الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
"الأول" أقرب قليلا من الوجه الثاني، إذ لا يتجه إنكاره على وجوه التجوز أصلا.
وفي المسألة وجه آخر: وهو أنا أجمعنا على أن الاستثناء من الجنس بطريق الحقيقة دفعا للاشتراك، ولا يمكن/ (243/ ب) جعله حقيقة فيهما باعتبار معنى مشترك بينهما، لأن الدلالة الالتزامية معتبرة وحاصلة في الاستثناء من غير الجنس على تقدير كونه حقيقة فيه قطعا وهي غير معتبر وغير حاصلة في الاستثناء من الجنس فلم يتحدد مدلوله فيهما.
المسألة الثالثة
[في الاستثناء المستغرق]
اتفقوا: على أن الاستثناء المستغرق فاسد، وأن الثابت في ذلك هو مقتضى المستثنى منه، وبلغو المستثنى، وهو كقولك: لفلان على عشرة إلا عشرة والواجب في ذلك هو العشرة بالإجماع.
واتفقوا أيضا: على أن الاستثناء الأقل صحيح، وأن الواجب في ذلك في الأقارير ما بقى بعد الاستثناء.
لكن نقل عن بعض أئمة اللغة استقباح استثناء عقد صحيح وإن كان أقل مما
بقي كالعشرة من مائة.
واختلفوا: في استثناء الأكثر، والمساوي، فمنع بعض أئمة العربية الأول لا غير، وعزى إلى مالك- رضي الله عنه، ولا يكاد يصح ذلك عنه.
ومنع القاضي والحنابلة منهما.
جميعا.
والدليل على فساد المذهبين جميعا، إجماع الفقهاء، قبل ظهور المخالف على صحة قول القائل: لفلان على عشرة إلا تسعة، وإن الواجب في ذلك هو الواحد، فلو كان استثناء الأكثر، والمساوي فاسدا، لما صح هذا، وإن إجماعهم حينئذ يكون باطلا. وهو باطل.
لا يقال: ما ذكرتم لو صح فإنه إنما يدل على صحته شرعا لا غير، لأنهم أئمة الأحكام لا أئمة اللغة والعربية، وإجماعهم إنما يعتبر بالنسبة إلى أحكام الشرع، إذا الإجماع المعتبر يجب أن يكون صادراً من أهل ذلك الفن. فلم قلتم أنه يصح لغة أيضا؟
لأنا نقول: الأصل عدم التعبير لاسيما فيما لا يوجد فيه دليل شرعي على الخصوصية.
وأما الاستدلال: في ذلك بقول الشاعر:
أدوا التي نقصت سبعين في مائة .. ثم ابعثوا حكما بالحق قوالا
وبقياس الاستثناء على التخصيص على ما استدل به بعض الأصحاب، فضعيف: إذ لا استثناء في الشعر، لأن معناه: أدوا المائة التي تسقط منها تسعون، ولا يلزم أن يكون سقوطها بطريق الاستثناء بل قد يكون بغيره، كما لو صرح وقال: أسقطت التسعين "من مائة".
والفرق قائم بين التخصيص والاستثناء، على ما عرفت ذلك من قبل.
وأما الدليل على فساد المذهب الثاني: خاصة وهو مذهب القاضي والحنابلة فقوله تعالى/ (244/ أ): {إن عبادي ليس عليك سلطان إلا من اتبعك من الغاوين} . وقال حكاية عن إبليس: {لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين} . استثناء الغاوين في الآية الأولى: عن العباد فمقتضى هذا على رأي الخصم أن يكون المخلصون أكثر، ضرورة أنه ليس بعد الغاوين إلا المخلصون "ولأنه نفى عنهم سلطانه والذين ليس له عليهم سلطان هم المخلصون" بدليل قوله:{لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين} .
واستثنى المخلصين في الآية الثانية: ومقتضى هذا على رأيهم أن يكون الغاوين أكثر لما سبق، وحينئذ يلزم أن يكون كل واحد من الغاوين
والمخلصين أقل من الآخر والأقل من الأقل أقل، فيلزم أن يكون كل واحد منهما أقل من نفسه وهو محال.
أو نقول بطريق آخر: وهو أنه تعالى استثنى الغاوين من العباد وهم أكثر المخلصين الباقين بعد الاستثناء، بدليل قوله تعالى:{وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين} {بل أكثرهم لا يؤمنون} {ولا تجد أكثرهم شاكرين} {وقليل من عبادي الشكور} .
