الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المسألة السادسة
في أن الاستثناء المذكور عقيب الجمل الكثيرة المعطوفة بعضها على بعض هل يعود إليه بأسرها [أم يختص بالأخيرة
؟.
اختلفوا فيه، فذهب الشافعي وأكثر الصحابة: إلى أنه يرجع
إليها بأسرها].
وذهب أبو حنيفة وأصحابه: إلى أنه يختص بالجملة الأخيرة.
وذهب المرتضى من الشيعة: إلى أنه مشترك بين الرجوع إلى الكل، وبين أن يختص بالأخيرة.
[وتوقف القاضي أبو بكر، والغزالي، وجماعة من أصحابنا في ذلك]، بمعنى لا ندري أن حكمه في اللغة ماذا.
ومنهم من فصل وذكروا فيه وجوها:
وأحدها: وهو ما ذكره إمام الحرمين- رحمه الله تعالى- واختاره: أن الجمل التي تباعدت معانيها واختلفت مقاصدها كقولك: أكرموا من يزورنا، وحبست ضيعتي على أقاربي، وبعت داري من بني فلان، واعتقوا عبيدي إذا مت إلا لفاسق منهم، فهاهنا يختص الاستثناء بالجملة الأخيرة.
وإن لم يكن كذلك، بل تقاربت معانيها وتناسبت مقاصدها، كقولك وقفت داري على بني فلان، وحبست ضيعتي على أقاربي إلا الفاسق منهم، فهاهنا يجب أن يتوقف فيه، كما اختاره القاضي.
ثم قال: وآية القذف وإن كانت أحكامها متناسبة، لكن لا يتوقف استثنائها، بل يجب ردها إلى ما قبل الأخيرة، لأن الأخيرة كالعلة لما قبلها، فكأنه قيل: ولا تقبلوا لهم شهادة، لأنهم الفاسقون، فإذا رفعت العلة بالتوبة رفع ما يتفرع عليها.
وثانيها: أن الجمل كلها إن كانت لغرض واحد عاد الاستثناء إلى الكل، وإن كانت الأغراض مختلفة اختص الاستثناء بالأخيرة، وهو اختيار القاضي عبد الجبار بن أحمد على ما نقله بعضهم.
وثالثها: وهو أن الجملتين من الكلام إما أن يكون من نوع واحد، أو من نوعين مختلفين/ (248/ ب).
فإن كان الأول: فإما أن تكون الثانية منهما متعلقة بالأولى، بأن يكون اسمها مصغرا فيها كقولك: أكرم ربيعة واخلع عليهم إلا الطوال، أو حكمها كقولك: أكرم ربيعة ومضر إلا الطوال، فهاهنا الاستثناء راجع إليهما لعدم استقلال الثانية بدون الأول، لكن الثانية أولى برجوع الاستثناء إليهما، لأن المقصود من الاستثناء إخراج المستثنى عن أن يكون محكوما عليه بالحكم السابق، والجملة الثانية متعلقة بالأولى في المقصود الأصلي بالاستثناء، وهو الحكم، فيكون رجوعه إليهما أولى.
أو لم يكن، وحينئذ إما أن تكون الجملتان مختلفتي الاسم والحكم سواء كان بين الحكمين اشتراك في أمر خاص، كقولك: وقفت ضيعتي على ربيعة، وأعتقت عبيدي إلا لفاسق منهم، فإن بين الحكمين اشتراكا خاصا غير كونهما قربه، وهو كونهما قربة مالية وإزالة ملك على وجه لا يجوز التصرف فيه بالبيع والهبة والانتفاع به لا له ولا لغيره.
أو لم يكن كذلك كقولك: أكرم ربيعة، واضرب مضر إلا الطوال.
أو متفقتي الاسم ومختلفتي الحكم سواء كان بين الحكمين اشتراك في غرض من الأغراض، إما اتحاد القصة كقولك: القاذف مجلود، والقاذف مردود الشهادة، القاذف فاسق إلا التائب منه.
فإن هذه الأحكام مشتركة في غرض الإهانة مع اتحاد القصة.
أو لا مع اتحاد القصة كقولك: أطعم ربيعة واخلع على ربيعة إلا الطوال، إذ الحكمان يشتركان في غرض الإحسان بعد غرض الإعظام مع عدم اتحاد القصة.
أو لم يكن كقولك: أطعم ربيعة واصفع ربيعة إلا الطوال.
أو متفقتي الحكم ومختلفتي الاسم كقولك: أطعم ربيعة وأطعم مضر إلا الطوال، فالاستثناء في هذه الصور يختص بالجملة الأخيرة، لأن الظاهر أنه لم ينقل عن الجملة [الأخيرة] المستقلة بنفسها إلى جملة أخرى مثلها في الاستقلال إلا وقد تم غرضه منها، وذلك ينفي عود الاستثناء إليها ظاهرا، لكن بعض هذه الصور أولى من البعض باختصاص الاستثناء بالجملة الأخيرة.
