاهرا.
سلمنا: حصول الداعي، لكن لا نسلم عدم المانع منه، وهذا لأن كون اللغة توقيفيا مانع فيه.
سلمنا: عدمه لكنه استدلال على إثبات اللغة، واللغة لا تثبت دلالة، بل تثبت توقيفا ونقلا.
سلمنا: أنها تثبت به لكن لا نسلم حصول المطلوب منه، وهذا لأن اللازم من دليلكم أنه يجب أن يوجد في اللغة ما يدل على العموم ويمكن التعبير به عنه، ونحن نقول به: فإنه وجد في اللغة ما يمكن التعبير به عن العموم
وهو الألفاظ المركبة، وهي مثل قولك: رأيت الناس واحدًا واحدًا، ولم يعن واحدا منهم، وما يجرى مجراه، والنزاع إنما هو في الصيغة المفردة.
فلم قلت: إنها تحب أن تكون حاصلة؟
سلمنا: ذلك، لكن لم قلت: إن يكون ذلك الوضع على وجه الإفراد؟
ولم لا يكفى على وجه الاشتراك؟
فأما): الجواب عن الأول: أن مراتب الحاجات متفاوته، ونحن لا نسلم: أن الحاجة إلى ما يمكن التعبير به عن معنى العموم ليست كالحاجة إلى ما يدل من الألفاظ على الخبر [به] والمانع والثواب وما يجرى مجراها، بل دونها لكن فوق الحاجة إلى ما يمكن أن يعبر [به] عما ذكروه من المعاني، وهذا لأن الإنسان كثيرا ما يحتاج إلى ألفاظ تدل على العموم في الأمر والنهي، والإخبار عن جميع الموجودات، والمعدومات، من المستحيلات، والممكنات، نحو قوله:
والله بكل موجود ومعدوم عليم، أو عن الممكنات نحو: والله على كل شيء قدير، أو عن الموجودات نحو:"كل موجود سوى واجب الوجود حادث" وما يجرى مجراها، ويلبث برهة من الدهر لا يحتاج إلى التعبير عن
رائحة المسك والتفاح على سبيل الخصوصية، فليس الحاجة إلى ما يمكن أن يعبر به عن العموم، كالحاجة إلى ما يمكن أن يعبر به عما ذكره من المعاني بل فوقها، وليس من شرط مسيس الحاجة إلى الشيء وشرط حصول الداعي إلى تحصيله / (203/ب) أن تكون الحاجة إليه ضرورية، بل يكفي فيه احتياج ظاهر وهو حاصل، فيلزم حصول الداعي.
وعن الثاني: أنا لا نسلم أن ذلك مانع منه، وهذا لأنه لو كان مانعا منه لامتنع حصول الألفاظ العرفية العامة والخاصة.
سلمناه: لكنه بالنسبة إلى غير الله تعالى، أما بالنسبة إلى الله تعالى فلا ونحن نصبنا الدليل عاما.
وعن الثالث: منع انحصار طريق "إثبات" اللغة في النقل والتوقيف.
وعن "الرابع" والخامس: ما سبق الأمر.
وثانيهما: وهو المعول عليه إجماع الصحابة، وأهل اللغة على أن للعموم صيغا، ودليل ذلك: أنهم اجرؤا ألفاظا من الكتاب والسنة على العموم، وما زالوا محتجين بها على العموم من غير نكير ومخالفة من أحد منهم، وذلك يدل على أنهم كانوا معتقدين أن تلك الألفاظ موضوعة للعموم فقط.
بيان الأول بصور
أحدها: أنهم تمسكوا على إرث فاطمة رضي الله عنها، بقوله تعالى:{يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين} حتى نقل لهم أبو بكر رضي الله عنه "نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركنا صدقة".
وثانيها: أنهم تمسكوا بقوله عليه السلام: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا
لا إله إلا الله" على عدم جواز قتال مانعي الزكاة، حتى روى لهم الصديق رضي الله عنه قوله عليه السلام "إلا بحقها".
وثالثها: احتجاجه رضي الله عنه على الأنصار بما قالوا: "منا أمير ومنكم أمير" بقوله "الأئمة من قريش" والكل سلموا له هذا
الاستدلال، ولم يقل أحد منهم: أن هذا لا يدل على أن كل الأئمة من قريش ما لم ينضم إليه دليل آخر.
ورابعها: قول: عثمان رضي الله عنه حين سئل عن الجمع بين الأختين في ملك اليمين فقال: (أحلتهما آية) بمعني قوله تعالى:
{إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم} (وحرمتهما آية) يعني قوله تعالى: {وأن تجمعوا بين الأختين} ، ولولا أنهما يفيدان العموم لما صح هذا.
وخامسها: احتجاج علي رضي الله عنه على تحريم الجمع بين الأختين في ملك اليمين بما تلونا من النص.
وسادسها: تكذيب عثمان بن مظعون رضي الله عنه للبيد لما سمع
قوله: وكل نعيم لا محالة زائل.
فقال: كذبت فإن نعيم أهل الجنة لا يزول، ولولا أن لفظة كل تفيد العموم لما صح هذا.
وسابعها: لما نزل قوله تعالى: {إنكم وما تعبدون من دون الله حصب / (204/أ) جهنم} قال ابن الزبعري: اليوم لا خصمن محمدا فجاء إليه عليه السلام فقال يا محمد: أنت الذي تزعم أنا وما نعبد من دون الله حصب جهنم، فقال عليه السلام:"نعم"، فقال: أليس أن المسيح قد عبد من دون الله، والملائكة قد عبدت من دونه تعالى، أفهم حصب جهنم؟
فسكت عليه السلام حتى نزل قوله تعالى: {إن الذين سبقت لهم منا
الحسنى أولئك عنها مبعدون} والاستدلال به من وجهين:
أحدهما: بفهم عبد الله بن الزبعري فإنه كان من أهل اللسان ولو أن كلمة "ما" ليست للعموم لما فهم منه العموم.
وثانيهما: سكوته عليه السلام عن رده ومنع استدلاله، وجواب قوله بما يجرى مجرى الاستثناء دليل على أنها للعموم.
وثامنها: لما نزل قوله تعالى: {لا يستوي القاعدون من المؤمنين} الآية، قال ابن [أم].
مكتوم ما قال: وكان رجلا ضريرا فنزل قوله تعالى: {غير أولى الضرر} .
فلولا أن لفظ المؤمنين للعموم لما صح قوله: ولما احتيج إلى إخراج أولى الضرر بقوله: {غير أولى الضرر} .
وتاسعها: لما نزل قوله تعالى: {الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم} . قالت: الصحابة رضي الله عنهم فأينا لم يظلم نفسه، فبين عليه السلام: أنه أراد به ظلم النفاق والكفر.
وعاشرها: أنهم أجروا قوله تعالى: {الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة} على العموم.
وكذلك قوله تعالى {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما} .
وكذا قوله تعال: {وذروا ما بقى من الربا} .
وكذلك قوله: {وذورا ظاهر الإثم وباطنه} .
وكذلك قوله تعالى: {ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا} .
وكذلك قوله تعالى: {ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق} .
[وكذلك قوله]: {ولا تقتلوا أنفسكم} .
وكذلك قوله تعالى: {لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم} .
وكذلك قوله تعالى: {يا أيها الناس اعبدوا ربكم} و {يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد} و {يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالا طيبا} .
وكذلك قوله تعالى: {ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن} ........ [إلى قوله]: {ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا} .
وكذلك قوله عليه السلام: "لا وصية لوارث".
........................................................................
.............................................................................
وقوله: "القاتل لا يرث" و "لا تنكح المرأة على عمتها
وخالتها".
وقوله في يوم الفتح: "من ألقى سلاحه فهو آمن".
وقوله: "من دخل دار أبي سفيان فهو آمن".
وقوله: "لا يقتل والد بولده".
وقوله: "الأعمال بالنيات ولكل امرئ ما نوى".
هذه وأمثالها كثيرة لا تحصى قد / (204/ب) أجروها على العموم مع أن أكثرها وارد على أسباب مخصوصة.
وأما اتفاق أهل اللغة على ذلك فظاهر أيضًا، من استقراء كلامهم من الأمثال والأشعار، فكيف لا؟ وأنا نعلم بالضرورة من حالهم أنهم إذا أرادوا التعبير عن العموم فزعوا إلى لفظ "الكل""و""الجميع" وما يجرى مجراهما ولم ينقل عن أحد منهم لا صريحًا ولا ضمنا إنكار صيغة العموم، ولو كان فيه خلاف فيما بينهم: لنقل ظاهرا، إذ نقل عنهم: مما فيه الخلاف ما هو
دون هذا.