والاستقراء أيضا يشهد بذلك، فلو كان شرط المستثنى أن يكون أقل لما صح هذا الاستثناء، لكنه صح إذ ورد في كتاب الله تعالى، فدل ذلك على أنه ليس بشرط.
واعترض عليه بوجهين:
أحدهما: أنا لا نسلم أن "إلا" في قوله تعالى: {إلا من اتبعك} للاستثناء، بل هي عندنا بمعنى: لكن، فلم قلتم إن ذلك لا يجوز؟
سلمنا: أنها للاستثناء، لكن إنما يمتنع استثناء الأكثر لو كان عدد المستثنى والمستثنى منه "مصرحا، كما في استثناء الأعداد من الأعداد، أما إذا لم يكن" مصرحا به، كما إذا قال: أكرم الناس الذين يدخلون في داري إلا
الجهال، فإنه يصح وإن كان الجهال أكثر الداخلين، فلم تكن الآية دالة على صورة النزاع، ضرورة أن العدد "غير" مصرح به.
وجواب الأول: أن جعل: "إلا"، بمعنى:"لكن"، خلاف الأصل، والأصل استعمال كل لفظ في موضوعه إلا لدلالة صارفة عنه، والأصل عدمه.
وعن الثاني: أن القول بالفصل في الجواز وعدمه في الاستثناء بين ما يكون العدد مصرحا به وبين ما لا يكون كذلك، لكن المتكلم والسامع يعلم كل واحد منهما أن المستثنى أكثر من المستثنى منه حالة الاستثناء، سواء كان معلقا بصفة، كما في الآية المتلوه/ (244/ ب)، أو لا يكون معلقا بها كما إذا قال: جاءني كل الناس إلا أكثرهم.
قول: "لم يقل به أحد: وفيه نظر ولا هو متجه إذ لا فرق بينهما في مأخذ الخصم" على ما ستعرفه.
نعم: قد يتجه الفصل في الجواز وعدمه بينه وبين ما يكون معلقا بصفة لا يعلم المتكلم ولا السامع أنه "يكون" أكثر من المستثنى منه، حالة الاستثناء وإن كان يتفق أنه يكون أكثر منه فيما بعد، كما إذا قال السيد لعبده: أكرم كل من دخل داري إلا الصبيان، وإن كان يتفق أن الصبيان أكثر الداخلين، لما إن علة المنع غير متحققة حالة الاستثناء، وإن كنا
لا نعلم أن أحدًا "منهم" قال به أم لا.
ولقائل أن يقول: إنا لا نسلم أن مجموع الغاوين المنتزع من العبادة لو كان أقل من المخلصين الباقين، وأن المخلصين المستثنين، لو كان أقل من الغاوين الباقين، لزم أن يكون كل واحد منهما أقل من نفسه، وإنما يلزم ذلك "أن لو كانا" منتزعين من شيء واحد، وهو ممنوع.
وهذا لأن الغاوين منتزع من العباد المتناول، للملائكة، والجن والإنس، والشياطين، ولا شك أن المخلصين الباقين من هؤلاء أكثر من الغاوين المستثنين، لأن الملائمة وحدها تزيد على من سواها من المخلوقات، على ما تشهد به الآثار الواردة في كثرتهم نحو قوله عليه السلام:"أطت السماء وحق لها أن تئط ما فيها موضع قدم إلا وفيه ملك راكع أو ساجد".
ونحو ما روي عنه عليه السلام: "أن بني آدم عشر الجن، والجن وبنو آدم عشر حيوانات البر، وهؤلاء كلهم عشر الطيور، وهؤلاء كلهم عشر حيوانات البحر، وهؤلاء كلهم عشر ملائكة الأرض، وكل هؤلاء عشر ملائكة سماء الدنيا، وكل هؤلاء عشر ملائكة "السماء" الثانية"، وهكذا إلى السماء السابعة، فكيف وينضم إليها كثير من مخلصي الجن والإنس؟
وأما المخلصون في الآية الأخرى فمنهم مستثنون من بني آدم، لأن الضمير في قوله تعالى {لأغوينهم أجمعين} راجع إليهم ولا شك أن
المخلصين منهم أقل من الغاوين الباقين، وحينئذ لم يلزم ما ذكروه من المحذور، وهو أن يكون كل واحد منهما أقل من نفسه.
وأما الآيات التي استدل بها على أن الغاوين أكثر في الطريقة الثانية فهي مختصة ببني آدم، إذ الضمائر فيها راجعة إليهم، ولفظ العباد وإن كان/ (245/ أ) عاما في قوله تعالى:{وقليل من عبادي الشكور} ، لكنه يجب أن يكون مختصا بهم أيضا: ضرورة أن الملائكة المعصومين ليسوا كذلك، والاستقراء إنما يدل على كثرة الغاوين من الإنسان لا من غيرهم، وإذا كان كذلك لم يكن المستثنى أكثر من المستثنى منه في النصين جميعا.
واستدل أيضا: على جواز استثناء النصف خاصة بقوله تعالى: {يا أيها المزمل، قم الليل إلا قليلا "نصفه"} .
ووجه الاستدلال به هو أن النصف بدل من "القليل" الذي هو المستثنى وإنما جعل النصف قليلا، لأنه قليل بالنسبة إلى الكل، فيكون هو المستثنى في الحقيقة، إذ البدل هو المقصود بالنسبة دون المبدل.
وأجيب عنه بمنع كونه بدلا عنه، بل هو بدل عن "الليل" وتقديره: قم الليل نصفه إلا قليلا، فهو على هذا ظرف للقيام، لأنه مستثنى.
ولقائل أن يقول: جعله بدلا عن: القليل، أولى من جعله بدلا عن
الليل" لوجهين:
أحدهما: أنه على التقدير الأول: يكون بدل الكل من الكل، وعلى التقدير الثاني: يكون بدل البعض من الكل، ولا شك أن الأول أولى، لعدم التخصيص فيه ووجوده في الثاني.
وثانيهما: أنا لا نحتاج إلى التقديم والتأخير الذي هو على خلاف الأصل على تقدير أن يجعل بدلا من القليل، بخلاف ما إذا جعل بدلا عن الليل، فإنا نحتاج إليه ومعلوم أن المحوج إلى خلاف الأصل، خلاف الأصل فيكون جعله بدلا عن الليل، خلاف الأصل.
احتج المانعون بوجهين:
أحدهما: أن الدليل يأبى قبول الاستثناء، لكونه إنكارا بعد الإقرار، وجحدا بعد الاعتراف وترك العمل به في القليل، لأنه بصدد النسيان لعدم التفات النفس إليه، فالمعترف بشيء عليه إنما نسى أن ذلك الشيء عليه بنقصان شيء يسيرا، وإن كان تماما لكن أدى منه شيئا يسيرا ونسيه لقلته، فإذا اعترف به فعند ذلك إنما يتذكر ذلك، فلو لم يكن متمكنا من استدراكه بالاستثناء لكان ذلك ضررا ظاهرا عليه، فسوغنا له الاستثناء في ذلك اليسير الذي في معرض النسيان، ثم درجات القلة متفاوتة بالنسبة إلى المال
المعترف به، وإلى الشخص المعترف ولا ينضبط ذلك، وضبطنا القلة بما دون النصف، وهذا/ (245/ ب)[المعنى] غير موجود في النصف والأكثر، لأنه يضاد الذكر لكثرته فوجب أن يبقى على الأصل.
وجوابه: أن من قال من الجوزين أن الاستثناء والمستثنى منه كالكلمة الواحدة، فهذا ساقط عنه بالكلية، وأما من لم يقل به فهو يقول: إنا لا نسلم أن الاستثناء إنكار بعد الإقرار حتى يأبى الدليل قبوله، وهذا لأن الكلام إنما يتم بآخره، فقبل الإتمام ليس هو معترفا بشيء، وإنما يصير معترفا بما تقدم على الاستثناء أن لو انقطع الكلام عنده، أما إذا لم ينقطع فلا، وإذا كان كذلك لم يكن قبول الاستثناء على خلاف الدليل فلم يكن عدم قبوله في النصف والأكثر منه على وفق الدليل.
وثانيهما: أن الرجل إذا قال لفلان: على عشرة إلا تسعة وخمسة أسداس وخمس حبات، يعد كلامه هراء وهزوا، والهراء والهزو ليسا من كلام العرب، وإذا لم يجز في هذه الصورة لم يجز في النصف أيضا: لعدم القائل بالفصل.
وجوابه: أنا نسلم أن ذلك خلاف الأحسن، لكن ليس كل ما هو خلاف الأحسن ليس من كلامهم، ألا ترى أن الرجل إذا قال لفلان: على سبعة وخمسة أسداس وخمس حبات، كان خلاف الأحسن مع أنه جائز بالاتفاق، وكذلك لو قال لفلان: على عشرة إلا خمسة أسداس وخمس حبات ونصف حبة، كان على خلاف الأحسن، لأن الأحسن أن يقول: لفلان على تسعة ونصف حبة، مع أنه جائز بالاتفاق.