فالثانية: من القسم الأول أولى بذلك من الأولى، ومن كل ما بعدها ولتغاير الاسم والحكم، ولعدم المناسبة.
ثم الأول منه: أولى بذلك من كل ما بعدها، لتغاير الاسم والحكم، لأنه أولى بالاعتبار من المناسبة.
والثالثة: من القسم الثاني أولى بذلك من الثانية، والأولى منه والثانية أولى بذلك من الأول.
والقسم الثالث/ (249/ أ) أولى بذلك من الثالثة من القسم الثاني لما سبق أن المقصود من الاستثناء إخراج المستثنى عن الحكم لا إخراج ذاته.
وأما القسم الثالث والثانية والأولى من القسم الثاني، فالظاهر أنها متساوية في ذلك لوجود أمرين معنويين.
هذا كله إذا كانتا الجملتان من نوع واحد، أما إذا لم يكونا من نوع واحد بل كانتا من نوعين مختلفين فحينئذ، إما أن تكون الجملتان متضمنتين لحكمين متنافيين.
أما مع اتحاد القصة، كقوله تعالى:{والذين يرمون المحصنات ..} الآية، فإن الجملة الأولى أمر، والثانية نهي، والثالثة خبر، وإن أحكامها متناسبة لعرض الإهانة والزجر عن ذلك الفعل مع اتحاد القصة.
أولا مع اتحادها كقولك: من زنى فاجلده، ومن قذف فلا تقبل شهادته.
أو لا يكونا كذلك كقولك: أكرم ربيعة والعلماء هم المتكلمون إلا أهل البدعة والضلال، فالاستثناء في هذه الصور الثلاثة يختص بالجملة الأخيرة.
ولا يخفى عليك مما سبق أن هذه الثلاثة أولى بذلك.
وهو اختيار أبي الحسين البصري وجماعة من المعتزلة، خلا أمور زدناها فيه على المنقول عنهم على ما ظهر لنا وإنما نبهنا عليه، لأنه لا يجوز أن ينسب إلى أحد ما لا يقول هو به، إما صريحا أو ضمنا سواء كان حقا أو باطلا،
وإذا قد عرفت المذاهب فيه.
فاعلم: أن المختار في ذلك: إنما هو التوقف على ما قاله: إمام الحرمين- رحمه الله تعالى- وهو التوقف في الجمل المتقاربة، والتقارب، إما أن يكون بسبب تعلق بعضها بالبعض كما تقدم، أو بسبب مناسبة بينهما، إما لفظية أو معنوية.
أما في الجمل المتباعدة كقولنا: أكرم ربيعة وأهنت أهل بغداد إلا الطوال فهاهنا يظهر اختصاص الاستثناء بالجملة الأخيرة.
وهذا ظاهر غنى عن البيان، وإنما الشأن في إثبات التوقف فيما وراءها، وذلك ببيان حجج القاطعين، وبيان ضعفها، فإن المتوقف ليس عليه أن يذكر على التوقف حجة، بل يكفيه في ذلك القدح في أدلة القاطعين.
احتج أصحابنا بوجوه:
أحدها: أن الشرط بمشيئة الله تعالى أن تعقب الجمل عاد إلى الكل بالاتفاق، فكذا الاستثناء، والجامع أن كل واحد منهما لا يستقل بنفسه، وهذا الإلزام بعينه آت في الشرط أيضا: فإنا أجمعنا على أن الشرط إن
تعقب الجمل عاد إلى الكل، فكذا الاستثناء والجامع ما سبق، ولأنه لا فرق بينهما في المعنى، لأن قول/ (249/ ب) القائل: أكرم العلماء وأحسن إلى الشرفاء إلا الفاسق منهم، جاري مجرى قوله: أكرم العلماء وأحسن إلى الشرفاء إن لم يفسقوا.
أجيب بالفرق، أما بين الأول منهما، وبين الاستثناء، فلأن في الاستثناء- بمشيئة الله تعالى- قرينة معنوية لازمة له تقتضي عودة إلى الكل، وهي ما علم من توقيف وجود الأشياء كلها على مشيئة الله تعالى، وهذه القرينة وإن كانت حاصلة قبل التلفظ بهذا التعلق والشرط، فإن حقيقة الاستثناء بمشيئة الله تعالى راجعة إلى الشرط، وإن سموه العلماء بالاستثناء، بدليل جريانه في الواحد وعدم جريان الاستثناء فيه، لكن لا عمل بها بالإجماع لما أن المعلق عليها منجبر في اللفظ ونحن إنما نعتبر حال اللفظ لا ما هو الواقع في نفسه، فإذا ذكر ذلك عاد إلى الكل، إذ ليس البعض في ذلك أولى من بعض.