وأما بيان الثاني: فلأنهم لو لم يكونوا معتقدين أن تلك الألفاظ موضوعة للعموم فقط، لما جاز لهم أن يحملوا على العموم ما لم يدل عليه دليل منفصل، كما في الألفاظ المجازية والمشتركة، لكن الأصل عدم ذلك الدليل الآخر، وكيف لا؟ وفي بعض ما ذكرنا ما يدل بصراحته على أن الحمل على العموم كان لنفس ذلك اللفظ، ثم إن صح هذا النوع من الاستدلال من الكل كان ذلك إجماعًا، حقيقيًا قطعيًا وإلا كان إجماعًا سكوتيًا ظنيًا، والمخالف قد يتمسك بمثل هذا الإجماع في كثير من المسائل، نحو كون القياس وخبر الواحد حجة، وما يقوله: هاهنا بأن هذا النمط من الاستدلال إنما يصح من البعض دون الكل، وارد عليه أيضًا في تلك المسائل، إذ من المعلوم أنه لا يمكنه أن ينقل عن كل واحد وحد منهم على سبيل التنصيص ذلك، بل غاية ما يمكنه أن ينقل ذلك على لشيوع والذيوع من غير نكير فيما بينهم، وهو حاصل هنا أيضًا.
وأما الوجوه الخاصة: فنذكر في كل واحد واحد من تلك الصيغ.
القول: في أن صيغة "من" و "ما" و"أين" و "متى" وما يجرى مجراها في الاستفهام، والخبر، والشرط، والجزاء، للعموم.
أما الأول: فالدليل عليه أن هذه الصيغ لو لم تكن للعموم فقط لكان للخصوص فقط، أو هي مشتركة بينهما، فإن كونها مهملة، باطل وفاقًا. لكن القسمين باطلان: فيتعين أن يكون للعموم.
وإنما قلنا: إنه لا يجوز أن يكون للخصوص فقط، لأنه لو كان له فقط
لما حسن الجواب بذكر كل العقلاء في "من"، وبكل الأشياء في "ما" عند تجردهما عن قرينة التعميم حالية كانت أو مقالية، إذا كان الاستفهام بهما، إذ الجواب يجب أن يكون مطابقًا للسؤال، لكن لا نزاع في حسنه. فهما إذا ليسا للخصوص فقط.
والمعارضة بالمثل: مندفعة، لأن السؤال عن العام بالمطابقة، سؤال عن الخاص بالتضمن، فيحسن الجواب بالخاص عند عدم العام / (205/أ) ولهذا يجب على المدعى عليه نفي ما ادعى عليه، ونفي ما دخل تحت دعواه بطريق التضمن على المذهب.
وأما السؤال عن الخاص، فغير متضمن للسؤال عن العام، فلا يحسن الجواب به بتقدير أن يكون للخصوص.
وما قيل: بأنه إنما حسن الجواب بالعام، وإن كان اللفظ للخاص لكونه جوابًا عن السؤال عنه وزيادة. فذلك ضعيف، لأنه يقتضي حسن الجواب به لو خص الخاص بالذكر، كما لو قال:"من عندك من الرجال" فيقول: "عندي الرجال والنساء" لكنه باطل.
أما أولاً: فبالاتفاق.
وأما ثانيًا: فلأنه جواب بغير المسؤول عنه، وبغير ما يتضمنه وهو قبيح.
وأما ثالثًا: فلأن الغرض كما يتعلق بذكر ما سئل عنه، فكذا قد يتعلق بالسكوت عن المسكوت عنه "فذكره" حينئذ يكون مناقضًا لغرضه.
وإنما قلنا: لا يجوز أن تكون مشتركة بين العموم والخصوص، لأنه لو كانت مشتركة بينهما، لما حسن الجواب إلا بعد الاستفهام عن جميع مراتب الخصوص، وليست مشتركة بين مرتبة مخصوصة من الخاص وبين العام وفاقًا، حتى لا يجب ذلك، لأن الجواب يجب أن يكون مطابقًا للسؤال، فإذا كان السؤال محتملاً لأمور كثيرة، فلو أجاب قبل أن يطلع على المراد لاحتمل أن يكون الجواب غير مطابق السؤال، وهو غير جائز فيجب الاستفهام عن جميع مراتب الخصوص لكنه غير واجب.
أما أولاً: فلأنا نعلم بالضرورة من عادة أهل اللسان قبح قول القائل: إذا قيل له: من عندك؟
فيقول: "أتسألني عن الرجال، أو عن النساء".؟
فإذا قيل: "عن الرجال":
فيقول: "عن العرب أو العجم"؟
فإذا قيل: "عن العرب".
فيقول: "عن ربيعة أو مضر"؟ وهلم جرا إلى أن يأتي على جميع أحياء العرب وأفخاذهم، ثم يأتي على جميع أصنافهم من العلماء، والجهال، والشيوخ، والكهول، والشبان، والصبيان، والبيض، والسود، وغيرها من الأصناف.
ولا يعارض هذا بما أنه يحسن بعض الاستفهامات، ألا ترى إذا قيل:"من عندك"؟ حسن أن يقول: "أتسألني من الرجال، أو من النساء، أو من الأحرار أو من العبيد"؟ لأن حسنه ليس دليل الاشتراك كما سيأتي.
وأما قبحه: فدليل عدم الاشتراك، وأيضًا لو كان حسنه دليل الاشتراك مع أن قبحه دليل عدم الاشتراك، لزم أن يكون اللفظ حقيقة في بعض مراتب
الخصوص، وهو خلاف الإجماع.
وأما ثانيًا: فأنه قد لا يمكن ذكر أقسامه، إما لعدم تناهيه كالعدد، أو لعدم ضبط / (205/ب) أقسامه لعدم العلم بها، أو لعسر التمييز بينها، وما يقال: أنه يجوز أن لا تنفك القرينة المعينة عنها، فلهذا لا يجب الاستفهام. فضعيف جدًا.
أما أولاً: فبالإجماع، إذ الإجماع منعقد على أنه يجوز خلو اللفظ المشترك عن جميع القرائن المعينة لأحد مدلوليه.
وأما ثانيًا: فأنه لو لزم القرينة إياها، فليس ذلك لكونها ألفاظًا مشتركة ولا لما يلزمها، وإلا لكان كل لفظ مشترك كذلك، ولا لخصوصياتها ولا لما يلزم خصوصياتها، لما عرف أنها أمور عدمية.
وأما ثالثًا: فلأن تلك القرينة المعينة، إن كانت قرينة العموم فهو باطل.
أما أولاً: فبالاتفاق، أما عندنا: فظاهر، وأما عند الخصم: فلأنه لا يقول بأن اللفظ يفيد العموم أبدًا، وإن كان ذلك لقرينة.
وأما ثانيًا: فأنه يقتضي أن لا يكون اللفظ مستعملاً في الخصوص أبدًا، وهو باطل قطعًا.
وإن كانت قرينة الخصوص، فهو أيضًا باطل لوجهين:
أحدهما: أنه يجب أن تكون تلك المرتبة من الخصوص معلومة أبدًا عندما يسمع اللفظ، لكنه ليس كذلك، والعارف بلغة العرب المنصف من نفسه يعترف بذلك.
وثانيهما: عكس ما سبق.
وأما رابعًا: فلأن تلك القرينة إن كانت لفظية: فباطل، لأنا قد نسمع
لفظة "من" و"ما" في الاستفهام ولا نسمع معهما من اللفظ ما يعين مدلولهما.
وإن كانت خالية: فيمكن خلو اللفظ عنها أيضًا بأن يعرض المستفهم عنه أعم أو عامًا.
ولو قيل: بأنه إنما لم يستفهم ويجاب بالكل، لأن المقصود حاصل على التقديرين.
فجوابه: ما سبق.
ولو قيل: إنه إنما لم يجب الاستفهام، لأن مدلول اللفظ المشترك هو أحد المفهومين لا بعينه، فإذا أجاب بأيهما كان فقد أجاب عما سندعيه، فنحن نمنع أولاً: إن مدلول اللفظ المشترك ما ذكروه، إذ ليس مدلوله عندنا: أحد الأمرين لا بعينه، بل مدلوله عندنا: هو أحدهما على التعيين، أو هما فإن الواضع لم يضع اللفظ المشترك إلا لمعين، وإما هذا بعينه، أو ذاك بعينه، أو هما على رأي من يقول بذلك، وأما لأحدهما لا بعينه فلا [لأ] نه حينئذ يكون متواطئا لا مشتركًا فمدلوله أبدًا متعين في نفسه، وإنما الإبهام عند المخاطب لا غير، ولو سلم ذلك فضعيف أيضًا، لأنه يقتضي أن لا يحسن الجواب بالكل، لأنه جواب عن غير ما سئل عنه هو أحدهما لا بعينه، لكن حسنه معلوم كما سبق.
وأما الثاني فالدليل عليه وجوه:
أحدها: أنه لا نزاع / (206/أ) في صحة استثناء كل واحد واحد من العقلاء من من الشرطية نحو [قول]: القائل: "من دخل داري فأكرمه إلا فلانًا [وإلا فلانًا] والإستثناء يخرج من الكلام ما لولاه لدخل - على ما سيأتي تقريره لك إن شاء الله تعالى - وحينئذ يلزم أن كلمة "من" في معرض الشرط والجزاء للعموم، وهو المطلوب.
وثانيها: سقوط الاعتراض عمن جرى على موجب العموم، وتوجهه على من ترك دليل على أنها للعموم.
