الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المقدّمة
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً)
الطبعة السادسة 1422 هـ- 2002 م
(وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً، وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ)«1» .
(القرآن الكريم)
فكّرت في وضع هذا الكتاب، بعد أن قرأت كثيرا من المؤلفات العسكرية الباحثة في تاريخ حروب القادة العظام، الذين لمعت أسماؤهم قديما وحديثا.
لقد أبرزت تلك المؤلفات بكل وصوح أعمال أولئك القادة، ووصفت معاركهم بتسلسل منطقي سهل، ووضّحت تلك المعارك بالخرائط والمخطّطات والأشكال، وأظهرت الدروس المفيدة منها، فأضفت بذلك كلّه الخلود على حياة أولئك الرجال.
وعدت لأقارن بين هذا الأسلوب في البحث، وبين أسلوب المؤرخين عندنا
(1) - الآية الكريمة من سورة النور 24: 55.
في الحديث عن معارك قادة المسلمين، فعرفت كيف أضاء الأسلوب الأول معالم الطريق للباحثين، وحقق قيمة جديدة لأعمال بعض القادة، بينما طمس الأسلوب الثاني أعمالا خالدة تستحق أعظم التقدير والإعجاب.
لقد قرأت أكثر كتب السيرة في تدبر وإمعان، وحاولت أن أستشف منها كل نواحي العظمة التي تتسم بها شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكني وجدت أن عبقريته العسكرية التي لا تتطاول إليها أية عبقرية أخرى لأي قائد في القديم أو الحديث تكاد تكون متوارية محجوبة لم يتح لها من يكشف أسرارها ويجلي عظمتها بأسلوب حديث يجنح الى الكشف والتحليل وإبراز المواهب النادرة خاصة من عسكري يستطيع أن يلم بنواحي العظمة العسكرية التي تكمن فيها ويظهرها جلية للعيان، ومن هنا بقي الجانب العسكري من حياة الرسول صلى الله عليه وسلم يشوبه الغموض حتى اليوم.
لقد تحدّث مؤرخو السيرة عن معارك الرسول صلى الله عليه وسلم بإسهاب أو باقتضاب، ومع ذلك يخرج الباحث من دراسة كل معركة دون أن يلمّ بكل تفاصيلها ووقائعها ودوافعها، ويعود ليسأل نفسه: ما هو موقف الطرفين قبل المعركة؟
كيف جرى القتال؟ ما هي الدروس التي نستفيدها من المعركة؟ إلى غير ذلك من الأسئلة الحيوية الملحّة.
إنّ وصف معارك القواد المسلمين وعلى رأسهم الرسول صلى الله عليه وسلم بهذا الأسلوب الذي لا يقنع باحثا ولا يشفي غلّة دارس، جعل تاريخ الحرب الحديث يورد أمثلة من أعمال القواد غير المسلمين، كهنبال وقيصر ونابليون ومولتكه
…
الخ.
ولا يورد أمثلة من أعمال القواد المسلمين كالرسول صلى الله عليه وسلم وخالد وسعد بن أبي وقاص رضي الله عنهم
…
الخ، بينما يدرّس هذا التاريخ للمسلمين وفي بلاد المسلمين!! إنّ سبب ذلك هو (جناية) الأسلوب، هذه الجناية التي جعلتني أفكرّ في تأليف هذا الكتاب عن أعمال الرسول صلى الله عليه وسلم العسكرية، متوخيا تنسيق
المعلومات التي جاءت في كتب السيرة بأسلوب علمي بسيط، تطرّقت فيه الى الموقف العام للطرفين قبل المعركة، وأهداف المعركة، وقوات الطرفين، وسير الحوادث قبل القتال وأثناءه وبعده، ونتائج المعركة، ودروسها المفيدة، تلك الدروس التي لم تقتصر على أعمال الرسول صلى الله عليه وسلم، بل أظهرت أعمال المشركين أيضا؛ وحاولت إيضاح كل ذلك بالخرائط والمخططات والأشكال، لمعرفة مواقع المعركة وأسلوبها وأسلحتها الغريبة عنا الآن، وبهذا الإيضاح أمكن أن يعيش القارىء في جو المعركة الأصيل، ويطّلع على تفاصيلها، ليحصل من ذلك على معلومات وافية عن المعركة من كل الوجوه.
ولكني أغفلت بعض الظواهر الخارقة التي لا يمكن أن تحدث في الحروب العادية بين المتطاحنين من البشر، والتي يرجع بعض المؤرخين إليها وحدها السر الأكبر في انتصار الرسول صلى الله عليه وسلم على خصومه وأعدائه.
لقد أيد الله نبيه وثبت قدمه ونصره على أعدائه بالملائكة المنزلة: (وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ، إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ: أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ، بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ، وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ)«1» .
ووعده بالنصر حين أذن له في القتال دفاعا عن النفس وردا لعادية المعتدين:
(أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ)«2» .
ولكنّ الخوارق لم تكن وحدها أداة النصر والعامل الذي غلب به الرسول صلى الله عليه وسلم، والذين يذهبون إلى هذا يسلبونه قوته قائدا. ثم كيف يحتذي
(1) - آل عمران الآيات 122، 123، 124، 125، 126.
(2)
- الحج الآية 39.
المسلمون سيرته، ويتّبعون في الحروب نهجه وسنته، إذا لم يكن لفنه الحربي الأصيل ومواهبه العسكرية النادرة، الأثر العظيم في ظفره ونصره؟ إن الخوارق كانت إيذانا للنبي صلى الله عليه وسلم بأن الله معه لا يتخلى عنه، حتى يشحذ همته ويثير عزيمته، وينبهه بكل ما فيه من حواس اليقظة والحذر إلى أعدائه المحاربين.
ولست أحاول في هذا الكتاب أن أعرض لهذه الخوارق والمعجزات التي أيد الله بها نبيه وثبت رسوله عليه أفضل الصلاة والسلام، فذلك أمر يؤمن به كل مسلم، وقد أثبته القرآن الكريم بما لا يدع فيه مجالا لشك أو ريبة، وإنما أريد أن أبرز للعيان سمات قيادة الرسول صلى الله عليه وسلم التي يمكن أن تكون أسوة حسنة في الحروب لأتباعه.
لقد عمل الرسول صلى الله عليه وسلم بكل مبادىء الحرب المعروفة، بالإضافة الى مزاياه الشخصية الأخرى في القيادة، لهذا انتصر على أعدائه، ولو أغفل شيئا من الحذر والحيطة والاستعداد، لتبدّل الحال غير الحال، ولكن الله سلّم.
لماذا كان إذا أراد غزوة ورّى بغيرها؟ ولماذا كان يأخذ بمبدأ: «الحرب خدعة» ؟
ماذا كان يحدث لو تردّد قبل معركة (بدر) ، عندما رأى المشركين متفوّقين على أصحابه بالعدد والعدد؟
ماذا كان يحدث لو استسلم لليأس في معركة (أحد) بعد أن طوّقته قوات المشركين المتفوّقة من كل جانب؟
ماذا كان يحدث لو ضعفت مقاومته للأحزاب في غزوة الخندق، وبخاصة بعد خيانة يهود، حين أصبح مهددا من خارج المدينة المنوّرة ومن داخلها؟
ماذا كان يحدث لو لم يثبت الرسول صلى الله عليه وسلم مع عشرة فقط من آل بيته والمهاجرين بعد فرار المسلمين في غزوة (حنين) ؟
كيف نفسّر إصابة الرسول صلى الله عليه وسلم بجروح خطرة في معركة (أحد) ، فقد كسرت رباعيّته «1» وشجّ في جبهته حتى سال الدم على وجهه الكريم، عندما خالف الرماة أمره وتركوا مواضعهم لجمع الغنائم، فخسر سبعين من أبطال المسلمين في هذه المعركة؟
وأي استعدادات بلغت من الإحكام والدقة في التفاصيل، ما بلغته استعدادات الرسول صلى الله عليه وسلم لتجهيز جيش العسرة «2» ؟
ولماذا تصلي طائفة من المسلمين في ساعات القتال، وتأخذ طائفة أخرى أسلحتها حذرا من مباغتة العدو؟
لماذا كل هذا الحذر الشديد والاستعدادات الدقيقة، إذا كان انتصار الرسول صلى الله عليه وسلم بالخوارق غير العادية لا بالأعمال العسكرية والمواهب الحربية؟
إن النصر من عند الله، ما في ذلك شك، ولكنّ الله لا يهب نصره لمن لا يعدّ كل متطلبات القتال.
إنّ المسلم حقّا، هو الذي يقدّر الرسول صلى الله عليه وسلم حق قدره، فيعترف بأن كفاية الرسول صلى الله عليه وسلم قائدا متميّزا، وكفاية أصحابه جنودا متميزين، هي التي أمّنت لهم النصر العظيم.
أما أن نستند على الخوارق وحدها في الحرب، ونجعلها السبب المباشر لانتصار المسلمين، فذلك يجعل هذا النصر لا قيمة له من الناحية العسكرية،
(1) - الرّباعية: السن بين الثنيّة والناب، وهي أربع: رباعيتان في الفك الأعلى، ورباعيتان في الفك الأسفل.
(2)
- جيش العسرة هو الذي خاص غزوة تبوك كما سيرد ذلك في محله.
بالإضافة الى أن ذلك غير منطقي وغير معقول: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ)«1» .
إن أعمال الرسول صلى الله عليه وسلم ومنها العسكرية- سنّة متبعة في كل زمان ومكان، فهل يبقى أتباعه ينتظرون الخوارق لينتصروا على أعدائهم، أم يعدّون ما استطاعوا من قوة، كما قرر القرآن الكريم، لينالوا هذا النصر؟
إن سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم العسكرية، تثبت بشكل جازم لا يتطرّق إليه الشك، أن انتصاره كان لشجاعته الشخصية وسيطرته على أعصابه في أحلك المواقف، ولقراراته السريعة الجازمة في أخطر الظروف، ولعزمه الأكيد في التشبث بأسباب النصر، ولتطبيقه كل مبادىء الحرب المعروفة في كل معاركه، تلك العوامل الشخصية التي جعلته يتفوّق على أعدائه في الميدان، ولو لم تكن تلك الصفات الشخصية المدعومة بقوة الإيمان بالله، لما كتب له النصر.
يمتاز الرسول صلى الله عليه وسلم عن غيره من القادة في كل زمان ومكان بميزتين مهمتين:
الأولى، أنه كان قائدا عصاميا. والثانية، أن معاركه كانت للدفاع عن الدعوة ولحماية حرية نشر الإسلام ولتوطيد- أركان السلام لا للعدوان والاغتصاب والاستغلال.
إن غيره من القادة العظام وجدوا أمما تؤيدهم وقوات جاهزة تساندهم؛ ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم لم تكن له أمة تؤيده، ولا قوات تسانده، فعمل على نشر دعوته، وتحمّل أعنف المشقات والصعاب، حتى كوّن له قوة بالتدريج ذات عقيدة واحدة وهدف واحد، هو التوحيد وإعلاء كلمة الله.
(1) - الآية الكريمة من سورة الأنفال 8: 60.
وعلى ذلك يمكن تقسيم حياة الرسول صلى الله عليه وسلم من الناحية العسكرية الى أربعة أدوار: دور الحشد، ودور الدفاع عن العقيدة، ودور الهجوم، ودور التكامل.
أما دور الحشد: فمن بعثته الى هجرته الى المدينة المنوّرة واستقراره هناك، وفي هذا الدور اقتصر الرسول صلى الله عليه وسلم على الحرب الكلامية: يبشّر وينذر ويحاول جاهدا نشر الإسلام، وبذلك كوّن النواة الأولى لقوات المسلمين، وحشدهم في المدينة المنورة (بالهجرة) إليها، وعاهد بعض يهود ليأمن جانبهم عند بدء الصراع.
أما دور الدفاع عن العقيدة: فمن بدء الرسول صلى الله عليه وسلم بإرسال سراياه وقواته للقتال، الى انسحاب الأحزاب عن المدينة المنورة بعد غزوة الخندق، وبهذا الدور ازداد عدد المسلمين، فاستطاعوا الدفاع عن عقيدتهم ضدّ أعدائهم الأقوياء.
أما دور الهجوم: فهو من بعد غزوة (الخندق) الى بعد غزوة (حنين) ، وبهذا الدور انتشر الإسلام في الجزيرة العربية كلها، وأصبح المسلمون قوة ذات اعتبار وأثر في بلاد العرب، فاستطاعوا سحق كل قوة تعرّضت للاسلام.
والدور الرابع هو دور التكامل: وهو من بعد غزوة (حنين) الى أن التحق الرسول صلى الله عليه وسلم بالرفيق الأعلى؛ فقد تكاملت قوات المسلمين بهذا الدور، فشملت شبه الجزيرة العربية كلها، وأخذت تحاول أن تجد لها متنفسا خارج شبه الجزيرة العربية، فكانت غزوة (تبوك) إيذانا بمولد الإمبراطورية الإسلامية.
بهذا التطوّر المنطقي، تدرّج هذا القائد العصامي بقواته من الضعف الى القوة، ومن الدفاع الى الهجوم، ومن الهجوم الى التعرّض، وبذلك بزّ كل
قائد في كل أدوار التاريخ، لأنه أوجد قوة كبيرة ذات عقيدة واحدة وهدف واحد من لا شيء
…
تلك هي الميزة الأولى للرسول القائد عليه أفضل الصلاة والسلام.
والميزة الثانية لقيادته: هي أن معاركه كانت حرب فروسية بكل معنى الكلمة، الغرض منها حماية حرية نشر الإسلام وتوطيد أركان السلام؛ فلم ينقض عهدا، ولم يمثّل بعدو، ولم يقتل ضعيفا، ولم يقاتل غير المحاربين. لذلك فإن إطلاق تعبير:(الفتح الإسلامي على عهد الرسول) ليس صحيحا، وإنما الصحيح أن يقال:(انتشار الإسلام على عهد الرسول) ، لأنه لم يفتح بلدا لغاية الفتح، بل لغرض حماية حرّية نشر الإسلام فيه وتوطيد أركان السلام في أرجائه.
ولا عجب في ذلك، فقد كان محمد صلى الله عليه وسلم قائدا ورسولا، ومبشرا ونذيرا، (وداعيا الى الله بإذنه وسراجا منيرا) .
وربما يتبادر الى الأذهان، أن القيادة في العصور الغابرة كانت سهلة التكاليف بالنسبة للقيادة في الحرب الحديثة لقلّة عدد القوات حينذاك بالنسبة الى ضخامة عددها وكثرة أسلحتها ووسائلها في الجيوش الحديثة، ولكن العكس هو الصحيح.
إن مهمة القائد في العصور الغابرة كانت أصعب من مهمته في العصر الحديث، لأن سيطرة القائد ومزاياه الشخصية، كانت العامل الحاسم في الحروب القديمة؛ بينما يسيطر القائد في الحرب الحديثة على قواته الكبيرة بمعاونة عدد ضخم من ضباط الركن الذين يعاونونه في مهمته ويراقبون تنفيذ أوامره في الوقت والمكان المطلوبين، كما يسيطر القائد على قواته بوسائط المواصلات الداخلية الدقيقة من
أجهزة لا سلكية وسلكية ورادار وطيارات وأقمار إصطناعية ووسائط آلية
…
الخ.
بل إن هيئات الركن مسؤولة حتى عن تهيئة خطط القتال قبل الوقت المناسب، ولا يقوم القائد إلا بمهمة الإشراف على التنفيذ.
إن القائد في الحرب الحديثة يحتاج الى العقل وحده، والقائد في الحرب القديمة يحتاج الى العقل والشجاعة.
بقي علينا أن نلفت النظر في هذا المكان الى إنتقاد قسم من المستشرقين لقسم من أعمال الرسول صلى الله عليه وسلم العسكرية، لأننا لا نعود الى الكلام على هذا النقد مرة أخرى في غير هذا المكان.
إن الرسول صلى الله عليه وسلم عند قسم من المستشرقين صاحب رقّة تحرمه القدرة على القتال، ودليلهم على ذلك أنه اشترك في حرب الفجار بتجهيز السهام فقط ولم يشترك في الطعان. وهو عند قسم من المستشرقين صاحب قسوة تغريه بالقتل وإهدار الدماء من غير جريرة، وحجّتهم على ذلك قتل أسيرين بعد (بدر) وقتل قسم من يهود بعد غزوة الأحزاب.
ولو لم يكن الهوى وحده هو الذي يثير هذا النقد المغرض، لما حدث مثل هذا التناقض بين أقوال المستشرقين.
إنّ المستشرقين لا يريدون وجه الحق في نقدهم، ولو أرادوا الحق لوجدوا أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يقاتل أبدا إلا مضطرا، ولم يأمر أبدا بقتل أحد إلا عقابا له على جريمة نكراء أضرّت أشد الضرر بمصالح المسلمين.
ومن العجيب أن ينتقده هؤلاء لقتله بضعة أشخاص؛ لأنهم حالوا بطرق
غير شريفة دون حرية انتشار الإسلام، وعملوا بطرق غير شريفة لإثارة الحرب، وخانوا عهودهم بعد توكيدها في مواقف حرجة كادت تقضي على المسلمين، بينما لا ينتقدون قومهم في القرن العشرين على إفناء شعوب كاملة لأنهم قاوموا الظلم والعدوان.
ولهم أن يدرسوا قوانين الحرب والحياد في القرن العشرين، ليروا بأنفسهم أين تكون هذه القوانين الدولية بالنسبة الى ما طبّقه الرسول صلى الله عليه وسلم عمليا في القتال قبل أربعة عشر قرنا!
…
لقد درست حياة الرسول العسكرية بروح علمية محايدة، توخيّت منها إظهار الواقع العملي من قيادة النبي صلى الله عليه وسلم، ذلك الواقع الذي يستحق التقدير كلّ التقدير.
ولم أنس المواقف التي تستحق التقدير من أعمال المشركين، لأن قيادتهم وقواتهم قامت بأعمال ذات قيمة عسكرية في قتالها المسلمين، مما يجعلنا نلمس ما لاقاه الرسول صلى الله عليه وسلم من مصاعب في القضاء على اعتداءات المشركين.
إن دراستي لحياة الرسول صلى الله عليه وسلم العسكرية بهذا الأسلوب، مجهود متواضع، لعلّ فيه فائدة للمسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، ليأخذوا عبرة من حياة قائدهم الأول في إعداد القوة وحماية الإسلام، لأن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين.
فأن استطعت بهذا المجهود أن أضيف صفحة نيّرة الى صفحات التاريخ العسكري الاسلامي، أستثير بها نفوس العرب والمسلمين، فقد بلغت غاية أمنيتي؛ وإلا فإنما الأعمال بالنيات
…
ولله كل الفضل فيما فعلت، وله كل الشكر على ما أنتجت، وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب.