الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المسألة الثامنة
[التمسك بالعام قبل استقصاء طلب المخصص]
اختلفوا في جواز/ (238/ب) التمسك بالعام في إثبات الحكم قبل استقصاء طلب المخصص.
فذهب ابن سريج- رحمه الله تعالى- إلى أنه لا يجوز ما لم يستقص في طلب المخصص.
وذهب أبو بكر الصيرفي رحمه الله تعالى إلى أنه يجوز التمسك به ابتداء من غير طلب ما لم يظهر المخصص.
ثم قوله: هذا يحتمل أن يكون بناء على أنه يجب على المجتهد أن يظن عمومه إذ ذاك، إذ ليس من شرط جواز التمسك بالدليل أن يكون المتمسك قاطعا بمقتضى الدليل الذي تمسك به.
ويحتمل أن يكون بناء على أنه يجب عليه أن يقطع بعمومه إذ ذاك، لكن صرح إمام الحرمين- رحمه الله تعالى- وغيره بالاحتمال الثاني نقلا عنه.
ثم كلامه يدل على أن هذا إنما يليق بمذهب من لا يجوز تأخير البيان عن وقت الخطاب.
وأما من يجوز ذلك فلا، لأن القول بجواز ورود المخصص معه القول بوجوب الجزم باعتقاد العموم متناقض، لكن أبا بكر الصيرفي ليس منهم.
واستدل عليه: بأنه من الرادعين عليهم في كتبه، فألزمه التناقض المذكور.
لكن نقل ابن الصباغ وغيره، عن أبي بكر الصيرفي في أنه لا يجوز
تأخير البيان عن وقت الخطاب فيما له ظاهر، وقد أريد منه غير ظاهره.
"وأما قوله": أنه من الرادعين عليهم في كتبه، صحيح لكن في غير هذه المسألة، فعلى هذا يندفع عنه التناقض المذكور على رأي الإمام.
ولقائل أن يقول: لا نسلم أن الجزم باعتقاد العموم إنما يليق بمذهب من لا يجوز تأخير البيان على وقت الخطاب، بل التناقض المذكور لازم لهم أيضا إلا من لم يجوز منهم إسماع المكلف العام دون الخاص، فإن التناقض المذكور إنما يندفع عنهم لا غير، وهذا لأنهم "وإن" أوجبوا اتصال المخصص بالعام في الورود، لكنهم لم يوجبوا وصوله إلى من يصل إليه العام، فيحتمل أن يظهر المخصص للمكلف بعد سماع العام، وإن كانا عند الورود مقترنين ومع هذا الاحتمال والتجويز كيف يجب القطع عليه بالعموم.
واعلم أن هذا الذي حكينا عن الصيرفي: أنه يجوز التمسك بالعام قبل البحث عن المخصص، هو ما حكاه الإمام عنه، وهو اللائق بأصله.
إذ الجماعة متفقون على النقل عنه: بأنه يجب اعتقاد العموم جزما عند ورود العام، فمع الجزم بالعموم يستحيل أن لا يجوز التمسك به.
لكن نقل الشيخ الغزالي رحمه الله تعالى: أنه لا خلاف في أنه لا يجوز المبادرة إلى الحكم بالعموم قبل البحث عن أدلة التخصيص.
ولا يخفى أن هذا لا يستقيم أصلا على مذهب الصيرفي "في" هذا كله قبل حضور/ (239/أ) وقت العمل به.
أما إذا حضر وقته فلا شك في وجوب العمل به، لكن مع القطع بعدم المخصص، والجزم بإرادة العموم، أم لا يشترط فيه ذلك؟. فيه خلاف: فذهب القاضي منا وجماعة من الأصوليين إلى الاحتمال الأول: وزعموا أن معرفة عدم المخصص بطريق القطع ممكن، وذلك بأن تكون المسألة التي تمسك
المجتهد فيها بالعموم مما كثر فيها الخلاف، وطال فيها النزاع فيما بين العلماء ولم يطلع أحد منهم على ما يقتضي تخصيصه، مع كثرة بحسم وشدة فحصهم عن مواقعة واستقصاء طلبهم، فهذا يفيد القطع بعدم المخصص، إذ لو كان هناك مخصص لاستحال أن يكون لا يعرف عادة، كالطالب لمتاع في البيت إذا فتش عنه في جميع البيت ولم يجده، يقطع بعدمه فيه.
واحتجوا عليه أيضا: بأنه لو كان مخصوصا، لنصب الله عليه دليلا ويبلغه إلى المكلفين عند حضور وقت العمل به إزالة للتلبيس والخطأ في العمل.
وذهب ابن سريج، وإمام الحرمين، والغزالي، وأكثر الأصوليين إلى الاحتمال الثاني: وهو الحق.
قال إمام الحرمين: إذا حضر وقت العمل بالعام، فقد يقطع المكلف بمقتضى العموم، لقرائن تتوفر عنده فيصير العام كالنص، وقد لا يقطع بذلك لعدم القرائن التي تفيد القطع، بل يغلب على ظنه العموم فيعمل به بناء على غلبة [ظنه]، كما في خبر الواحد والقياس.
واعلم: أن الأولين: إن أرادوا بقولهم: إنه يجب على المكلف أن يقطع بعدم المخصص، وأن يجزم بإرادة العموم أنه يقطع بذلك بالنسبة إلى ما في نفس الأمر. فهذا باطل، وما ذكروه من الطريق في إفادة القطع فغير مفيد.
أما أولا: فلأنه مبني على أن عدم الوجدان بعد البحث والفحص الشديد يدل على عدم الوجود. وهو ضعيف لاحتمال أن يكون موجودا ولم يطلع أحد منهم [عليه].
والقياس على طلب المتاع في البيت غير صحيح لو سلم الحكم فيه، لظهور الفرق، وهو أن الذي طلب فيه المتاع منحصر مضبوط، بخلاف ما طلب فيه دليل الخصوص.
وإما ثانيا: فلأنه مبني على ما لو وجد الفعل، وهو أيضا غير واجب لاحتمال أن يكون واحد منهم قد وجد ذلك ولم ينقله، ولو تمسك في ذلك بأن علمه وعدالته يمنع من ذلك، فمن المعلوم أن هذا لا يفيد القطع، بل يفيد الظن الغالب.
وأما ثالثا: فلأنه من شرط كل مسألة استدل عليها بالعام أن تكون صفته ما ذكروه ليكون/ (239/ب) ذلك طريقا عاما، بل لو صح فإنما يصح
بالنسبة إلى المسألة التي صفتها ما ذكروه وأما ما ذكروه من الدلالة عليه ثانيًا، فمن الظاهر أنه لا يستقيم على مذهبنا، فلا يصح به الاستدلال علينا، وإنما يصح الاستدلال على من يقول بالتحسين [والتقبيح]"فيه الأصح"، وإن أرادوا بذلك أنه يقطع بعدم المخصص وأن يجزم بإرادة العموم منه بالنسبة على نفسه، فهذا ينبغي أن يبنى على أن المصيب واحد أم كل مجتهد مصيب.
فإن قيل بالأول: فالقطع بعدم المخصص وبجزم إرادة العموم منه أيضًا باطل لما تقدم.
وإن قيل بالثاني: فصحيح إذ لو لم يقطع بعدم المخصص في حق نفسه لما كان قاطعًا بإصابته، بل جاز أن يكون مخطئًا.
واحتج لأبي بكر الصيرفي بوجوه:
أحدها: أن ترك التمسك بالعام لاحتمال وجود المخصص [يستلزم ترجيح المرجوح على الراجح، فإن احتمال وجود المخصص] مرجوح بالنسبة إلى اللفظ العام الدال على ثبوت الحكم، إذ هو معلوم قطعًا، وترجيح المرجوح على الراجح ممتنع عقلًا.
وثانيها: أن الأصل عدم المخصص، وذلك يوجب ظن عدم التخصيص، وهو يكفي في ظن إثبات الحكم.
وثالثها: أنه لو لم يجز التمسك بالعام إلا بعد طلب المخصص، لما جاز التمسك باللفظ على حقيقته إلا بعد الطلب أنه هل وجد ما يقتضي صرفه عن المجاز أما لا؟
بجامع تعليل احتمال الخطأ، لكن لا يجب ذلك، لأنه لا يجب ذلك عرفا، بليل أنهم يحملون الألفاظ على حقائقها من غير بحث عن أنه هل وجد ما يقتضي صرفها عنها أم لا؟ وإذا لم يجب ذلك عرفا فكذا شرعا للحديث المشهور.
ولقائل أن يقول: احتمال تطرق التخصيص إلى العام أكثر من احتمال تطرق التجوز إلى اللفظ، بدليل أنه ما من عام إلا وقد خص عنه البعض إلا قوله تعالى:{والله بكل شي عليم} وليس كل لفظ مستعمل تطرق إليه التجوز بمعنى أنه مستعمل في مجازه، فلا يلزم من وجوب طلب المخصص ثمة لدفع الاحتراز عن الخطأ المحتمل الغالب، وجوب طلب ما يصرف اللفظ عن حقيقته مع أنه ليس كذلك.
واحتج ابن سريج: أن اللفظ العام بتقدير وجود المخصص لا يكون حجة في صورة التخصيص، فتكون حجته مشروطة بعدم المخصص، وقبل الطلب وجوده وعدمه مشكوك فيه، والشك في الشرط يوجب الشك في المشروط، فحجته بالنسبة إلى كل فرد مشكوكة فيها، وهذا القدر كاف في أن لا يكون حجة كيف والأصل أن لا يكون حجة.
وأجيب/ (240/ أ): بمنع أن وجود المخصص وعدمه مشكوك فيه، بل عدمه عندنا أغلب فيكون ظن حجته أغلب، فلو أجاب عن هذا المنع بما أن الغالب وجود المخصص بالاستقراء ولما تقدم من الأثر، فإن لم يكن هذا فلا أقل من الشك، فنحن نعارض الغالب بالأصل، إذا الأصل عدم المخصص، ولئن عارض هذا الأصل بما أن الأصل عدم الحجية كما تقدم، فنحن نعارض ذلك بأن الأصل عدم التعارض، وأن الأصل عدم التجوز.
فرع:
إذا قلنا: يجب طلب المخصص، فلا يجب ذلك إلى أن يقطع بعدمه، لما تقدم أن القطع بعدمه متعذر، بل إلى أن يغلب على ظنه عدمه، وحد البحث في ذلك أن يبلغه إلى حيث لو بحث عنه ثانيًا وثالثا لما أجداه نفعا.
واعلم: أن أدلة التخصيص تنقسم إلى: متصل، ومنفصل، والمتصل ينقسم إلى: الاستثناء، والشرط، والتقييد بالغاية، والصفة، فلنعقد في كل واحد منها فصلا.
الفصل الأول
في الاستثناء