ألا ترى أن السيد إذا قال لعبده: من دخل هذا البيت فأعطه درهما، وأشار إلى بيت لا يتوهم فيه قرينة معنوية، نحو أن يكون البيت معظمًا يقتضي إكرام الداخل فيه، أو يكون البيت بيته، فإنه ريما يتوهم التعميم من قرينة إكرام الزائر، فإن العبد لو جرى على موجب التعميم، وأعطى كل واحد من المسلم والكافر لم يكن للسيد أن يعاتبه على ذلك، ولو عاتبه على ذلك أو قال لم أعطيت الكافر؟ فإني أردت به المسلم فللعبد أن يقول: وما أدراني بإرادتك، وإنك أمرتني بإعطاء الداخل والكافر داخل، وكان من حقك أن تضم إليه ما يدل على إرادتك حتى ما كنت أعطى كل داخل، فالعقلاء من أرباب اللسان يرون سقوط اعتراض السيد وبدون عذر العبد ممهدًا
ولو لم يجر العبد على موجب العموم ومنع بعض الداخلين نحو الكافر، فللسيد أن يقول: لم لم تعطه؟ وقد أمرتك بإعطاء من دخل وهذا قد دخل، فلو قال العبد: إنما لم أعطه، لأنه كافر [وهو] لا يستحق الإحسان والإكرام فلهذا حسبت أنك أردت به المسلم، فالعقلاء يرون عذره ساقطًا ويرون عتاب السيد متوجهًا عليه، وبتقدير أن يكون عذره ممهدًا كان ذلك دليلاً على العموم أيضًا، لأنه أحال التخصيص إلى القرينة المعنوية، وهو إنما يصح بعد ثبوت التعميم.
وثالثها: أن الرجل إذا قال من دخل من عبيدي الدار فهو حر، فإنه يعتق عليه كل عبد له دخل الدار بإجماع الفقهاء، وأرباب أهل اللسان، ولهذا يجوز لكل من سمع هذا ورأي دخول العبد الدار أن يستخدمه، ويستأجره ويشترى ويبيع منه، من غير إجازة مولاه.
ورابعها: وهو ما ذكرنا من مخاصمة ابن الزبعرى مع النبي عليه السلام فإنه يدل على أن كلمة "ما" للعموم.
وما قيل: بأنه عليه السلام رد عليه وقال: منكرًا عليه "ما أجهلك بلغة قومك أما علمت "إن ما". لما لا يعقل".
فليس بثبت، ويؤكده ما ذكر جماهير المفسرين رحمهم الله تعالى في سبب نزول قوله تعالى:{إن الذين / 206/ب) سبقت لهم منا الحسنى} الآية، وهو أنه عليه السلام سكت بعد أن أورد عليه ما أورد حتى نزول الآية أيضا، ولو كان السؤال فاسدًا لما احتيج إلى ما يجرى مجرى الاستثناء، والاستعمال يقتضي صحة السؤال نحو قوله تعالى:{والسماء وما بناها والأرض وما طحاها ونفس وما سواها} "على" القول في أن جميع المعرف باللام، أو بالإضافة يفيد العموم.
وإنما قدمنا هذا على القول في أن لفظ "الكل" و "الجمع" وما يجرى مجراهما يفيد العموم مع أنه لا خلاف فيه بين القائلين بالعموم، والأول فيه خلاف فيما بينهم، لأنه تابع مؤكد به الجمع، والمتبوع أجدر بالتقديم.
اعلم أن الجمع المعرف باللام منصرف إلى المعهود إن كان هناك معهود بلا خلاف كما في قولهم: جمع الأمير الصاغة، وإن لم يكن هناك معهود فهو للعموم عند جماهير المعممين. خلافًا لأبي هاشم منهم.
وإن أشكل فكذلك خلافًا لإمام الحرمين رحمه الله تعالى - فإنه ذهب إلى أنه مجمل محتمل لهما.
والدليل على ما ذهب إليه الجمهور وجوه:
أحدها: هو ما ذكرنا من احتجاج الصديق على الأنصار لما طلبوا الإمامة بقوله عليه السلام: "الأئمة من قريش" والكل سلموا له هذا الاحتجاج، ولو لم يكن الجمع المعرف باللام للعموم لما صح هذا الاستدلال، لأن كون بعض الأئمة من قريش لا ينافي أن يكون البعض الآخر من الأنصار.
وما يقال: إن التعميم مستفاد بما عرف من قصده عليه السلام بذلك تعظيم قريش وتميزهم عن غيرهم من قبائل العرب. فضعيف لوجهين:
أحدهما: ما سبق غير مرة.
وثانيهما: [أنه] لو دل عليه، فإنما يدل عليه للتعظيم البالغ الكامل، إذ من المعلوم أنه لا يدل عليه مطلق تعظيمهم، لأن ذلك يحصل بأن يكون منهم بعض الأئمة، أما كون كل الأئمة منهم وليس من غيرهم إمام، فذلك يدل على كمال تعظيمهم، لكن لا نسلم أن ذلك معلوم من قصده عليه السلام، وبتقدير أن نسلم ذلك فإنما يسلم بالنسبة إلى البعض، أما بالنسبة إلى الكل، فممنوع.
وهذا لأن دلالة القرينة الحالية تختلف لاسيما بالنسبة إلى جمع عظيم غير مخالفين في أكثر الأوقات، فكيف سلموا له الكل الاحتجاج، مع أن تلك القرينة الحالية ما كانت معلومة "لهم".
"وثانيها": و"هو" ما ذكرنا من احتجاج عمر رضي الله عنه علي أبي بكر [رضي عنه] لما هم بقتال مانعي الزكاة بقوله عليه السلام: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوا / (207/أ) ذلك فقد عصموا منى دمائهم وأموالهم".
ثم إن أحدًا منهم لم ينكر عليه الاحتجاج المذكور، بل عدل أبو بكر رضي الله عنه إلى الاستثناء وقال أليس أنه عليه السلام قال:"إلا بحقها" وإن الزكاة من حقها، ولو لم يكن الناس المعرف باللام للعموم لم يكن الضمير في قوله:"حتى يقولوا لا إله إلا الله" للعموم وحينئذ لم يكن الاحتجاج صحيحًا.
وما يقال: إن التعميم مستفاد من العلة الموجبة لعصمة النفس والمال، وهي قول:"لا إله إلا الله" فإنها مناسبة لذلك، إذ الشرك جريمة عظيمة مناسبة للقتل، والتوحيد طاعة كبيرة مناسبة للعصمة، وأيضًا ترتيب الحكم على الوصف مشعر بالعلية والعصمة مرتبة على كلمة التوحيد. فكان كلمة التوحيد هي علة العصمة.
فضعيف أيضًا إذ يفهم منه الحكم على العموم من أرباب اللسان من لم يعرف القياس وشرائطه كالبدوي، وإحالة الجلي على الخفي غير جائز.
وأيضًا ظاهر الاستثناء وهو قوله: "إلا بحقها". ينفي ما ذكروه وإن جوز تخصيص العلة، لأنه يخرجها عن العلية إذ يصير التقدير كلمة التوحيد علة
العصمة إلا أن يمنع شيء من حقها، فإنه حينئذ لا يكون علة، وأما إذا لم يجوز فينفيه قطعًا.
وثالثها: أنه يؤكد بما يفيد الاستغراق فوجب أن يكون مفيدا له في نفسه.
وإنما قلنا: إنه يؤكد بما يفيد الاستغراق، لأنه يؤكد "بالكل" و "الجميع" قال الله تعالى:{فسجد الملائكة كلهم أجمعون} وهو مفيد للاستغراق - لما سيأتي في هذا النوع من الاحتجاج على منكري العموم -
وأما على أبي هاشم: فاستدل عليه بالاتفاق أيضًا، فإنه يسلم أنه بعد التأكيد يفيد العموم.
وإنما قلنا: إنه حينئذ يجب أن يكون في نفسه مفيدًا له، لأن لفظ الكل و"الجميع" مسمى بالتأكيد بالاتفاق، والتأكيد معناه: تقوية الحكم الذي كان ثابتًا في الأصل، فلو لم يكن الأصل مفيدًا للاستغراق، بل حصل بلفظ: الكل، والجميع، وما يجرى مجراهما لم تكن تلك الألفاظ تأكيدات بل
مستقلات بإفادات العموم، لكنه خلاف إجماعهم، ولو نقض ذلك بمثل قولهم: قد صرت البكرة يومًا أجمعا.
واعترض عليه: أيضا بأن ما ذكرتم يستدعي كون المؤكد صالحا للعموم، والدلالة على العموم عند التأكيد، ولا يدل على كونه متعينا بوضعه للعموم.
وهو ضعيف أيضا، لأنه إن عني بكونه/ (207/ب) صالحا للعموم الصلاحية بطريق الحقيقة فحاصله يرجع إلى أن اللفظ مشترك بين العموم والخصوص ويصير مع لفظ "الكل" و"الجميع" متعينا للعموم، لكنه باطل.
أما أولا: فلأن من قال بالاشتراك في الجمع المعرف باللام، قال: بالاشتراك في جميع ألفاظ العموم، إذ الكلام عند عدم قرينة العهد حتى لا يمنع، إذ لو ادعينا مطلقا لمنع على رأي إمام الحرمين رحمه الله تعالى والمشترك لا يبين المشترك.
وأما ثانيا: فلأن اللفظ مسمى بالتأكيد بالإجماع، ولو كان الأمر كما ذكروه كانت التسمية فاسدة عارية عن رعاية المعنى جارية مجرى أسماء العلم، إذ ليس فيه معنى التأكيد شيء حينئذ، وهو خلاف إجماعهم وإن عني به الصلاحية بطريق التجوز مع القول بأن لفظ "الكل" و"الجميع" يفيدان العموم، فهذا وإن كان يستلزم خلاف الأصل وهو مخالف لمذهب المعترض فأنه اختار التوقف في جميع ألفاظ العموم، فحاصله يرجع إلى أن لفظ "الكل" و"الجميع" قرينة دالة على إرادة العموم منه على وجه التجوز فلم يكن فيه شيء من معنى التأكيد فكان باطلا لما سبق.
ورابعها: أنه يصح استثناء كل فرد من الجنس منه، والعلم بصحة ذلك من كلام العرب ضروري بعد الاستقراء، والاستثناء من الكلام: ما لولاه لوجب دخوله فيه.
وذلك يدل على أن كل من أفراد الجنس داخل فيه، وهو المطلوب.
فإن قلت: لا نسلم أن الاستثناء من الكلام: ما لولاه لوجب دخوله فيه.
وهذا لأنه يصح الاستثناء من غير الجنس قال الله تعالي: {فسجد الملائكة كلهم أجمعون إلا إبليس} وهو ليس منهم بدليل قوله تعالى: {كان من الجن ففسق عن أمر ربه} . وقال تعالى: {لا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما إلا قيلا سلاما سلاما} والسلام ليس من جنس اللغو والتأثيم، وقوله تعالى:{مالهم به من علم إلا اتباع الظن} . والظن ليس من جنس العلم.
وقال الشاعر:
وقفت بها أصيلا لا أسائلها .. أعيت جوابا وما بالربع من أحد
إلا الأواري لأياما أبينها .. والنوى كالحوض بالمظلومة الجلد.
والأوارى ليس من جنس الأحد، والاستثناء من غير الجنس ليس فيه صحة الدخول فضلا عن وجوبه.
فإن قلت: الاستثناء من غير الجنس ليس بحقيقة الاستثناء وإن تصور بصورته، وهذا لأن الاستثناء مأخوذ من الثني وهو الصرف. / (208/أ) والصرف: إنما يعقل فيما يتصور فيه الدخول وهو مستحيل في غير الجنس، وإذا لم يكن الاستثناء من غير الجنس استثناء حقيقيا وجب أن تكون تلك الاستعمالات مجازات، ونحن إنما ادعينا ذلك في الاستثناء الحقيقي وهو الاستثناء من الجنس.
قلت: لا نسلم أيضا أن الاستثناء من الجنس: ما لولاه لوجب دخوله تحته، بل هو عندنا: عبارة عما لولاه لصح دخوله فيه.
فلم قلت: إنه ليس كذلك؟ ثم الذي يدل عليه وجوه:
أحدها: أن الصحة أعم من الوجوب، وجعل اللفظ حقيقة في المعنى العام أولى، لأنه أكثر فائدة.
وثانيها: أنه يصح الاستثناء من جمع القلة في حالة التنكير بالإجماع، وهو ليس بعام فيها بالإجماع.
فإن قلت: نحن إنما ندعي ذلك فيما يصح منه استثناء الأفراد والأعداد الكثيرة منه، وجمع القلة ليس كذلك.
قلت: فالاستثناء الذي بشأنه ما ذكرتم يصح مما عدا جمع القلة في حالة التنكير مع أن المستثنى غير واجب "الدخول" تحته، لأنه ليس بعام على "رأي أكثركم".
وثالثها: لو لم يكن الاستثناء عبارة عما لولاه لصح دخوله فيه لما صح قول القائل: صلّ إلا اليوم الفلاني، لأنه ثبت" إن الأمر ليس للتكرار لكنه صحيح.
قلت: الدليل على أن الاستثناء] ليس عبارة عما لولاه لصح دخوله فيه وجوه:
أحدها: أنه لو كان عبارة عنه، لم يبق فرق بين الاستثناء [من الجمع المعرف كقولك: رأيت العلماء إلا زيدا، وبين الاستثناء من الجمع المنكر كقولك:
رأيت علماء إلا زيدا لصحة دخول زيد فيهما، لكن الفرق معلوم بالضرورة منهم، وليس ذلك إلا أنه يجب الدخول في الجمع المعرف دون المنكر، لأن كل من فرق بينهما لم يفرق إلا بوجوب الدخول وعدم وجوبه، والفرق بينهما بوجه آخر خلاف الإجماع.
وثانيها: ما نقل عن أهل اللغة وهو أنهم قالوا: الاستثناء إخراج جزء عن كل.
وإنما يكون كذلك أن لو كان المستثنى واجب الدخول تحت المستثنى منه، لأن الجزء واجب الدخول في كله والأصل هو الحقيقة الواحدة.
ولا يجاب عنه بما قيل: وهو أنه لا يلزم من كون الاستثناء إخراج جزء عن كل، أن يكون ذلك الوجوب الدخول لاحتمال أن "ذلك" يكون لصحة الدخول، فإن الوجوب لا ينافي الصحة بمعنى عدم الامتناع، لأن التعريض يفيد الجزئية حينئذ يكون ضائعا عديم الفائدة، بل هو مخل بالمقصود الذي هو تعريف الاستثناء، لأنه يقتضي اعتبار قيد/ (208/ب) الجزئية في ماهيته أو اختصاصه به إذ لا يذكر في التعريف إلا ما يكون داخلا في الماهية أو مختصا بها.
ولو أجيب عنه: بأنه لا يلزم من كون الاستثناء إخراج جزء عن كل أن لا يصح استثناء ما هو ممكن الدخول بناء على أن "الاستثناء" واجب الدخول لا يمنع من استثناء ممكن الدخول فضعفه بين لا يخفى على من له أدنى فطانة.
وثالثها: أنه لو كان الاستثناء عبارة عما لولاه لصح دخوله فيه لصح قول القائل: "رأيت رجلًا إلا زيدًا" لصلاحية دخوله له
تحت لفظ "رجل" لكنه غير صحيح وفاقا، نعلم أنه ليس عبارة عنه.
فإن قلت: الملازمة ممنوعة، وهذا لأنه كما يعتبر في تحقيق الشئ وجود المقتضي يعتبر أيضا ارتفاع المانع، فلا يلزم من تحقق الصحة فيما ذكرتم من المثال صحة الاستثناء لاحتمال انتفاء الصحة لوجود مانع، ولئن تمسك في انتفائه بالأصل فنحن نبينه، وهو أن قوله: رأيت رجلا، لا يكون إلا معينا في نفس الأمر، ضرورة أن الرؤية لا تقع إلا على معين في نفس الأمر، وإنما الإبهام عند السامع والمعين لا يصح منه الاستثناء وفاقا.
قلت: الدليل على الملازمة ما سبق، وهو صحة دخوله تحت لفظ "رجل" إذ المعنى من الدليل ما لو جرد النظر إليه يغلب على الظن وجود المدلول، والنظر إلى المقتضى لصحة الاستثناء وهو صحة الدخول كذلك، فيكون الدليل دالا على صحة الاستثناء حينئذ، وأما ما ذكره في سند المنع من أن ذلك لوجود المانع المذكور.
لو سلم ذلك أدى في الاستثناء عن المعين كلامه.
فجوابه: أن إسناد انتفاء الحكم إلى عدم المقتضى أولى من إسناده إلى وجود المانع لإفضائه إلى التعارض، فكان "إسناد" انتفاء صحة الاستثناء إلى عدم المقتضى لصحة استثناء أولى من إسناده إلى وجود المانع.
وأما ما ذكروه من الوجوه:
فجواب المعارضة: بما أنه لو جعل حقيقة في واجب الدخول، أمكن
جعله مجازا في ممكن الدخول للزومه إياه، ولو جعل حقيقة في ممكن الدخول لم يمكن جعله مجازا في واجب الدخول ولو أمكن لكن الأول: أولى لما سبق غير مرة.
وعن الثاني: بعد تسليم أنه ليس بعام، فإن لنا أن نمنع على رأي بعض موافقينا القائلين: بالعموم أنه يجب حمله على التجوز جمعا بينه وبين ما ذكرنا من الفرق المعلوم بالضرورة منهم. "أو من أهل اللسان".
ولا يجاب عنه: بما أجاب الإمام وهو أنه: هب أن الاستثناء من الجمع المنكر يخرج من الكلام ما/ (209/أ) لولاه- لصح دخوله فيه- فلم قلت: إنه في سائر الصور كذلك؟
لأن الأصل هو الحقيقة الواحدة.
وأيضا: فان ما ذكره يرجع حاصله إلى أن الاستثناء عما ليس بعام: عبارة عما لولاه لصح دخوله فيه.
وعما هو عام: عبارة عما لولاه لوجب دخوله فيه.
وحينئذ يتعذر الاستدلال بصحة الاستثناء على العموم، لأنه لا يفيد التعميم، إلا: أن يكون عبارة عما لولاه لوجب دخوله فيه، وإنما يثبت ذلك أن لو ثبت العموم في المستثنى منه، فلو أثبت العموم في المستثنى منه بالاستثناء لزم الدور.
وعن الثالث: منع الملازمة، وهذا لأنه يحتمل أن نحو ذلك، وإن لم يكن الأمر للتكرار في نفسه بناء على أن الاستثناء قرينة دالة على إرادة التكرار منه.
وخامسها: أن الجمع المعرف في اقتضاء الكثرة فوق المنكر، بدليل صحة انتزاعه منه، من غير عكس، فإنه يصح أن يقال: رجال من الرجال جاءني، ولا يصح أن يقال: الرجال من رجال جائني، وذلك يدل على أنه [للعموم، لأنه] لو لم يكن للعموم لما صح انتزاع المنكر منه، لأن ما دونه يتناوله الجمع المنكر وفاقا، والمنتزع منه يجب أن يكون أكثر فهو إذًا للعموم.
فإن قلت: أتدعي أن ذلك يدل على أنه للعموم في نفس الأمر، أو تدعي أنه للعموم إذ ذاك.
فإن دعيت الأول: فممنوع، وهذا لأن من المعلوم أنه لا دلالة لما ذكرتم على أنه للعموم في نفس الأمر، بل غايته أنه يدل على أنه للعموم إذ ذاك، فلم لا يجوز أن يقال: إن ذلك لقرينة الانتزاع؟
وإن ادعيت الثاني: فمسلم، لكن لا يفيد المطلوب لاحتمال أن يقال: إن ذلك لقرينة الانتزاع.
قلت: جوابه ما سبق غير مرة وهو أن استفادة المعاني من القرائن خلاف
الأصل.
وسادسها: أن الجمع المعرف "باللام" لو لم يحمل على العموم: فإما أن يحمل على بعض معين من الجمع، فهو باطل، لأنه ليس في اللفظ ما يشعر به ولا في العقل ما يدل عليه، إذ الكلام عند عدم المعهود السابق أو على بعض غير معين منه، وهو أيضا باطل.
أما أولا: فلأنه حينئذ لا يبقى فرق بين قولنا: "الرجال" وبين قولنا: "رجال" وهو خلاف ما هو معلوم من كلامهم.
وأما ثانيا: "فلأنه" لا يكون لدخول الألف واللام حينئذ فائدة.
لا يقال: نحن نمنع عدم الفرق، وعدم الفائدة، وهذا لأن قولنا:"الرجال" صالح للعموم وللخصوص عندنا: بخلاف قولنا: "رجال" فإنه لا يصلح لذلك، لأنا حينئذ نلزمكم محذور/ (209/ب) الإجمال أو لا يحمل على شئ، وهو أيضا: باطل بالإجماع ولما بطل "قولنا" بهذه الأقسام تعين حمله "على" الكل إلا ما خصه الدليل، وهو المطلوب.
وسابعها: أن "الألف واللام" تسمى بحرف التعريف وفاقا، ومن الظاهر أن تسميتها به ليست خالية عن رعاية المعنى جارية مجرى اسم
العلم، فهي إذًا باعتبار المعنى، فالمعرف به: إما الكل، أو مطلق الجمع الصادق على أي جمع كان، أو جمع معين.
والأخيران باطلان: فيتعين الأول.
أما الأول: منهما فلأنه معلوم قبل دخولهما، وتعريف المعرف تحصيل للحاصل.
وأما الثاني: فلأنه ليس يفهم منه السامع بعض مراتب الجموع على التعيين عند عدم معهود سابق لعدم ما يشعر به في اللفظ، إذ الكلام فيه.
وهذا الدليل يتمسك به من يقول: إن المفرد المعرف باللام يفيد العموم أيضا، أما من لم يقل به لم يمكنه أن يتمسك به، لأنه ينقض به.
ولو أجاب عنه بما أجاب الإمام عنه: وهو أن "الألف واللام" في المفرد يفيد تعيين الماهية المشتركة بين الأفراد، وهو غير حاصل من المفرد المجرد عنهما، بدليل صحة قولنا:"الإنسان نوع" و"الحيوان جنس" وعدم صحة، قولنا:"إنسان نوع" و"حيوان جنس".
لأ "جيب" بمثله فيما نحن فيه، فإن لقائل أن يقول: لم لا يجوز أن يكون "الألف واللام" في الجمع يفيدان أيضا تعيين الجمع المشترك بين الجموع.
فإن قلت: إنما ذكرنا ذلك في المفرد لما ذكرنا من الدليل، وليس دليل يدل على أنه يصح حكم غير التعميم على الجمع المعرف دون المنكر حتى يقال: إنهما لتعيين متعلق ذلك "الحكم".
قلت: عدم وجدان الدليل لا يدل على عدمه، وبتقدير أن يدل عليه، لكن لا نسلم: أن عدم الدليل يقتضي عدم المدلول، ولا يخفي عليك أنه وارد على الدليل ابتداء لأنه يمنع حصر تقسيمه.
وإذا ثبت أن الجمع المعرف "باللام" يفيد العموم، ثبت أن المعرف بالإضافة أيضا كذلك، لجريان أكثر الأدلة فيه، ولعدم القائل بالفصل، ولأن الرجل إذا قال:"أعتقت عبيدي، وإمائي" و "طلقت نسائي" فإنه يعم العتق والطلاق في جميعهم بإجماع الأئمة.
ولهذا يجوز لمن سمع هذا أن يعامل أي عبد شاء من عبيده، ويتزوج بأية أمة من إمائه بدون رضاه ورضا ورثته، لو فرض موته عقيب القول.
فرع:
الكناية نحو قوله: افعلوا، أو فعلوا، تابعة للمكني في العموم، والخصوص، فإن كان المكني عاما، كانت الكناية عامة بدليل/ (110/أ) أن السيد لو خاطب عبيده وقال: أيها العبيد افعلوا كذا، فإن المتخلف من الامتثال منهم يستحق اللوم والتوبيخ، ولو لم يكن للعموم لما كان كذلك، ولأنه لو لم تكن عامة إذ ذاك لزم الإجمال، ضرورة رجوعه حينئذ إلى بعض ما تقدم ذكره، مع أنه غير معلومة من اللفظ والعقل، إذ الكلام مفروض فيه
وأنه خلاف الأصل وإن كان خاصا، كانت الكناية أيضا: خاصة.
وهو ظاهر القول في أن لفظ: "الكل" و"الجميع" وما يجري مجراهما من المؤكدات يفيد العموم، والدليل عليه وجوه:
أحدها: أن الرجل إذا قال: جاءني كل فقيه في البلد، فمن أراد تكذيبه يقول: ما جاءك كل فقيه في البلد، ولولا أن لفظ "الكل" للعموم لما صح استعماله في التكذيب عند عدم الدلالة على إرادة البعض المعين منه في السلب والإيجاب منهما، لاحتمال أن يكون المنفى غير المثبت، إذ ليس للفظ "الكل" دلالة على مرتبة معينة من مراتب الخصوص وفاقا.
وبتقدير أن يكون له: لكنهما يستعملان في التكاذب مطلقا، فدل على أنه للعموم، وما يقال: في سند منع استعمالهما في التكاذب مطلقا، هو أنه "لو" فسر كلامه بالغالب كان تفسيره صحيحا مقبولا، وحينئذ لا يكاذب في استعمالها.
فضعيف جدا، لأنه لا يلزم من قبول تفسير اللفظ بشيء أن لا يفيد غيره بإطلاقه، ألا ترى أن الألفاظ كلها بإطلاقها تفيد حقائقها، ولو فسرت
بمجازاتها كان التفسير صحيحا مقبولا.
وأيضا قوله: "ولا يكاذب حينئذ" باطل، لأن لفظ "الكل" في الإثبات أو السلب إذا كان محمولا على الغالب، كان هو في الآخر أيضا محمولا عليه، لأن الظاهر أن يتوارد السلب والإيجاب على شيء واحد، وحينئذ يتحقق التكاذب، نعم: لو كان في الإثبات محمولا على الغالب وفي السلب "على""الكل" من حيث هو كل لا يتحقق التكاذب لكن حينئذ لا يجوز استعمالهما في التكاذب، والإحالة إلى القرينة خلاف الأصل كما سبق.
وثانيها: أن الرجل إذا قال: "أعتقت كل من في الدار من عبيدي" فإنه يعتق عليه جميع عبيده الذين هم في الدار بإجماع الفقهاء، ولولا أن لفظ "الكل" تفيد العموم لما صح "هذا".
وثالثها: أن السيد إذا قال لعبده: "أعط كل من في الدار كذا" ولم
يسمع العبد من السيد سوى هذا القدر، ولم يعلم قرينة خارجية تقتضي تخصيص بعضهم: نحو كون بعضهم عدوا لسيده، أو كافرا/ (210/ب) معاندا، فإنه لو لم يمتثل أمره بإعطاء كل من فيها فإنه يستحق اللوم والتوبيخ على ذلك، ولو امتثل بإعطاء كل واحد واحد فإنه لا يتوجه نحوه الاعتراض "والتوبيخ"، ولو لم يكن لفظ "الكل" للعموم لما استحق ذلك وإحالة ذلك إلى القرينة لو كانت خلاف الأصل، كيف وقد فرضنا الكلام حيث لا قرينة، ومنعه إذ ذاك مكابرة.
ورابعها: أن مفهوم صيغة "الكل" مقابل لمفهوم صيغ "البعض" وذلك يستعمل "في" كل واحد منهما في نفي مفهوم الآخر، كما إذا قال الرجل لغيره أخذت مني كل دراهم" فإنه يقول لا بل بعضه "أو بعضه" فإن أخذ البعض وإن كان لا ينافي الكل من حيث المعنى، لكن المفهوم من البعض ينافيه، فلو لم يكن لفظ "الكل" للعموم لما كان كذلك.
وخامسها: أنا ندرك التفرقة بين قول القائل: "جاءني فقهاء وبين
قوله: "جاءني كل الفقهاء" ولو لم يكن "الكل" مفيدا للعموم لما حصلت التفرقة ضرورة أن مفهومها حينئذ يكون متحدا، وهو البعض ولو منع الملازمة بناء على ما سبق من الفرق في الجمع المعرف باللام.
فجوابه: أيضا ما سبق.
وأيضا: ذلك الفرق الحاصل بين الفقهاء وبين فقهاء فليس دخول "الكل" عليه فائدة وهو تعطيل الكلمة بالكلية وأنه خلاف الأصل.
"وسادسها" ما سبق فيما سلف أنه مسمى بالتأكيد، ولو كان محتملا للكل وللبعض بطريق الحقيقة، لكان استعماله في العموم لقرينة جاريا مجرى.
قول القائل: "رأيت عينا باصرة" وحينئذ يكون ما دخل عليه من العام أو الخاص قرينة مبينة له فلم يكن هو تأكيدا له، وهو خلاف الإجماع.
فان قلت: أنه وإن تبين مراده من لفظه بما دخل هو عليه، لكن ذلك لا يخرجه عن أن يكون تأكيدا له لما أن لفظه صالح للعموم.
قلت: دلالة مؤكدة للفظ يجب أن يكون أظهر أو مثل دلالة المؤكد فيما هو مؤكد له بالاستقراء، وهو منتف عليه على ما ذكرتم من التقدير فلم يكن تأكيدا له.
وسابعها: ما سبق من أن عثمان- رضي الله عنه كذّب لبيدا في قوله
وكل نعيم لا محالة زائل.
وقال: كذبت فإن نعيم أهل الجنة لا يزول، ولو لم يكن لفظ "الكل" للعموم لما توجه التكذيب عليه.
وثامنها: وهو ما ذكرنا إنا نعلم- بالضرورة- بالاستقراء من عادة أهل اللسان أنهم إذا أرادوا التعبير عن معنى العموم فزعوا إلى استعمال لفظ "الكل" و"الجميع"، ما يجري مجراهما ولو لم يكن لفظ "الكل" و"الجميع" للعموم لما كان الرجوع إليهما إذ ذاك أولى من غيره كالجموع المنكرة.
وتاسعها: أن العرب فرقت بين تأكيد العموم، وبين تأكيد الخصوص [فقالوا] في الخاص: رأيت زيدا نفسه وعينه" وقالوا في العموم: "الرجال كلهم، وأجمعون" ولم يستعمل ما لأحدهما في الآخر، وذلك يدل على تغايرهما في العموم والخصوص، لأن اختلاف التأكيد يدل على اختلاف المؤكد.
فإن قلت: نسلم ذلك لكن لا يلزم من الاختلاف بينهما أن يكون ذلك
في العموم والخصوص، ولم لا يكفي في ذلك اختلافهما في الجمع والوحدة.
قلت: لو كان ذلك كافيا لجاز تأكيد كل جمع حتى النكرات "بكل" وأجمعين، لكنه غير جائز باتفاق البصريين.
وقوله: قد صرت البكرة يوما أجمعا.
شاذا لا يعول عليه.
[النكرة في سياق النفي تعم]
القول: في أن النكرة في سياق النفي "يعم" ويدل عليه وجوه:
أحدها: أنه يصح استثناء كل فرد من أفراد "ذلك المنفى عنه كقولك لا رجل في الدار إلا زيدا، وقد ثبت أن الاستثناء من الكلام ما لولاه لدخل فيه، فيلزم دخول" كل فرد من أفراد ذلك المنفى تحت ذلك المنفى، وهو المطلوب.
وثانيها: أنه لو لم تكن النكرة في سياق النفي تعم لما كان قول الموحد: "لا إله إلا الله" نفيا لجميع الإلهة سوى الله تعالى.
واعترض عليه: بأنها وإن لم تكن الحقيقة في العموم، لكن لا يمتنع إرادة العموم بها وعلى هذا إنما يصير عاما لو أراد بها المتكلم العموم، أما إذا لم يرد فلا نسلم أنها تفيد العموم إذ ذاك.
وهو ضعيف، لانعقاد الإجماع على صحة إسلام المتلفظ بها وإن لم يعلم أنه، هل أراد بها العموم أم لا؟
ولو لم يكن العموم من مقتضيات اللفظ لما كان كذلك، لأن المتلفظ باللفظ المشترك لا يحكم عليه بإرادة معنى معين منه ما لم يعلم منه قرينة دالة على إرادته، وكذلك المتلفظ بالحقيقة المفردة لا يحكم عليه بإرادة المجاز منها، ما لم يعلم قرينة دالة على إرادته.
وثالثها: أن الإنسان إذا قال: أكلت اليوم شيئا، فمن أراد تكذيبه من
أهل اللسان، [يقول]: ما أكلت اليوم شيئا، ولو لم يكن قوله: ما أكلت اليوم شيئا، يفيد العموم لما كان مكذبا له، لأن الجزأين لا يجب أن يكذبان، وعلى هذا أيضا ورد التنزيل مكذبا لليهود لما قالوا:{ما أنزل الله على بشر من شيء} بقوله: {قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى} .
ولو اعترض على هذا بما سبق: كان ضعيفا أيضا، لأن اليهود حينئذ أن يقولوا: إنما أردنا بقولنا: {ما أنزل الله على بشر من شيء} غير موسى عليه السلام فلا يكون نزول الكتاب على موسى عليه السلام مناقضا/ (211/ب).
ومكذبا لقولنا {ما أنزل الله على بشر من شيء} .
ورابعها: أن "لا" في قولهم: لا رجل في الدار، مسماة بلا.
لنفي الجنس وإنما ينتفي الجنس بانتفاء كل فرد من أفراده، وذلك يدل على أنه يفيد الاستغراق.
فإن قلت: لا التي في قولهم: "لا رجل" إنما يفيد نفي جميع أفراد الرجال لأنها تفيد نفي ماهية الرجل، ومن ضرورة نفس الماهية نفي جميع أفرادها، إذ لو وجد فرد من أفرادها لوجدت الماهية في ضمنه وهو نقيض مدلولها والماهية ليست بعامه، بل هي شيء واحد فلا يلزم من نفيها العموم في طرف النهي.
قلت: فرق بين عموم النفي ونفي العموم والمراد من قولنا: النكرة في سياق النفي تعم: هو أن النكرة في سياق النفي يفيد العموم لا نفي العموم الذي قد يكون بالثبوت في البعض، وقد سلمتم لزومه من نفي النكرة، لكن غايته أن ذلك بوساطة نفي الماهية وهو غير قادح في مقصودنا، لأن المفهوم الأول يتحقق بطريقين:
أحدهما: نفس ما ليس بعام، لكن يلزم منه عموم النفي، كما هو في نفي الماهية.
وثانيهما: نفي كل واحد واحد من أفراد ما هو عام ومتى تحقق الخاص تحقق الخاص تحقق العام.
[اسم الجنس المعرف بالألف واللام]
القول: في أن اسم الجنس إذا دخله "الألف واللام" هل يفيد العموم أم لا؟
ذهب أكثر الفقهاء إلى أنه يفيده مطلقا، عند عدم المعهود السابق وهو اختيار المبرد والجبائي.
وذهب أكثر المتكلمين: إلى أنه لا يقيده مطلقا، وإن كان عند عدم المعهود السابق.
ومنهم: من فصل وقال: إن كان واحده يتميز "بالتاء" عن اسم الجنس "كالتمر" و"البر" فإن العارى منها يفيد العموم، كما في قوله عليه السلام:"لا تبيعوا البر بالبر ولا التمر بالتمر" وإن لم يتميز واحده عن
اسم الجنس "بالتاء" فهو ينقسم إلى ما يتشخص مدلوله ويدخل في التعدد ويوصف بالوحدة، والاثنين والثلاثة، كالدينار، إذ يقال: دينار واحد، وديناران اثنان، وإلى ما لا يكون كذلك كالذهب، والتراب، إذ لا يقال: ذهب واحد وتراب واحد.
فالقسم الأول: فيه الاحتمالان العموم، كما في قوله عليه السلام:"لا يقتل المسلم بالكافر".
وتعريف الماهية كما في قولنا: الإنسان نوع، وهو الأشبه.
وأما الأول: فهو للعموم وهو اختيار "الشيخ" الغزالي رحمه الله.
احتج الفقهاء بوجوه:
أحدها: ما تقدم في الجمع المعرف: باللام"/ (212/أ) من أن "الألف
واللام" للتعريف فالمعرف به، إما "الكل" أو غيره، والثاني: باطل فيتعين الأول: وقد عرفت جوابه أيضا.
وثانيها: أنه يصح نعته بما ينعت به الجمع المعرف كما في قوله تعالى: {والنخل باسقات} {والطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء} .
وكما في قولهم: أهلك الناس الدينار الصفر، والدرهم الأبيض، "وهو للجمع" فيلزم أن يكون للعموم، ضرورة امتناع وصف الواحد بالجمع، إذ ليس هو للجمع بتقدير أن لا يكون للعموم.