وأما بين الثاني منهما وبينه، فلأن الشرط متقدم في المعنى، وإن كان متأخرًا في اللفظ لوجوب تقدم الشرط على الجزاء، ولهذا كان تقديمه في اللفظ جائزًا بل أولى، بخلاف الاستثناء فإنه لا يجوز تقديمه على المستثنى منه، وإذا كان متقدمًا على الكل صار كل ما بعده مشروطًا به، وهذا الفرق بعينه آت في الاستثناء بمشيئة الله تعالى لما تقدم، أنه راجع إليه.
وهو ضعيف.
أما أولا: فلأنه غير قادح، وهذا لأنه إذا لم يعتبر ما هو الواقع في نفسه فالمعتبر، إما الملفوظ وحده، أو هو مع ما هو الواقع في نفسه وعلى التقديرين لم قلتم أنه راجع إلى الكل حتى يصير الكل موقوفًا عليه؟. فإن الشيء قد يختص بذكر نسبته إلى الشيء، وإن كان نسبة غيره إليه كنسبته إليه، لاسيما إذا كان الحكم يختلف بذلك.
وأما الثاني: فغير قادح أيضًا: وهذا لأن الشرط مقدم في المعنى على ما هو شرط له، فتقديمه على الكل إنما يثبت إن لو ثبت أنه شرط للكل، فإثبات شرطيته للكل بكونه متقدمًا على الكل دور وهو ممتنع.
سلمنا: تقدمه على الكل، مطلقا، لكن لم قلتم إن كل ما بعده يصير مشروطا به، ولم لا يجوز أن يكون المشروط "به" هو الذي يليه لا غير؟
وجوابه: أنا نمنع الحكم فيهما ولا يدفع ذلك بالإجماع، بأن يقال: التسوية بينهما وبين الاستثناء في الاختصاص بالجملة الأخيرة قول لم يقل به أحد، لأنا لا نسلم ذلك، وهذا إنا لو سلمنا أن أبا حنيفة/ (250/ أ) وأصحابه يسلمون الحكم فيهما، إلا أن بعض أهل العربية والواقفية يمنعون من ذلك.
سلمنا: الحكم لكن ما الجامع، وما ذكرتم من الجامع لا يناسب الحكم، وهو العود إلى الكل، بل إنما يناسب إن تعلق بشيء قبله لا بكل ما قبله.
سلمنا: مناسبته لذلك، لكنه قياس في اللغة. وهو ممنوع.
وثانيها: أن حرف العطف يصير الجمل الكثيرة المعطوف بعضها على بعض بمنزلة الجملة الواحدة، قياسًا على المفرد وتمسكًا بعموم قول أهل العربية إذ
قالوا: إن، واو، العطف في المختلفات كواو الجمع في المتفقات، فلا فرق حينئذ بين قولك: أحسن إلى المسلمين إلا الفاسق منهم، وبين قولك: أحسن إلى العلماء وأحسن إلى الشرفاء، وهلم جرا إلى أن يذكر جميع أصناف المسلمين إلا الفاسق منهم، فإذا كان الاستثناء في الأول يعود إلى جميع المسلمين المذكورين وجب أيضًا: أن يعود في الثاني إلى جميع المذكورين.
وجوابه: منع أن حرف العطف يصير الجمل المعطوف بعضها على بعض كالجملة الواحدة، أما قياسه على المفرد فيمنع صحته، إذ هو قياس في اللغة.
ولئن سلم: صحته فالفرق بينهما ظاهر، وبيانه من حيث الإجمال أن الاشتراك بين المعطوف، وبين المعطوف عليه في نسبة الفعل المذكور واجب، وهو غير واجب في الجمل المعطوف بعضها على بعض، فإنه يجوز أن يعطف الجملة المنفية على المثبتة وبالعكس، بل "لا" يجب الاشتراك بينهما في مطلق الفعل أيضًا: إذ يجوز عطف الجملة الأسمية على الجملة الفعلية.
وأما قول: أهل العربية مختص بالمفردات لما تقدم ولمقابلتهم "واو" المختلفات "بواو" الجمع في المتفقات، ومن المعلوم أن "واو" الجمع في المتفقات لا يتصور في غير المفردات إذ الجمع لا تجمع، وإذا كان كذلك فلا يلزم من عود الاستثناء إلى جميع المذكورين في الجملة الواحدة، عودة إلى جميع المذكورين في الجملتين.
فإن قلت: فما فائدة "الواو" في الجمل المعطوف بعضها على بعض.
قلت: ليس الفائدة فيه سوى تحسين الكلام، فإن قولك: قام زيد وباع عمرو داره، أحسن منه بدون "الواو".
سلمنا: أنها تصير كالجملة الواحدة، لكن في كل الأمور أو في بعضها والأول ممنوع، وهذا لأن المتكسر لفظًا ومعنى لا يكون واحدًا كذلك وبتقدير تسليمه فقياس الجمل على الجملة الواحدة فاسد، لأنه قياس للشيء على نفسه والثاني مسلم/ (250/ ب)، لكن لم يلزم منه الاشتراك فيما ذكرتم فإن اشتراك الشيئين في بعض الأمور لا يوجب اشتراكه في البعض الآخر، فإن بنيتم ذلك بطريق القياس فأين الجامع، وبتقدير صحته فإنه قياس في اللغة، وهو ممنوع.
وثالثها: أن الاستثناء صالح لأن يعود إلى كل واحدة من تلك الجمل وذلك مما لا نزاع فيه، ولهذا فإن الخصم يحمله عليه عند أدنى قرينة دالة عليه، ولو لم يكن صالحا له، لما حمل عليه ولو دل عليه ألف قرينة وليس البعض أولى من البعض، فوجب حمله على العود إلى الكل كاللفظ العام.
وجوابه: إن عنيتم بالصلاحية الصلاحية بطريق الحقيقة فممنوع، وهذا لأنه غير صالح لذلك بطريق الحقيقة عندنا، بل بطريق التجوز، ولهذا يحتاج الحمل على ذلك إلى القرينة.
وإن عنيتم الصلاحية بطريق التجوز فمسلم، لكن ذلك لا يوجب الحمل
عليه بدون القرينة، وأما القياس على اللفظ العام فغير صحيح، لأن صلاحيته لذلك بطريق الحقيقة.
سلمنا: أنه صالح له مطلقا، لكن لا نسلم أنه ليس البعض أولى من البعض، وهذا لأن الجملة الأخيرة أولى بذلك.
ورابعها: أن الحاجة قد تدعو إلى الاستثناء عن الجمل الكثيرة بأسرها، فلابد وأن يكون له طريق، وذلك إما بتكرره عقيب كل جملة، بأن يقول: من زنا فاجلده إلا من تاب، ومن سرق فاقطعه إلا من تاب، ومن قذف فرد شهادته إلا أن تاب، وهؤلاء كلهم فساق إلا من تاب، أو يذكره مرة واحدة عقيب كل الجمل، لكن الأول: قبيح وركيك باتفاق أهل اللغة فيبعد أن تتخذ العرب الذين هم أهل الفصاحة والبلاغة ذلك سبيلًا لما تدعو الحاجة إليه فيتعين الثاني، وإذا كان سبيلا إليه في هذه الصورة وجب أن لا يكون سبيلا إلا غيره بطريق الحقيقة دفعا للاشتراك ولا يعارض بمثله.
لأنا لا نسلم أنه لا طريق له سوى ذلك، وهذا لأن له طريقًا آخر وهو أن يفصل بين الجملة الأخيرة وبين ما قبلها بسكتة، ثم يأتي بها وبالاستثناء ولا يعطفها على ما قبلها ليكون مقتطعًا عما قبلها.
وجوابه: أنا نسلم إن الطريق المستحسن وهو الثاني، لكن مع البينة على ما يقتضي العود إلى الكل، وليس كل ما يعبر به عن معنى أن يكون هو حقيقة فيه.
وخامسها: لو قال: لفلان على خمسة وخمسة إلا سبعة صح ورجع إلى الخمستين، والأصل في الاستعمال الحقيقة/ (251/ أ)، وإذا كان حقيقة فيه لم يكن حقيقة في الاختصاص بالجملة الأخيرة دفعًا للاشتراك.
وجوابه: أنا لو سلمنا الحكم فيه، إذا هو ممنوع على رأي فإنما كن ذلك لأن الرجوع إلى الأخير وحده متعذر لفساده وكلام العاقل البالغ يصان عن ذلك فلا جرم رجع إلى الجملتين ودلالة اللفظ على معنى للقرينة لا يدل على أنه حقيقة فيه بل الدلالة المجردة عن القرينة دليل الحقيقة.
وسادسها: أن الرجال إذا قال: العلماء والشرفاء أكرموهم إلا الفاسق منهم، فإن الاستثناء يعود إلى الجميع وفاقًا، فكذا لو قال: أكرموا العلماء والشرفاء إلا الفاسق منهم، ضرورة أنه لا فرق بينهما في المعنى.
وجوابه: أن الاستثناء في الأول: إنما رجع إلى العلماء، والشرفاء، لأنه استثناء عن الضمير الراجع إليهما، فكان الاستثناء عن الجملة الواحدة.
