الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
خلاف بين القائلين به، وإن كنا لا نعرف فيه، إذ ليس هو أقوى من الخبر والقياس وفي التخصيص بهما خلاف بين القائلين بكونهما حجة.
المسألة الثانية عشرة
[في حكم تخصيص عموم الكتاب والسنة والمتواترة بالقياس]
يجوز تخصيص عموم الكتاب والسنة المتواترة، بالقياس مطلقا، عند الشافعي، وأبي حنيفة، ومالك، وأحمد بن حنبل، وأبي الحسن الأشعري، وجماعة من المعتزلة: كأبي هاشم في إحدى
الروايتين، وأبي الحسين البصري، والقاضي عبد الجبار الهمذاني، رحمهم الله تعالى.
وذهب جماعة من الفقهاء، كأهل العراق من الحنفية، وجماعة من المعتزلة كأبي علي وأبي هاشم فيما روى عنه أولا: إلى المنع مطلقا.
ومنهم من فصل وذكروا فيه وجوها:
أحدها: وهو قول ابن سريج وجماعة من أصحابنا أنه يجوز بالقياس الجلي دون الخفي.
واختلف هؤلاء في تفسير [الجلي، والخفي، فقال: بعضهم الجلي قياس
العلة، والخفي قياس الشبه.
وقيل الجلي ما تتبادر] علته إلى الفهم عند سماع الحكم نحو إعظام الأبوين عند سماع قوله تعالى {فلا تقل لهما أف} ونحو اندهاش العقل عند تمام الفكر عند سماع/ (269/ أ) قوله عليه السلام: "لا يقضي القاضي وهو غضبان".
والخفي ما ليس كذلك.
[وقيل الجلي ما لو قضى القاضي بخلافه لنقض قضاؤه، والخفي ما ليس
كذلك]، وهو قول الإصطخري رحمه الله تعالى.
وفي هذا التعريف نظر: لأنه ليس كل ما لو قضى القاضي بخلافه لنقض قضاؤه قياسا جليا، فإن القضاء الذي يكون بخلاف الخبر الصريح وإن كان خبرًا واحدًا ينقض، مع أنه ليس بقياس، فليس المراد من كلمة "ما" العموم، بل الخصوص، وهو القياس، ويكون التقدير الجلي: هو القياس الذي لو قضى القاضي بخلافه لنقض قضاؤه، وحينئذ يلزم تعريف الشيء بما لا يعرف إلا به لأنه لا يعرف القضاء الذي بخلاف القياس ينقض إلا بالقياس الجلي، فتعريف القياس الجلي به تعريف بما لا يعرف إلا به وهو باطل.
وثانيها: وهو قول الغزالي- رحمه الله أنه يرجح الأقوى منها في إفادة الظن، وتعرف القوة والضعف بقلة تطرق التخصيص وكثرته، وإن تعادلا فالتوقف.
وثالثها: وهو قول عيسى بن أبان: أنه إن تطرق التخصيص إليه، سواء كان بمتصل، أو بمنفصل جاز تخصيصه بالقياس وإلا فلا.
ورابعها: وهو قول الكرخي: أنه إن تطرق التخصيص إليه بمنفصل جاز تخصيصه ("به" وإلا فلا].
وذهب القاضي، وإمام الحرمين- رحمهما الله تعالى- إلى القول بالتوقف.
قال إمام الحرمين: يحصل مقصود المخصص من وجه دون وجه، لأنه من حيث إنه لا يحكم في محل التعارض بمقتضى العموم يحصل مقصوده، ومن حيث إنه لا يحكم بمقتضى القياس فيه أيضا لا يحصل مقصوده، هذا كله في القياس المستنبط من الكتاب، وعموم "السنة" المتواترة، أو عموم خبر الواحد، فأما القياس المستنبط من خبر الواحد، بالنسبة إلى عموم خبر الواحد، فعلى الخلاف السابق أيضا، وأما بالنسبة إلى عموم الكتاب فيترتب على جواز تخصيصه بخبر الواحد، فمن لا يجوز ذلك لا يجوز تخصيصه بالقياس المستنبط منه بطريق الأولى، وأما من يجوز ذلك فيحتمل أن لا يجوز ذلك لزيادة الضعف، ويحتمل أن يجوز ذلك أيضا، كما في القياس المستنبط من الكتاب إذ قد يكون قياسه أقوى قوة من عموم الكتاب، بأن يكون قد تطرق إليه تخصيصات كثيرة، ويحتمل أن يتوقف فيه لتعادلهما إذ قد يظهر له ذلك.
لنا وجهان/ (269/ ب).
أحدهما: ما تقدم غير مرة، من أن تقديم العام على الخاص يوجب إلغاء الخاص بالكلية، وتقديم الخاص عليه لا يوجب ذلك، فكان ذلك أولى.