وأجيبوا: بأنه مجاز لعدم الاطراد، إذ لا يجوز أن يقال: جاءني الرجل الحكماء والعلماء، ولو سلم اطراده، فلم لا يجوز أن يكون ذلك وصفا للجنس لا لجملة أفراده؟.
سلمنا: أنه وصف لجملة أفراده، لكن لم لا يجوز أن يكون ذلك لقرينة معنوية؟.
سلمنا: انتفائها، ولكن لم لا يجوز أن يكون ذلك قرينة لفظية دالة على
إرادة العموم"منه"؟.
ولا يلزم منه أن يكون بوضعه للعموم ولا يخفي عليك ما في هذا الجواب مما سبق.
وأما ما ذكره الإمام: وهو: أن الدينار الصفر، لما كان حقيقة: كان الدنانير الأصفر "خطأ أو" مجازا. فضعيف:
أما أولا: فلأنا لا نسلم الملازمة، وهذا لأنه لا يلزم من كون الدنانير "الأصفر" خطأ أو مجازا أن يكون الدينار الأصفر كذلك، لأن الدينار له جهتان اللفظ والمعنى، فيصح الصفر حملا على اللفظ، ويصح الصفر حملا على المعنى، بخلاف الدنانير، فإنه ليست لها هاتان الجهتان، فلا يصح حقيقة إلا الصفر.
وأما ثانيا: فلأنا لو سلمنا الملازمة، لكن لا نسلم نفي اللازم، فإن الدينار الأصفر، مجاز عندما يراد منه العموم عند القائلين به.
وثالثها: أنه يصح استثناء كل فرد منه، بل استثناء الجمع كما في
قوله تعالى {إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا}
وقد ثبت أن الاستثناء من الكلام: ما لولاه لدخل فيه، فوجب أن يكون للعموم.
وأجيبوا: بأنه مجاز لعدم الاطراد، إذ لا يجوز أن يقال: رأيت الرجل إلا العلماء والحكماء.
ورابعها: أن الألف واللام إذا كانتا لتعريف معهود سابق، فإن الاسم مصروف إلى جميع ذلك المعهود لعدم أولوية البعض من البعض، فكذا إذا كانتا لتعريف الجنس وجب أن يكون الاسم مصروفا إلى جميع أفراد ذلك الجنس، لعدم أولوية/ (212/ب) البعض من البعض.
وأجيبوا: بمنع المقدمة الأولى، وهذا لأن المعهود إذا كان جمعًا فإنا نمنع عوده إلى جميعه بطريق المعية، نعم: يعود إلى جميعه على البدلية لعدم أولوية البعض من البعض.
وخامسها: أن الحكم إذا كان مرتبا عليه، دل ذلك على أنه علة ذلك الحكم، لأن ترتيب الحكم على الوصف مشعر بالعلية، فيعم الحكم لعموم علته.
وأجيبوا: بأنه استدلال على التعميم لا باعتبار اللفظ، بل بالقياس، وهو ممنوع في اللغات وبتقدير تسليمه فلا نزاع فيه، وإنما النزاع فيه باعتبار اللفظ.
[الجمع المنكر هل يفيد العموم أو لا؟]
القول: في أن الجمع المنكر هل يفيد العموم أم لا؟
ذهب الأكثرون من الفقهاء والمتكلمين: إلى أنه لا يفيده، بل هو محمول على أقل الجمع، وهو: أما الثلاثة، أو الاثنين، على اختلاف فيه ستعرفه.
وذهب الجبائي إلى أنه يفيده.
والذي أظنه أن الخلاف في غير جمع القلة، وإلا فالخلاف فيه بعيد جدا، إذ هو مخالف لنصهم، فإنهم نصوا على أنه للعشرة وما دونه بطريق الحقيقة، فالقول: بأنه للعموم بطريق الحقيقة مخالف لقولهم.
واحتج الجبائي ومن تابعه بوجوده:
أحدها: أنه يصح استثناء كل فرد منه، وأنه يدل على أنه للعموم على ما تقدم.
وأجيبوا: بأن الاستثناء منه لإخراج ما يصح دخوله، لا ما يجب بدليل ما تقدم منه الفرق المعلوم بين الاستثناءين.
وثانيها: أن حمله على العموم، حمل له على جميع حقائقه، فكان أولى من حمله على بعض حقائقه.
وجوابه: منع الأول، وهذا لأنه ليس حقيقة إلا الجمع الذي هو قدر مشترك بين الثلاثة وما زاد عليها، وأما كل واحد من تلك الأعداد فمتعلق بالحقيقة، والدال على الشيء غير دال على متعلقة فضلا عن أن يكون حقيقة فيه.
ولئن سلم: ذلك لكنه معارض بأن حمله على العموم يحتمل الخطأ، لاحتمال أن يكون غير مراد للمتكلم، وحمله على أقل الجمع يؤمن منه، لأنه متيقن على التقديرين، وكان حمله عليه أولى.
وثالثها: أنه لو لم يحصل على العموم لزم الإجمال، إذ ليس بعض الجموع أولى من البعض.
وجوابه: منع الملازمة، وهذا لأن حمله على أقل الجمع أولى لما سبق أنه متيقن، والأصل براءة الذمة على الزائد.
فهذه أنواع ستة من القول التي تفيد التعميم عند من يقوله به:
لكن الثلاثة منها/ (213/أ) وهي "من" وأخواتها في الاستفهام
والشرط، والجزاء وألفاظ التأكيد نحو:"كل" و"جميع" والنكرة في سياق النفي متفق على تعميمها بين القائلين: بالعموم، والثلاثة الباقية مختلف فيها فيما بينهم.
القول: في شبه المنكرين للعموم، والمتوقفين فيها وأجوبتها:
الأولى: أنه لا نزاع في أن اللفظ مستعمل في العموم تارة وأخرى في الخصوص، والأصل في الاستعمال الحقيقة، فوجب أن يكون حقيقة فيها.
الثانية: أن ما ذكرتم من ألفاظ العموم، لو كانت حقيقة فيه فقط لما حسن من سامع هذه الألفاظ من أرباب اللسان أن يستفهم المتكلم به إنك أردت به الكل أو البعض، لأن طلب الفهم عند وجود المقتضى له عبث، لكنه حسن وفاقا، فدل ذلك على أنه حقيقة فيهما، وبهذين الوجهين يتمسك منهم من قال بالاشتراك.
وثالثها: أن دلالة هذه الألفاظ على الخصوص متيقنة، ودلالتها
على العموم مشكوك فيها، وجعل اللفظ حقيقة فيها في المتيقن أولى لعدم احتمال الخطأ.
ورابعها: أنها لو كانت للعموم، لكان دخول "الكل" عليها تكرارا و"البعض" نقضا، ولكان دخول الاستثناء عليه أيضا نقضا.
وخامسها: أن هذه الألفاظ لو كانت حقيقة في العموم فقط، لزم تكثير المجاز من غير عكس، ضرورة إنها مستعملة في الأكثر في الخصوص، وأنه خلاف الأصل.
وسادسها: أن هذه الألفاظ لو كانت للعموم للزم من استعمالها حيث لا عموم نحو قول القائل: رأيت العباد، وطفت البلاد، ولبست الثياب، وركبت الخيول، واشتريت العبيد والجواري، الكذب ضرورة أنه ما رأى جميع العباد، ولا طاف جميع البلاد، ولا لبس جميع الثياب.
أما لو كان للخصوص لم يلزم من استعماله في العموم ذلك المحذور، ضرورة حصول الخصوص حيث حصل العموم، فكان جعله حقيقة في الخصوص أولى.
وسابعها: وهو مختص بمن أنه لو كان للعموم لما جمع، لأن الجمع يجب أن يكون فائدته أكثر مما يفيده لفظ الواحد وليس بعد العموم كثرة، حتى يمكن أن يقال: أنه يفيدها، لكنه يجمع في حالة الوقف ومنه قول الشاعر:
أتوا ناري فقلت منون أنتم .. فقالوا الجن فقلت عموا ظلاما.
وبهذه الوجوه يتمسك من يقول: إن اللفظ الحقيقة في الخصوص فقط ومجاز في العموم.
وثامنها: وهو حجة المتوقفين: أن العلم بكون هذه الألفاظ موضوعة للعموم، إما أن/ (213/ب) يكون ضروريا، أو نظريا، وكل واحد منهما، إما أن يكون عقليا، أو غير عقلي "سواء كان نقليا:[أو لا يكون نقليا] كالعلم الحاصل بعد الاستقراء والتتبع.
والأول: باطل سواء كان عقليا، أو غير عقلي" لأنه لو كان كذلك لوجب اشتراك العقلاء فيه ولم ينفرد بالعلم به القائلون بالعموم مع أن غيرهم يشاركهم في السبب الموجب له، وكذا القسم الأول من الثاني، لأن دليله حينئذ يكون عقليا، إذ لا معنى للنظر العقلي إلا ما يكون دليله عقليا، لكنه باطل، إذ لا مجال للعقل في اللغات.
وأما الثاني: فذلك الدليل النقلي، إما التواتر، أو الآحاد.
والأول: باطل وإلا لعرفه الكل، وهذا إن قلنا: العلم الحاصل عقيب
التواتر نظريا، وإلا فهو داخل في القسم الأول.