وأما في الثاني فليس كذلك، بل هو استثناء عن الجملة الأخيرة عندنا.
وسابعها: أن القول بعود الاستثناء إلى جميع الجمل المذكورة تقتضي القطع بحصول مراد المتكلم منه، لأنه إذا كان مراده ذلك فظاهر، وإن كان مراده منه العود إلى البعض، فذلك أيضًا: حاصل في ضمن الكل.
وأما القول: باختصاصه بالجملة الأخيرة فلا يقتضي القطع بحصول مراده منه، لأن بتقدير أن يكون مراده منه العود إلى الكل لا يحصل مراده بالجمل على العود إلى الجملة الأخيرة، فكان الأول أولى.
لا يقال: أنا لا نسلم أنه يحتمل أن يكون مراده منه العود إلى الكل، حتى كون الحمل عليه محصلا لمراده على القطع، وهذا لأنه لا يجوز أن نعني باللفظ غير ظاهره عند عدم قرينة دالة عليه، والعود إلى الكل غير ظاهر عندنا، فلا يجوز أن يكون ذلك مراده مع أنه لا يدل عليه.
لأنا نقول: هذا بعد أن يثبت أنه ظاهر في شيء وغير ظاهر في شيء آخر، فأما قبل أن يثبت ذلك، وقبل النظر إلى دليل المذهبين، فلا شك أن احتمال إرادته قائم، وأنه محصل لغرضه قطعًا، إذ ذاك، فكان أولى.
وجوابه: منع كونه مقتضيًا للقطع بحصول مراده "وهذا لأنه يجوز أن يكون مراده منه هو العود إلى الجملة الأخيرة، مع إرادة عدم عوده إلى غيرها لا مع عدم إرادة عوده إلى غيرها، فإن القول بالعود على الكل معه يوجب القطع بحصول مراده".
فأما مع الأول/ (251/ ب) فيستحيل، إذا يمتنع وجود الكل عند فرض عدم جرئه.
سلمناه: لكن لا يعارض هذا صريح دلالة تلك الجمل على إرادة كل مدلولاتها، لأن الدلالة اللفظية راجحة على القرائن المعنوية، وبهذا خرج الجواب أيضًا: لو رجح القول بالعود على جميع الجمل، بأن يقال: إنه وإن لم يكن محصلا للغرض قطعًا، لكنه محصل له على التقديرين، والقول بأنه يختص بالجملة الخيرة ليس كذلك، فكان أولى.
احتجت الحنفية -رحمهم الله تعالى- بوجوه:
أحدها: أن القول بتعميم الرجوع يستلزم الترك بالدليل في آية القذف، وأمثالها، إذا لم يرجع الاستثناء إلى الجلد، فإنه لا يسقط بالتوبة وفاقا، والترك بالدليل خلاف الأصل، فما يسلتزمه يكون أيضًا كذلك.
وجوابه: بعد تسليم أنه لا يرجع إلى الجلد، إذ هو ممنوع على رأي لنا: المعارضة بمثله، وهو أن يقال: إنا لو جعلناه حقيقة في الاختصاص بالجملة الأخيرة، لزم الترك بالدليل في مثل قوله تعالى:{وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم، ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلا} .
فقوله: {إلا قليلا} ليس باستثناء عن الجملة الأخيرة، إذ لو كان استثناء عنها لصار تقدير الكلام إن أكثر من ليس عليه فضل الله ورحمته يتبع الشيطان، وإن قليلهم لا يتبعه، وهو فاسد فإن كل من لا يتبعه فإنه بفضله وعصمته وتوفيقه فهو إذًا استثناء، إما عن قوله:{أذاعوا به} ، أو عن قوله:{لعلمه الذين يستنبطونه} أو عنهما معًا، وعلى التقديرين يلزم الترك بالدليل، فما هو جوابكم عن هذا؟ فهو جوابنا عن ذلك.
وثانيها: أنه استعمل في العود إلى الجملة الأخيرة فقط، كما في قوله تعالى:{فتحرير رقبة "مؤمنة" ودية مسلمة إلى أهله إلا أن يصدقوا} ، فقوله تعالى:{إلا أن يصدقوا} راجع إلى الدية فقط، إذ الكفارة لا تسقط بتصدق الأهل بالإجماع، والأصل في الاستعمال الحقيقة، وإذا كان حقيقة فيه لا يكون حقيقة في غيره دفعا للاشتراك.
وجوابه: ما سبق في حجج القائلين بتعميم العود.
وثالثها: إن الاستئناف على خلاف الأصل، لأنه تخصيص خاص، والتخصيص خلاف الأصل، فهو أيضًا خلاف الأصل ترك العمل بهذا الأصل بالنسبة إلى/ (252/ أ) تعليقه إلى جملة واحدة، لضرورة حمل الكلام على الصحة فإنه لو لم يعلق بشيء مما تقدم عليه للغا، فوجب أن يبقى على الأصل بالنسبة إلى غيرها، لأنه قد اندفعت الضرورة بالتعليق إلى جملة واحدة.
بقي أن يقال: فلم يتعين لذلك الجملة الأخيرة؟.
قلنا: للقرب، فإن للقرب تأثيراً في كلامهم، في أن تعلق القريب من الشيء به، إذا كان محتاجًا إليه.
ويدل عليه أمور:
أحدها: أنهم اتفقوا على أن رجوع الضمير في مثل قول القائل: ضرب زيد عمرا وضربته، إلى عمرو أولى من رجوعه إلى زيد، ولا يحتمل ذلك لمناسبة معنوية، فإنه لو قدم المفعول وأخر الفاعل، لكان عود الضمير إلى زيد أولى من عوده إلى عمرو، وليس ذلك للقرب.
وثانيها: أنهم اتفقوا على أن ما يلي الفعل، يجب أن يكون هو الفاعل إذا كان هو والمفعول مقصورين، ولم يكن في الكلام قرينة تدل على أن أحدهما بالفاعلية أولى من الآخر، وليس ذلك إلا للقرب.
وثالثها: أنهم اتفقوا في مثل قولهم: أعطي زيد بكرا خالدا، على أن بكرا أولى بأن يكون مفعولا أو لا لأعطي، وليس ذلك إلا للقرب.
ورابعها: أنا لو لم نعلقها بالجملة الأخيرة، لزم خرق الإجماع، لأن كل من علقه بجملة واحدة [قال]: إن تلك الجملة هي الجملة الأخيرة، فالقول بأنه يتعلق بجملة واحدة غيرها خلاف الإجماع.
وجوابه: أنا لا نسلم أنه خلاف الأصل، قوله: لأنه تخصيص خاص.
قلنا: ممنوع على رأي من يقول: إن الاستثناء مع المستثنى منه كاللفظ الواحد الدال على ما بقى بعد الاستثناء.
سلمنا: ذلك لكن دليلكم منقوص بالاستثناء بمشيئة الله تعالى وبالشرط، فإن كل واحد منهما خلاف الأصل لرفع مقتضى الكلام الأول، بل هما أولى بذلك.
أما الأول: فلأنه يرفع مقتضى الكلام الأول بالكلية.
وأما الشرط: فلأنه قد يرفع ذلك لجواز أن لا يحصل الشرط أصلا بالنسبة إلى شيء من مدلولات الكلام الأول، مع أنهما يرجعان إلى كل ما يتقدمهما من الجمل ولا يدفع بالفرق المذكور، لأنه مر تزييفه.
سلمنا: سلامته عن النقيض أيضًا: "لكن" التخصيص قد يلتزم بأدنى قرينة، فلم لا يجوز أن يقال: إن جعل كونه حقيقة في العود إلى الكل، أولى من جعله كونه حقيقة في العود إلى الجمل الأخيرة لما عرفت ذلك غير مرة، مع دعو الحاجة إلى العود إلى الكل/ (252/ ب) قرينة دالة على أن التزامه أولى.
ورابعها: أن الاستثناء من الاستثناء مختص بالجملة الأخيرة، كقولك: لفلان على عشرة إلا خمسة إلا أربعة، فكذا في سائر الصور، دفعا للمجاز والاشتراك.
وجوابه: أن هذا هو الدليل الثاني بعينه [فإن الاختصاص بالجملة الأخيرة هاهنا أيضًا للقرينة، إذ العود إليهما ممتنع لما سبق] غير أن المثال مختلف.
فجوابه: "هو" ما سبق "والعود إلى الجملة الأولى فقط أيضا: ممتنع لما سبق فلم يبق" إلا الاختصاص بالجملة الأخيرة "ها هنا أيضاً
للقرينة، إذ العود إليها ممتنع لما سبق [والعود إلى الجملة الأولى فقط أيضا ممتنع لما سبق فلم يبق] الاختصاص بالجملة الأخيرة.
وخامسها: أن العامل في المستثنى هو الفعل المذكور في المستثنى منه أو تقديره بواسطة إلا: على ما هو مختار المحققين منهم ولو رجع الاستثناء المذكور عقيب الجمل الكثيرة المختلفة إليها بأسرها، لزم اجتماع العوامل الكثيرة المختلفة على معمول، لأن تقدير الاستثناء عقيب كل جملة خلاف الأصل، لأنه إضار لكن ذلك ممتنع.
أما أولًا: فلنصهم على ذلك.
وأما ثانيًا: فلامتناع اجتماع علتين مستقلتين على معلول واحد.
