الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المسألة الخامسة
في أقل الجمع
قد ذكرنا أن الجمع عند الأكثرين، محمول على أقل الجمع، فيحتاج أن تعرف أن أقل الجمع ماذا؟
فنقول: ذهب عثمان رضي الله عنه، وابن عباس، وابن مسعود،
والشافعي، وأصحابه، وأبو حنيفة، وأصحابه، وأكثر المتكلمين رحمهم الله إلى أنه ثلاثة.
وذهب زيد بن ثابت. ومالك.
وداود الظاهري، والقاضي أبو بكر، والأستاذ أبو إسحاق، وبعض أصحابنا كالغزالي، وغيره، إلى أنه اثنان، ونسب إلى الشيخ أبي الحسن الأشعري أيضا.
وقيل لم يتحقق النقل عن زيد بن ثابت رضي الله عنه، بأن الاثنين أقل الجمع بصراحته، وإنما نسب ذلك إليه، لأنه يرى أن الاثنين من الأخوة والأخوات يردان الأم من الثلث إلى السدس كالثلاثة منهم مع ورود النص بصيغة الشرط، وهو قوله تعالى:{فإن كان له إخوة فلأمه السدس} .
ومحل الخلاف إنما هو في اللفظ الذي هو مسمى بالجمع نحو "الرجال" و"المسلمين" لا في لفظ الجمع الذي هو مركب من "الجيم" و"الميم" و"العين".
احتج الأولون بوجوه:
أحدها: ما روي عن ابن عباس أنه قال لعثمان بن عفان- رضي الله عنهم حين رد الأم في الثلث إلى السدس بأخوين، استدلالا بقوله تعالى {فإن كان له أخوة فلأمه السدس} ليس الأخوان أخوة في لسان قومك، فقال عثمان رضي الله عنه: "لا استطيع أن أنقض أمرا كان قبلي
وتوارثه الناس".
ولولا أن ذلك بمقتضى اللغة لما احتج به/ (215/ب) ابن عباس على عثمان ولما أقره على ذلك لأنهما من أرباب اللسان، بل كان يجب عليه
أن يرد عليه كيلا يقره على الباطل ويوهم لغيره به.
وعورض هذا: بما روي عن زيد بن ثابت رضي الله عنه أنه قال: (الأخوان أخوه).
ويمكن أن يرجح الأول للكثرة ولعظم مرتبتهما وعلمهما.
وثانيها: أن صيغة الجمع ينعت بالثلاثة فما فوقها فيقال: رجال ثلاثة وأربعة، وبالعكس، فيقال: ثلاثة رجال وأربعة، ولا يجوز أن ينعت الاثنين بالرجال، ولا الرجال بالاثنين، فلا يجوز أن يقال: اثنان رجال ولا رجال اثنان فدل على أن الرجال ليست باثنين، ولا: الاثنين ليسا برجال.
واعترض عليه: بأنه لا يدل على أن الاثنين ليسا بجمع، لاحتمال أن تكون "الثلاثة" نعتا لجمع خاص، وهو الرجال، و"الاثنان" نعتا لجمع خاص
وهو الرجلان.
وهو ضعيف، لأن الثلاثة والاثنين على تقدير أن يكون جمعا نعت للرجال، والرجال غير مختص بالثلاثة عند الخصم، بل يتناول الاثنين- أيضا- كتناوله الثلاثة والأربعة والخمسة، إذ هو باعتبار الجمع فوجب أن لا يختص نعته بها أيضا جريا للإتباع، وحملا على سائر المراتب.
وثالثها: أن أهل اللغة فصلوا بين "التثنية" وبين "الجمع" فوضعوا الرجلين للتثنية، ورجالا للجمع، كما فصلوا بين الواحد والجمع فقالوا: في الواحد "رجل" وفي الجمع "رجال" فكما فرقنا بينهما، وجب أن يفرق بين التثنية والجمع.
وهو ضعيف، لأن الخصم يقول: بمقتضاه، فإنه يفرق بينهما فرق بما بين العام والخاص، "نعم" لو قيل وجب أن يفرق بينهما بالتباين، كما فرق بينهما بالتباين كان أولى، لتحصيل المقصود، لكنه غير لازم إذ مقتضى الفصل بين الصيغتين، الفصل بين مدلولهما ولو ببعض الوجوه، لا الفصل بينهما من كل الوجوه.
ورابعها: أنهم فصلوا بين الاثنين، وبين ضمير الجمع، فقالوا: في الاثنين: "فعلا وافعلا"، وقالوا: في الجمع "فعلوا وافعلوا" فإطلاق ضمير الجمع على التثنية رفع لهذا الفصل.
وهو أيضا ضعيف، لأنه لا يرفع الفصل على ذلك التقدير أيضا، لأنه حاصل بأن لا يطلق ضمير التثنية على ضمير الجمع.
وخامسها: أنه يصح سلب الرجال عن الاثنين، إذ يصح أن يقال:"ما رأيت رجالا، وإنما رأيت رجلين" وقد عرفت أن صحة السلب دليل التجوز.
واعترض عليه: بمنع صحة السلب مطلقا بل إنما يصح ذلك لو أريد بالرجال/ (216/أ) ما زاد على الاثنين.
فإن قلت: المعارف بلغة العرب يجد من نفسه صحته، وإن لم يعلم إرادة المتكلم.
قلت: لو سلم لكم فإنما كان كذلك، لأن سلب الرجال عن الاثنين وإثباته، قرينة دالة على أنه أراد من الرجال الزايد على الاثنين، ولا يخفى
عليك دفعه مما سبق.
وسادسها: أنه لو نذر أن يتصدق بدراهم، أو وصى بها، أو أقر بها فإنه يلزمه الثلاثة.
وهو ضعيف جدا، فإن ما ذكروه من المسائل من تفاريع المسألة، والخلاف فيه كما في الأصل، فكيف يتمسك به؟
واعلم أن "من" تفاريع المسألة أيضا: جواز تخصيص الجمع العام إلى الاثنين، فمن قال: إنه أقل الجمع جوز تخصيصه إليه كالثلاثة، ومن لم يقل بذلك لم يجوز ذلك، كما لم يجوز تخصيصه إلى الواحد.
واحتج الآخرون بوجوه:
أحدها: قوله تعالى: {وكنا لحكمهم شاهدين} وأراد داود وسليمان عليهما السلام.
وجوابه: منعه، بل الضمير عندنا: راجع إلى الأنبياء، وذكرها كالمشعر لذكرهم، أو إليهما، أو إلى المحكوم عليه، وله، لأن لفظ الحكم يدل عليه
إذ الحكم لا يتم إلا بمحكوم عليه، وله، والحاكم.
وثانيها: قوله تعالى: {عسى الله أن يأتيني بهم جميعا} وأراد به يوسف وأخوه.
وجوابه منع إرادتهما فقط، بل أرادهما مع أخيهما الثالث، الذي قال:{لن أبرح الأرض حتى يأذن لي أبي} .
وثالثها: قوله تعالى: {إنا معكم مستمعون} أراد "به" موسى وهارون.
وجوابه: أنه أرادهما وفرعون وقومه، إذ البعث يدل على المبعوث إليه.
ورابعها: قوله تعالى:} وهل أتاك نبأ الخصم إذ تسوروا المحراب إذ دخلوا على داود ففزع منهم قالوا: لا تخف خصمان بغى بعضنا على بعض} قوله تعالى: {هذان خصمان اختصموا في ربهم} .
وجوابه: إن الخصم يطلق على الواحد والجمع، كالضيف، يقال هذا خصمي، وهؤلاء خصمي، كما يقال: هذا ضيفي وهؤلاء ضيفي.
وليس في الآية ما يدل "على" أن كل واحد من الخصمين كان واحدا.
ولقائل أن يقول: إن ظاهر قوله تعالى: {إن هذا أخي له تسع
وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة} يدل على أن كل واحد من الخصمين كان واحدا ويعضده روايات أكثر المفسرين أيضا.
وخامسها: قوله تعالى: {وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا} .
وجوابه: أن الطائفة من المؤمنين قد تكون جمعًا، وليس في الآية ما يدل/ (216/ب) على أن الطائفة كانت واحدة أو اثنين، بل سياقها يدل على أنها جمع.
وسادسها: قوله تعالى: {وإن كان له إخوة فلأمه السدس} .
والمراد: الأخوان، لأنهما يردان الأم من الثلث إلى السدس أيضًا: والأصل عدم دليل آخر لاسيما حيث يلزم منه مخالفة دليل آخر كما هو هاهنا، لأن تقدير وجوده يلزم مخالفة مفهوم الشرط.
وجوابه: منع أن المراد منه الأخوان، بل المراد منه الثلاثة، وإنما ورثناها السدس مع الأخوين، بدليل الإجماع، كما وقعت الإشارة إليه في حديث عثمان رضي الله عنه، ولا يعد في مخالفة المنطوق للإجماع فضلا عن المفهوم.
فإن قلت: لا نزاع في حصول الإجماع، لكن لا بد للإجماع من مأخذ.
فنقول: الأصل عدم ذلك المأخذ لاسيما عندما يكون مستلزما لمخالفة دليل آخر، والآية صالحة لأن تكون مأخذا له فتضاف إليه، دفعا للمحذور المذكور.
قلت: لما حصل الإجماع على ذلك "و" علمنا أن الإجماع لا يحصل إلا بمأخذ، وإلا لكان باطلا، علمنا أنه لابد له من مأخذ.
بقي أن يقال: ذلك المأخذ هو الآية لما ذكروه.
فنقول: إن ادعيتم أن الآية صالحة له بطريق التجوز فمسلم ولا يضرنا.
وإن ادعيتم أنها صالحة له بطريق الحقيقة فممنوع.
وكيف لا وما ذكرنا من الدليل ينفيه؟ والإضافة إلى الشيء بعد صلاحيته له وحينئذ يلزم أن للإجماع ما أخذ آخر قطعا.
وسابعها: قوله تعالى: {إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما} .
ووجه التمسك بالآية ظاهر، فإنها خطاب مع الاثنين، ومعلوم أنه ليس للاثنين سوى قلبين، وقد جمع في الآية فعلم أن أقل الجمع اثنان.
وجوابه من وجهين:
أحدهما: أن القلب قد يطلق على الميل الحاصل في القلب إلى الشيء، إما تجوزا تسمية للحال باسم المحل، أو حقيقة نظر إلى الاشتقاق، فإن العضو المخصوص إنما يسمى به لتقلبه والميول في القلب متقلبة فجاز أن يسمي قلوبا، ومنه يقال للمنافق:"ذو قلبين لميلانه إلى الجنبين" ويقال لمن
لا يميل إلا إلى الشيء الواحد: "ذو قلب واحد" وإذا كان كذلك جاز أن يكون المراد من القلوب هي الميول المختلفة الحاصلة في قلبيهما، وإذا جاز ذلك وجب حمله عليه لوجهين:
أحدهما: أنه تعالى وصف القلوب بالعضو/ (217/أ)، والعضو المخصوص لا يوصف به لأنه لا يميل في ذاته.
وثانيهما: للجمع بين ما ذكرنا ومن الدليل وبين الآية.
وثانيهما: أنه إنما جمع استقلالا للجمع بين تثنيتين، ولهذا كان التعبير عن عضوين من جسدين في اللغة الفصيحة بلفظ الجمع.
وثامنها: وهو من جهة السنة قوله عليه السلام: "الاثنان فما فوقهما جماعة".
وجوابه: أنه محمول على بيان حكم الشرع، وهو إدراك فضيلة الجماعة في الصلاة، لا على بيان حكم اللغة إذ الغالب منه عليه السلام تعريف الأحكام الشرعية.
وقيل إنه عليه السلام: "نهى عن السفر إلا في جماعة" فبين أن الاثنين فما فوقها جماعة، لئلا يظن دخوله تحت النهي.
وتاسعها: وهو من جهة الاشتقاق، أن في الاثنين معنى الاجتماع حاصل كما في الثلاثة وما زاد عليها وكان إطلاق اسم الجماعة على الاثنين حقيقة.
وجوابه: أنا لا نسلم أنا ما منه اشتقاق اسم الشيء إذا كان حاصلا في غيره يجوز إطلاق ذلك الاسم عليه فضلا عن أن يكون حقيقة فيه، وسنده لا يخفي عليك مما سبق في اللغات.
سلمناه: لكن ليس النزاع في اسم الجمع والجماعة، وما فيه حرف الجيم، والميم والعين بل عن لفظ "الرجال" و"المسلمين" فأين أحدهما عن الآخر وهذا يصلح أن يكون جوابا عن الخبر، وإن لم أر لأحد منهم تعرض له.
وعاشرها: وهو التمسك من جهة الإطلاق أن الرجل قد يقول إذا رأى أن امرأته تبرجت لرجل بعد رجل: أتتبرجين للرجال؟ وكذلك الخائف إذا أقبل عليه رجلان قد يقول: أقبل الرجال، والأصل في الإطلاق الحقيقة.
وجواب الأول: أنا لا نسلم أنه يطلق الرجال على الرجلين، بل على مسمى الرجال وهو الثلاثة وما زاد عليها، وإن لم يكن قد شاهد ذلك لظنه أنها ما تبرجت لرجل بعد رجل وإلا والتبرج للرجال دأبها، ولهذا قد يقوله:
وإن رأى أنها تبرجت لواحد.
سلمناه: لكنه مجاز للقرينة لظنه أن المحذور الواقع من التبرج للواحد وللاثنين كالمحذور الواقع من التبرج للثلاثة وما زاد عليها.
وعن الثاني: أن ذلك على جهة التجوز لقرينة الحث على الاجتماع والتناصر، ولهذا قد يقوله: وإن كان المقبل واحدا لكي يحث أنصاره على نصره.