والثاني: لو سلم صحته وسلامته عن القدح والمعارض لا يفيد إلا الظن، لكن المسألة عملية فلا يجوز التمسك به عليها.
وتاسعها: وهو أيضا حجتهم لأن الأدلة متعارضة، والاحتمالات متقاومة، والجزم بواحد ترجيح من غير مرجح، وبتقدير أن يكون المرجح لكن لا نزاع أنه ليس بقاطع لا يحتمل الخطأ بما يحتمله، فيجب التوقف دفعا لهذا المحذور.
الجواب: عن الأول: ما سبق أن الأصل في الاستعمال الحقيقة، ما لم يستلزم الاشتراك، أما إذا استلزمه فلا نسلم ذلك.
سلمنا: أنه الأصل مطلقا لكن الأصل مطلقا لكن الأصل عدم الاشتراك أيضا، والمجاز وإن كان على خلاف الأصل، لكنه خير من الاشتراك على ما تم تقريره.
وعن الثاني: إنا لا نسلم أن حسن الاستفهام، دليل الاشتراك، وهذا لأنه قد يحسن الاستفهام مع اتحاد المدلول الحقيقي للفظ، سواء كان له مدلول مجازي، أو لم يكن.
أما الأول: فلأنه يحسن من السامع أن يستفهم من المتكلم، إذا قال: رأيت حمارا، أو لقيت بحرا، أردت به البليد والكريم، أم أردت به مدلولهما الحقيقي.
وأما الثاني: فكما إذا قال القائل: ضربت القاضي، فيقال: أضربت القاضي؟ فيقول: "نعم"، وتخلف المدلول وإن كان عن الدليل الظاهري خلاف الأصل، ثم السبب في حسن هذا الاستفهام من المتكلم الذي لا يجوز عليه السهو والمجازفة، تقوية الظن بما دل عليه اللفظ ظاهرا من العموم، وإبعاد التخصيص إن كان اللفظ عاما.
وإن كان خاصا ففائدته التأكيد وفائدة التأكيد تقوية الظن وإبعاد التجوز وتوثيق السمع، احترازاً عن الاشتباه/ (214/أ) بكلمة أخرى هذا إذا كان مدلول اللفظ متحدا.
أما إذا كان متعدد بحسب الحقيقة والمجاز، ففائدة هذا مع فائدة نفي إرادة المجاز منه، وإن كان المتكلم ممن يجوز عليه السهو والمجازفة فيحسن الاستفهام لما سبق.
ولوجوه أخرى: نحو استبانة تحفظ المتكلم وتيقظه، فإن السامع ربما ظن أن المتكلم غير متحفظ في كلامه، أو هو ساه فيه فيستفهمه لاستبانة تحفظه وتيقظه.
ونحو دفع المجازفة، عن الكلام، فإن السامع ربما ظن لأمارة أن المتكلم مجازف في الكلام، فيستفهم منع عن مدلول كلامه لشدة اهتمامه به، فربما بين تجرد المتكلم عن المجازفة في كلامه لشدة اهتمام السامع به.
ونحو دفع المعارض، فإن السامع ربما ظن قرينة تقتضي تخصيص عام، أو تقييد مطلق، أو حذف مضاف وإقامة المضاف إليه مقامه، فيستفهمه لدفع
تلك القرينة ليجري اللفظ على ظاهره.
وعن الثالث: أن كون اللفظ دالا على الشيء يقينا، لا يدل على أنه مجاز في الزائد عليه، وإلا لزم النقض بالجمع المذكر، فإن دلالته على الثلاثة متيقنة، مع أنه ليس بمجاز في الزائد عليه وفاقا.
سلمنا: سلامته عن النقض: لكنه معارض بما أن الحمل على العموم محصل لغرض المتكلم على التقديرين: أعنى إرادة العموم، أو الخصوص، والحمل على الخصوص غير محصل لغرضه على تقدير إرادة العموم، "فكان الحمل عليه" أولى.
وعن الرابع: ما سبق في الأوامر.
وأما قوله: يكون الاستثناء نقضا فممنوع، وهذا لأنه يجوز أن يكون قرينة دالة على إرادة الخصوص وحينئذ لا يلزم أن يكون نقضا.
سلمناه: لكنه منقوض بألفاظ العدد، فإنها بالاتفاق حقائق فيها مع أنه يحسن الاستثناء منها.
وعن الخامس: أن ما هو على خلاف الأصل قد يصار إليه لقيام الدلالة عليه.
وعن السادس: أنا لا نسلم لزوم الكذب فيما ذكروه من الأقوال، وهذا لأنه يجوز أن يريد به الخصوص، وإذ ذاك لا يلزم الكذب، لأن إرادة المجاز من اللفظ الصالح له ليس بكذب وإلا لكان قول القائل: رأيت حمارا، عندما رأى بليدا كذبا، وهو باطل بالاتفاق، وإنما يلزم ذلك من إرادة ما ليس اللفظ صالحا له لا حقيقة ولا مجازا، كما إذا رأى خمسة، فقال: رأيت عشرة، لأن لفظ العشرة لا يصلح للخمسة، لا حقيقة ولا مجازا.
وعن السابع: أنا لا نسلم أنه جمع، ولا نسلم أن الواو واو الجمع بل هي متولدة من إشباع الحركة.
سلمناه: لكنه شاذ لا عمل عليه على ما قاله: سيبويه رحمه الله تعالى.
سلمنا: أنه ليس بشاذ، لكنه يصلح للواحد أيضا بلا خلاف، فلم لا يجوز أن يقال إن جمعها قرينة دالة على إرادته الواحد؟
سلمنا: أنه جمع المستغرقة، لكن لم لا يجوز أن يكون جمعا باعتبار اللفظ لا باعتبار المعنى؟
كما قيل: في "قفا" في شعر امرئ القيس، فإنه قيل: تثنية قوله:
قف، قف" وحينئذ لا يلزم أن لا يكون للعموم، وإنما يلزم ذلك أن لو كان جمعا باعتبار المعنى، فعلى هذا يصير تقديره، من أنت، من أنت.
وعن الثامن: ما سبق في الأوامر.
ترتيب: أما من فرق من الواقفية بين الأمر والنهي والأخبار، والوعد والوعيد، فقد احتجوا بوجهين:
أحدهما: أن الإجماع منعقد على أن أوامر الشرع ونواهيه عامة متناولة لجميع المكلفين ونحن متعبدون باعتقاد التعميم في التكاليف، وتعميم التكاليف إذا ورد الأمر والنهي مطلقا، فلو لم يكن الأمر والنهي للعموم، لكان ذلك الإجماع خطأ، ولكان ذلك تكليفا بما لا يطاق، إذ التكليف بما لا يدل عليه اللفظ بصراحته ولا بظاهره، مع عدم ما يدل عليه من خارج تكليف بما لا يطاق، وهذا بخلاف الأخبار فإنه لا تكليف فيه.
وثانيهما: أن الخير يجوز أن يرد بالمجهول من غير أن يعقبه أو يتقدمه بيان، كما في قوله تعالى:{ورسلا لم نقصصهم} ، وقوله تعالى:{كم أهلكنا قبلهم من قرن} ، وقوله:{قرونا بين ذلك كثيرا} .
بخلاف الأمر والنهي، فإنه لا يجوز أن يردا بالمجهول من غير أن يعقبه أو يتقدمه بيان، فالحاجة إلى وضع لفظ يدل على تعميم التكليف أكثر من وضع لفظ يدل على تعميم الأخبار.
الجواب عن الأول: بمنع ما ذكروه من الفرق، وهذا لأن من الأخبار ما
كلفنا باعتقاد تعميمه، والإجماع منعقد على وجوب اعتقاده على وجه التعميم، كقوله تعالى:{والله على كل شيء قدير} {والله بكل شيء عليم} {الله خالق كل شيء} ، وكذا عمومات الوعد والوعيد لاسيما التي تتعلق بأصول الدين كقوله عليه السلام:"يخرج من النار من كان في قلبه ذرة من الإيمان"، وكقوله تعالى:{إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} .
وإذا لم يصح ما ذكروه من الفرق وجب أن يثبت التعميم في الأخبار كما ثبت في الأوامر والنواهي بعين ما ذكروه.
وعن الثاني: أنا لا نسلم امتناع ورود الأمر بالمجهول، وهذا لأن تكليف ما لا يطاق جائز عندنا.
سلمنا: امتناعه لكن لا نسلم جواز ورود الأخبار بالمجهول فيما كلفنا بمعرفته وبوجوب اعتقاده، كما ذكرنا من الأخبار، فعلى هذا لا يتحقق زيادة الحاجة في الأمر نعم: يجوز ذلك في الأخبارات التي ما كلفنا بمعرفتها، لكن لا فصل بين خبر وخبر بالإجماع.
سلمنا: زيادة الحاجة، لكن لا نسلم: أنها توجب الوقوع لا بد لهذا من دلالة.
سلمنا: أنها توجب ذلك، لكن بالنسبة إلى مقاصد الوضع الشرعي، "أو بالنسبة إلى مقاصد الوضع" اللغوي.
الأول: مسلم.
والثاني: ممنوع.
لكن لا نسلم: أن اللغات توقيفية حتى يلزم أن يقال: إن الواضع لا يخل بغرضه ظاهرا.