وجوابه: أنا لا نسلم إن العامل هو الفعل الذي في المستثنى منه أو تقديره، وها لأنه ليس متفقًا عليه.
قلنا: أن نمنعه بل العامل فيه عندنا هو الفعل المقدر وهو استثنى وإلا نابت منابه، وحينئذ لا يلزم ما ذكرتم من المحذور.
سلمنا: ذلك لكن لا نسلم امتناعه.
قوله: أولا: لأنهم نصوا عليه.
قلنا: كلهم أم بعضهم.
والأول: ممنوع، وهذا لأن الكسائي وغيره يجوز.
والثاني: مسلم لكنه ليس بحجة.
قوله ثانيًا: يلزم اجتماع علتين مستقلتين على معلول واحد.
قلنا: اجتماع علتين بمعنى مؤثرتين محال.
أما اجتماع علتين بمعنى "معرفتين"، فليس كذلك لجواز اجتماع معرفات كثيرة على شيء واحد، والعوامل الإعرابية معرفات عندنا.
سلمنا: ذلك لكنه منقوص بما إذا دل دليل على عودة إليها بأسرها، "فإنه لا خلاف في أنه يعود إليها بأسرها، مع أن جميع ما ذكرتم آت فيه إذا أمكن أن يقال: لو رجع الاستثناء المذكور عقيب تلك الجمل "الكثيرة" المختلفة إذ ذاك إليها بأسرها لزم اجتماع العوامل الكثيرة المختلفة على معمول واحد، لأن
تقدير الاستثناء عقيب كل جملة خلاف الأصل، تعين ما ذكرتم لكن ذلك محال بما ذكرتم من الوجهين، فما هو جوابكم فهو جوابنا.
فإن قلت: الإضمار وإن كان على خلاف الأصل، لكن يصار إليه عند قيام الدلالة عليه، و"لما دل الدليل" على عود الاستثناء إليها بأسرها"/ (253/ أ) وقام الدليل على امتناع اجتماع عاملين مختلفين على معمول واحد، مع ما ثبت إن العامل هو الفعل المذكور أو المقدر في المستنثى منه، تعين ذلك أن يكون بطريق الإضمار عقيب كل جملة، وهذا لا يتأتى لكم.
قلت: لا نسلم أنه لا يتأتى لنا: فإن ما ذكرنا من قياس الاستثناء بمشيئة الله تعالى والشرط، دليل على عود الاستثناء إلى كل الجمل لا يمكنكم الجواب عنه بما أجبنا عنه، لأنكم سلمتم الحكم فيها والمقدمتان الباقيتان لا تختلف فيكون الدليل دالا على الإضمار في المتنازع فيه أيضًا.
وخامسها: أن دخول الأفراد التي يخرجها الاستثناء عما قبل الجملة الأخيرة، على تقدير عوده إلى الكل تحته معلوم، وخروجها عنه بسببه مشكوك فيه، واليقين لا يزال بالشك.
وأجيب عنه: بمنع تيقن الدخول مع الاستثناء المتصل بآخر الكلام، وهذا لأنه راجع إلى الكل عندنا: ومع هذا كيف يمكن ادعاء تيقن الدخول علينا؟.
وفيه نظر، لأن المعنى من قولنا: اليقين لا يزال بالشك، أن اليقين الذي كان ثابتا قبل ما به الشك لا يزال بالشك، ولا مع ما به الشك لا يبقى اليقين قطعًا، ونظائره في الاستعمال كثيرة لا تخفى عليك، وحينئذ لا يصح المنع، لأن تيقن الدخول كان ثابتًا قبل الاستثناء وفاقًا.
سلمنا: سلامته عن هذا النقص، لكنه منقوص بالشرط والصفة، فما هو جوابكم عنه فهو جوابنا.
وسادسها: أن القول يعود إلى الاستثناء إلى كل الجمل يقتضي جواز الاستثناء المنفصل، وهذا لأن الفصل كما يحصل بالسكوت، فكذا يحصل بالشروع في كلام أجنبي، بل أولى كما في الأذان وغيره، ويدل عليه أيضا/ (253/ ب) اعتبار الطول في السكوت حيث هو فاصل وفصله مفسد كما في الأذان، وقراءة الفاتحة عندكم، بخلاف الشروع في كلام أجنبي، فإنه لا يعتبر فيه الطول، والجملة الأخيرة أجنبية عن الجملة الأولى لاسيما إذا كان الشروع فيها إضرابًا عما تقدمها بالكلية، لكن ذلك باطل بما ثبت من فساد الاستثناء المنفصل.
وأجيب: عنه: بأنه إنما يصح لو لم يكن الكلام كله كجملة واحدة، أما إذا كان كجملة واحدة [فلا. وهو ضعيف لأنه مبني على أن الواو العاطفة تصير الجملة الكثيرة بسبب القطع كجملة واحدة]، وهو باطل لما تقدم.
فالأولى أن يجاب بمنع أن الفصل يحصل بالشروع في كلام أجنبي فضلا
عن أن يكون ذلك أولى.
وأما القياس على الأذان وقراءة الفاتحة فالفرق بينهما ظاهر، لأن المحافظة على نظم الأذان واجبة لئلا يعد تلاعبا فيخل بمقصود الأذان، ولذلك قلنا: إن السكوت القصير لا يضر، والكلام اليسير يضر، لأن إخلال نظمه يحصل بالشروع ولو في كلام يسير دون السكوت القصير.
وأما قراءة الفاتحة فلأن الموالاة بين كلماتها واجبة وتخلل كلام يسير يخل بذلك، وليس الموالاة بين المستثنى والاستثناء واجبة، بدليل أنه يجوز الفصل بينهما بكلام طويل يتعلق بصفة المستثنى منه أو بشيء مما يتعلق به حتى يكون تخلل كلام أجنبي مانعا.
سلمنا: ذلك، لكن ما ذكرتم إنما يقضى في الجمل التي لا يتعلق بعضها ببعض، ولا يناسب بعضها بعضا، ونحن قد سلمنا: الحكم فيه، وإنما ادعينا التوقف فيما ورائها، وما ذكرتم لا يستقيم فيه، إذ الشروع في الجملة بعد الجملة في الجمل المتعلقة بعضها ببعض والمتناسبة لا تعد إعراضا وشروعا في الكلام الأجنبي.
وسابعها: أنه لو كان الاستثناء عائدا إلى جميع الجمل، لوجب في قول القائل: أنت طالق ثلاثا وثلاثا إلا أربعة، أن يقع اثنتان، لكنه ليس كذلك وفاقا، فلا يكون الاستثناء عائدا إلى الجمل كلها.
وجوابه: بعد تسليم الحكم إذ هو ممنوع على رأي لنا "إن ذلك لوجهين":
أحدهما "أنا" إنما يرد المستثنى بعينه إلى كل واحدة من الجمل بعينها "لأنا" نجمع مدلولات الجمل بأسرها ثم نرد الاستثناء إليها [وذلك متعذر هنا لأنه مستغرق لكل واحد من الثلاثة فيلزم إلغاء كلام العاقل البالغ بالكلية فلا جرم خصصنا بالثلاثة الأخيرة ليصح الأول] فيقع ثلاثا.
وثانيهما: أن المعتبر هو الثلاث الأول، وأما الثلاث الأخيرة فغير معتبرة لأن المرأة بانت بالأولى، فلم يبق محلا للطلاق فصار، كما لو قال لغير المدخول بها: أنت طالق وطالق، ولأنه استوى في كمال العدد فلم يبق له التطليق وحينئذ يعود الاستثناء إليها، فيكون مستغرقا فيبطل فتقع الثلاث الأول/ (254/ أ) وترك مقتضى الدليل لدليل ليس ببدع، ولئن قال ترك مقتضى الدليل إنما نشأ من مذهبكم فيكون باطلا. فجوابه قد سبق.
واحتج المرتضى على الاشتراك بوجوه:
أحدها: أنه يحسن أن يستفهم من المتكلم أنه أراد باستثناء عقيب الجمل الكثيرة العود إليها بأسرها أو إلى البعض، وحسن الاستفهام دليل الاشتراك.
وجوابه: ما سبق في العموم.
وثانيها: أنه استعمل فيهما معا، ولا نزاع في جوازه، والأصل في الاستعمال الحقيقة.
وجوابه: ما سبق غير مرة، وهو أن الاستعمال دليل الحقيقة، إذا لم يفض إلى الاشتراك، ونزيد هنا وهو يخصه: أنه استعمل في العود إلى الجملة الواحدة غير الأخيرة أيضا: فليكن حقيقة فيه تعين ما ذكرتم وأنت لا تقول به.
وثالثها: أن الحال، وظرفي الزمان، والمكان مشترك في العود إلى الكل وفي العود إلى الأخيرة نحو قول القائل: أكرمت العلماء، وأهنت الجهال، فإنما في داري ويوم الجمعة، فكذا في الاستثناء، والجامع أن كل واحد منها فضله يأتي بعد تمام الكلام.
وجوابه: منع كونها مشتركة، بل هي عائدة إلى الكل، أو إلى الأخيرة، أو إنا لا ندري ماذا حكمه إذا على حكمه في التفصيل الذي سبق في الاستثناء على اختلاف المذاهب.
سلمنا: ذلك لكن الكلام على الجامع مع سبق، سلمنا صحته، لكنه قياس في اللغة، وهو ممنوع.
الفصل الثاني
في التخصيص بالشرط