الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وأما الثاني: فإنا لا نسلم أن الضمير في قوله: لإخراج بعضه راجع إلى الكلام، بل إلى مدلول الكلام، ولفظ الكلام قد دل عليه.
ولئن سلم: أنه راجع إليه، لكن المراد مدلوله، وإطلاق اسم الدليل وإرادة المدلول مجاز مشهور، واستعمال مثله في الحدود غير قبيح.
وأما حروف الاستثناء وأحكامه في الإعراب فمذكورة في كتب النحو لا حاجة لنا إلى ذكرها هاهنا، إذ ليست من هذا الفن في شيء، وإن كان بعضهم: ذكرها هاهنا محبة منه للعربية.
المسألة الأولى
[اتصال الاستثناء بالمستثنى منه]
أطبق الجماهير على وجوب اتصال الاستثناء بالمستثنى منه بحسب العادة، فعلى هذا طول الكلام والفصل بينهما بالتنفس والسعال لا يقدح فيه، لأنه يعد متصلا بحسب العادة.
وروى عن ابن عباس رضي الله عنه أنه جوز الاستثناء المنفصل وإلى مدة مديدة.
............................................................................
واستبعد المحققون هذا النقل منه.
وقالوا: تكذيب الناقل أو تخطيئه، أهون من نسبة هذا النقل عن ابن عباس وأمثاله، فإن صح هذا النقل منه فمحمول/ (241/ أ) على ما إذا نوى الاستثناء متصلا بالمستثنى منه، لكن لم يظهره في ذلك الوقت، ثم أظهر نيته بعد ذلك فإنه يدين فيما بينه وبين الله تعالى.
وإليه ذهب بعض أصحاب مالك رضي الله عنه.
ثم إن كان مذهبه أن كل ما يدين فيه العبد فيما بينه وبين الله تعالى يقبل أيضًا: في الظاهر كان هذا الاستثناء مقبولا أيضا في الظاهر وإلا فلا.
ونقل عن عطاء بن "أبي" الرباح: أنه يجوز الاستثناء المنفصل ما دام في
المجلس.
وقال قوم: يجوز في كتاب [الله] خاصة لزعمهم أن كلام الله تعالى في الأزل واحد، والتقدم والتأخر إنما هو في الوصول إلى المخاطبين، فالاستثناء وإن تأخر عن المستثنى منه في الوصول إلينا، لكنه غير متأخر عنه حيث حصل التعدد، وأما ما قبله فقد كان واحدا.
وضعفه لا يخفى على ذي لب، فلا حاجة إلى تضعيفه.
واحتج الجماهير على بطلان الاستثناء المنفصل بوجوه:
أحدها: وهو المعول عليه: أن الإجماع منعقد على أن الطلاق والعتاق إذا نفذا لا مرد لهما، ولهذا لو كانا بعوضين فإنهما لا يفسدان بفسادهما، والقول بصحة الاستثناء المنفصل يرفع هذا الإجماع، لأنهما يريدان بعد النفوذ بالاستثناء بعده على تقدير صحته، وكذلك يلزم أن لا يستقر شيء من العقود والأقارير لتوقع الاستثناء بعدها، فيلزم أن لا يجوز الانتفاع للمشتري بالمبيع، كما في زمن الخيار لعدم استقرار الملك، وكل ذلك خلاف الإجماع، وكذلك لا يحصل الثقة باليمين والوعد والوعيد، وفي ذلك من الفساد ما فيه.
وثانيها: أن الرجل إذا قال لوكيله مثلاً: بع داري ممن شئت، ثم قال بعد مدة: إلا أن زيد، فإن أهل اللسان لا يعدون هذا الاستثناء عائدًا إلى الكلام الأول، حتى لو باع الوكيل الدار من زيد لا يلومه أحد على المخالفة، ولو لامه الموكل على ذلك لاستهجن واستقبح لومه.
وثالثها: القياس على تأخير المبتدأ والشرط، فإنه لا يجوز تأخيرهما عن المبتدأ وعما هو شرط له وفاقا، فكذا هذا، والجامع أن كل واحد منهما لا يستقل بنفسه دون الانضمام إلى ما قبله، بل الاستثناء أولى بعدم الاعتبار لما فيه من إبطال معنى الكلام الأول حتما، بخلاف خبر المبتدأ فإنه ليس على تقدير الضم إلى الأول يبطل معناه: بل يصلحه، وبخلاف الشرط فإنه ليس يبطل مدلول ما سبق حتما، بل إن لم يوجد ذلك الشرط.
ورابعها: أن مقتضى الدليل أن لا يصح الاستثناء/ (241/ ب) أصلا، لأنه رفع بعد الإثبات وإنكار بعد الإقرار، وترك العمل به في المتصل لمسيس
الحاجة، فإن الإنسان قد يخبر عن شيء ويذهل "عن" جزئية "ثم" يتذكر أن ذلك الجزئي على خلاف ذلك الشيء في ذلك الحكم فيستثنيه، وهذه الحاجة مفقودة بعد طول المدة، فوجب أن يبقى على الأصل.
وخامسها: أنه عليه السلام أرشد الصحابي الذي كان يخدع في البيوع، وقال له: قل "لا خلا به واشترط الخيار لنفسك ثلاث أيام" ولو كان الاستثناء المنفصل صحيحًا لأرشد إليه، إذ هو أصلح من الخيار لاستبداده به بدون رضا البائع ولطول مدته، وحيث "لم يرشد إليه" دل على أنه
لا يصح، وهذا التقرير بعينه آت أيضًا: في قوله عليه السلام: "من حلف على يمين فرأى غيره خيرا منه فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه" أو " [فليكفر عن يمينه] وليأت الذي هو خير" على اختلاف الروايتين.
واحتجوا بوجوه:
أحدها: ما روى أنه عليه السلام قال: "والله لأغزون قريشا"، ثم سكت وقال بعده "إن شاء الله تعالى"، ولو لم يصح الاستثناء بعد السكوت لما فعله لكونه عبثا، ولأنه يوهم صحته وإيهام الباطل باطل.
وجوابه: أنه لم يرد في الروايات سوى أنه سكت، فلعل ذلك السكوت كان لعذر من بلع ريق أو إزاحة بلغم أو شيء من الحلق أو انتظار كلمة من سامع هذه اليمين، وإذا كان هذا محتملا وجب الحمل عليه جمعا بين الدليلين.
وثانيهما: ما روى أنه عليه السلام سئل عن عدة أصحاب الكهف، وعن مدة لبثهم، فقال عليه السلام:"أخبركم غدا" ولم يقل إن شاء الله تعالى: فتأخر الوحي عنه أياما كثيرة على اختلاف في عددها على ما هو
مشهور في التفاسير فنزل قوله تعالى: {ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله واذكر ربك إذا نسيت} ، فقال عليه السلام:"إن شاء الله تعالى" على أنه استثناء عن خبره الذي تقدم، وهو قوله:"أخبركم إذا" ولو لم يكن الاستثناء المنفصل صحيحا لما فعله لما سبق.
وجوابه: أنه لا نسلم أنه عائد إلى ما تقدم من خبره، بل هو عائد إما إلى قوله تعالى:{ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله} وهو الأظهر، أو إلى قوله:{واذكر ربك إذا نسيت} .
فكأنه قال على التقدير الأول: لا أقول لشيء إني فاعل ذلك غدا، إلا أن أقول معه إن شاء الله تعالى، فيكون الاستثناء الأول متعلقا بقوله:{إني فاعل ذلك غدا} ، والثاني متعلقا بقوله/
(242/ أ): إلا أن أقول معه إن شاء الله تعالى.
وأما على التقدير الثاني: يصير تقديره أذكر ربي إذا نسيت إن شاء الله تعالى، وهذا كما إذا قال الرجل لغيره افعل كذا فقال: إن شاء الله تعالى، أي أفعل ذلك إن شاء الله تعالى.
وثالثها: أن الاستثناء رافع لحكم اليمين فجاز تأخيره كالكفارة.
وجوابه: أن الجامع وصف طردي، وهو غير معتبر.
ولئن سلم اعتباره: لكن الفرق بين الرفعين ظاهر، وذلك لأن الاستثناء رافع لحكم اليمين يرفع أصل اليمين، والكفارة رافعة لحكمها في هتك حرمة اسم الله تعالى بسبب الحنث، فلم يكن أحد الرافعين مثل الآخر حتى يصلح أن يكون جامعاً بينهما.
سلمنا: ذلك لكن النزاع في صحة الاستثناء المنفصل من جهة اللغة لا من جهة الشرع، فلم يصح قياسه على الحكم الشرعي.
ورابعها: القياس على التخصيص والنسخ.
وجوابه: المطالبة بالجامع.
ولئن سلم: صحته لكنه قياس في اللغة، وهو ممنوع.
ولئن سلم: جوازه لكنه منقوض بخبر المبتدأ والشرط.
ولئن سلم: سلامته عن النقض، لكن الفرض بينهما وبين الاستثناء ظاهرة، أما بينه وبين التخصيص فهو: إن التخصيص يجوز بدليل العقل والقياس وقرائن الأحوال والاستثناء لا يجوز بشيء من ذلك، والافتراق في الحكم ينبئ عن الافتراق في الحكمة.
وأيضا: فإن الاستثناء مع المستثنى منه كاللفظ الواحد، والتخصيص بالمنفصل ليس كذلك وفاقا، وأما بينه وبين النسخ، فهو: أن النسخ يجب تراخيه، والاستثناء لا يجب فيه ذلك.
وأيضا: الاستثناء يجب أن يبقى من حكم المستثنى منه شيئا، لأن الاستثناء المستغرق لا يصح وفاقا، والنسخ لا يجب فيه ذلك.
وأيضا: النسخ يصح فيما علم ثبوته، ولو بدليل غير اللفظ، بخلاف الاستثناء فإنه لا يصح إلا من الدليل اللفظي، وكل ذلك يدل على افتراقهما في الحكمة.