وثانيهما: أن العام يحتمل التجوز، ويحتمل الخصوص احتمالاً ظاهراً،
بناء على ما تقدم، أنه ما من عام إلا وقد خص عنه البعض، والقياس لا يحتمل ذلك فكان أولى.
احتجوا بوجوه:
أحدها: حديث معاذ، فإنه دل على تقديم الكتاب والسنة على القياس والقول بتخصيص عموم الكتاب بالقياس تقديم للقياس على
...........................................................................
الكتاب وأنه خلاف النص فكان باطلا.
وجوابه: أنه بعينه يقتضي أن لا يجوز تخصيص الكتاب بالسنة وإن كانت متواترة، وهو باطل بالإجماع، فما هو جوابكم عنه فهو جوابنا.
فإن قلت: مقتضى الدليل أن لا يجوز ذلك، لكن ترك العمل به في السنة لإجماع الصحابة على جواز التخصيص بها لما تقدم فيبقى فيما عداه على الأصل.
قلت: المعنى الذي لأجله أجمعوا عليه، وهو أن لا يلزم الترك بمقتضى الدليل بالكلية قائم "ما" هنا، فيلزم من جواز التخصيص به جواز التخصيص بالقياس.
وثانيها: أن العام في دلالته على محل التعارض، لا يخلو، إما أن يكون راجحا على القياس، أو مساويا، أو مرجوحا.
فإن كان الأول، وجب العمل به، وامتنع تخصيصه "به ضرورة أن العمل بالراجح واجب.
وإن كان الثاني: وجب التوقف إذ ليس العمل بأحدهما أولى من العمل بالآخر.
وإن كان الثالث: وجب تخصيصه" وتقديمه عليه، لكن لا شك في أن وقوع احتمالين من الثلاثة أغلب على الظن، من "وقوع" احتمال واحد منها، فيكون عدم تخصيصه به أغلب على الظن، فيكون العمل به واجبا، إذ العمل بما هو غالب الظن واجب.
وجوابه: أن ما ذكرتم إنما يسلم في الاحتمالات المتساوية في المصلحة، أو المفسدة، فأما في المتقاومة في ذلك، فلا نسلم ذلك فيه، وهذا لأنه رب احتمال واحد قد يغلب على الظن وجوده بالنسبة إلى مقاصد الشرع على الاحتمالات الكثيرة، بناء على اشتماله على مصلحة راجحة.
على تلك الاحتمالات ولا شك أن احتمال التخصيص، راجح في المصلحة على احتمال الإلغاء، وعلى احتمال الترك بالدليلين.
وثالثها: أن الحكم المدلول عليه بالعموم معلوم، والحكم المدلول عليه/ (270/ أ) بالقياس مظنون، والمعلوم راجح على المظنون.
وجوابه: منع أن الحكم المدلول عليه بالعموم معلوم، وهذا لأن العام عن الكتاب والسنة المتواترة، وإن كان مقطوع المتن، لكنه مظنون الدلالة على العموم: إذ هو مبني على عدم المخصص وهو ظني.
سلمنا: ذلك لكنه لا فرق بينهما، وقد عرفت دليل ذلك في مسألة أنه يجوز تخصيص عموم الكتاب بخبر الواحد فلا نعيده.
ورابعها: أن القياس فرع النص، وتقديم الفرع على الأصل غير جائز.
وجوابه: أنه فرع نص "آخر" لا فرع المخصوص به، حتى يلزم ما ذكرتم من تقديم الفرع على الأصل.
وخامسها: أن الإجماع حاصل على أن من شرط القياس أن لا يرده النص، وإذا كان مقتضى العموم مخالفا له، فقد رده فلم يصح العمل به.
وجوابه: أن النص إنما يرد القياس أن لو كان القياس رافعا لكل مقتضاه، أما إذا كان رافعا لبعض مقتضاه فلا نسلم أن النص حينئذ يرده، وهذا لأنه حينئذ بيان له والمبين لا يرد المبين، وبتقدير أن يكون ذلك "ردا" بناء على ظاهر التعميم، لكن لا نسلم أن الإجماع منعقد على أن من شرط صحة القياس أن لا يرده النص مثل هذا الرد، وإنما الذي يسلم حصوله عليه هو الرد بالمعنى الأول لا غير.
وسادسها: أن جهة الضعف في العام المقطوع المتن منحصرة في أمرين:
أحدهما: احتمال التخصيص.
وثانيهما: احتمال التجوز، وفي غيره في الثلاثة الاحتمالات المذكوران مع احتمال كذب الناقل.
وأما في القياس فكثيرة:
أحدها: هذه الثلاثة، والاثنان، لأن أصل القياس لابد وأن يكون نصا.
وثانيها: احتمال ألا يكون معللا بعلة أصلا.
وثالثها: أنه وإن كان معللا بعلة، لكن يحتمل أن يكون غير ما ظنه القائس عليه.
رابعها: أنها وإن كانت ما ظنه القائس علة، لكن يحتمل أن لم يصادفها على طريقها، إما بأن يكون ليس أهلًا لذلك، أو وإن [كان] أهلًا له، لكنه أخطأ في طريق إثباتها.
وخامسها: أنه وإن صادفها بطريقها، لكنه يحتمل أن تكون موجودة في الفرع، مع أنه قد ظن وجودها فيه.
وسادسها: أنها وإن وجدت في الفرع، لكن ربما لم يوجد فيه شرط الحكم، أو أن وجد شرطه، لكن وجد فيه مانع منه، مع أنه قد ظن حصول الشرط وعدم المانع، وإذا كان/ (270/ ب) كذلك كان القياس أضعف من العام، لاسيما من المقطوع متنه فلم يجز تقديمه عليه، إذ العمل بالمرجوح مع وجود الراجح غير جائز.
وجوابه من وجوه:
أحدها: أن كميات المقدمات، قد تصير معارضة لكيفياتها، فمقدمات القياس، وإن كانت كثيرة، لكنها قد تكون أقوى من مقدمات العام القليلة، بحيث تصير مع كثرتها بسبب كيفياتها معادلة للمقدمات القليلة التي للعام أو راجحة عليها وهذا، فإنه لا يخفى على ذي لب، أن دلالة قياس "الأرز" على "البر" على تحريم بيعه متفاضلا، أقوى بالنسبة إلى دلالة قوله تعالى:{وأحل الله البيع} على جواز بيعه، كذلك وإذا كان كذلك وجب تقديمه عليه.
وعند هذا ظهر أن الحق ما ذهب إليه الشيخ الغزالي رحمه الله تعالى.
وثانيها: أنا نسلم أن العام أرجح من القياس مطلقا، ولهذا لا يقدم قياس على عام، وإن كان خبرًا واحدًا عند تعارضهما بالكلية، لكن في تقديمه على القياس إلغاء القياس بالكلية، لكن في تقديمه على القياس إلغاء القياس بالكلية، وفي تقديم القياس عليه على وجه التخصيص ليس ذلك، فكان تقديمه عليه أولى، لأن مفسدة الترك بمقتضى الدليل بالكلية تربو على مفسدة تقديم المرجوح على الراجح في بعض مقتضيات الراجح، بدليل أنه يخص العموم بما أنه لو وقع التعارض بينه وبين العام تعارضا يمتنع الجمع بينهما، لكان تقديم العام واجبا كالفعل إذا دل دليل على تعميمه وكالمفهوم، وقول الصحابي عند من يقول بكونهما حجة.
وثالثها: النقض بجواز تخصيص المقطوع من الكتاب والسنة بالخبر المظنون، وقد سلم ذلك كثير ممن منع تخصيص العام بالقياس.
وسابعها: أنه لو جاز التخصيص بالقياس، لجاز النسخ به، بجامع
تقديم الخاص على العام واللازم باطل، فالملزوم مثله.
وجوابه ما تقدم غير مرة.
وأما حجة من فرق بين القياس الجلي والخفي: فهي أن الجلي أقوى من العموم، بدليل أنه يتبادر فيه الذهن إلى فهم العلة عند سماع الحكم، بخلاف العموم فإنه قل ما يتبادر الفهم إلى التعميم عند سماع العام، بسبب كثرة تطرق التخصيص إلى العمومات، وإذا كان أقوى وليس في تقديمه على العام إلا مفسدة التخصيص/ (271/ أ) بخلاف تقديم العام عليه، فإن فيه مفسدة التعطيل وجب تقديمه عليه.
وأما مأخذ ما اختاره الغزالي- رحمه الله تعالى- فظاهر جدا.
وأما مأخذ عيسى بن أبان، والكرخي، والقاضي- رحمهم الله فما سبق في خبر الواحد.
وأما إمام الحرمين: فإنه لم يتوقف في جواز تخصيص الكتاب بالسنة، بل جزم بجوازه، وتوقف هنا فمأخذه في ذلك: هو أنه زعم أن مقتضى الدليل التوقف في خبر الواحد أيضا.
كما قال القاضي أبو بكر- رحمه الله تعالى- لكن ترك مقتضاه
الإجماع الصحابة وهو غير حاصل في القياس فوجب أن يبقى على الأصل.
وجوابه: أن ما لأجله أجمعوا عليه حصل هنا، وإن لم يكن الإجماع حاصلا فوجب تقديمه عليه كالخبر.
الفصل السادس
فيما ظن أنه من مخصصات العموم مع أنه ليس كذلك
وفيه مسائل: