الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مقدمة الطبعة الثالثة
«1»
الحمد لله والصلاة والسلام على سيد القادات وقائد السادات.
رجل الرجال وبطل الأبطال.
إمام المجاهدين الصادقين.
وقدوة الموحدين الوحدويين.
وعلى آله وصحبه وقادته الفاتحين.
ما أعظم حياة النبي الكريم صلوات الله وتسليمه عليه، وما أكثر ما توحي به من عبر ودروس!
فماذا توحيه للعرب في هذه الأيام (بخاصة) من عبر، وماذا تزجيه لهم- وهم على ما هم عليه الآن- من دروس؟
حياته الغالبة في جوهرها، توحيد وجهاد: توحيد الله وتوحيد الناس، وجهاد لتوحيد الله وتوحيد الناس.
بدأ حياته العملية بالدعوة سرا منذ نزول الوحي عليه: يدعو الناس الى توحيد الله، وتزكية نفوسهم وتطهيرها، ويدعوهم الى توحيد الصفوف ونكر ان مصلحة الفرد في حدود مصلحة الجماعة.
(1) - خطاب ألقي بمناسبة المولد النبوي الشريف في قاعة الشعب ببغداد عام 1963، يوم كنت في الوزارة، وقد شهد الاحتفال رئيس الجمهورية وأعضاء الحكومة العراقية.
واستمرت دعوته سرا ثلاث سنين، حتى نزل قوله تعالى:(وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ)«1» ، فأعلن دعوته.
وابتدأت قريش تظهر خصومتها لدعوته السّمحة، وأخذت هذه الخصومة تشتد وتعنف، فاستباحوا في الحرم الآمن دماء وأموال المسلمين، وحرّضوا القبائل على الدعوة وصاحبها، وقاطعوا المسلمين ومن يعطف عليهم: لا يبيعونهم ولا يبتاعون منهم شيئا، ولا يزوجونهم أو يتزوجون منهم.
ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم صمد صمود الرواسي: لا يلين ولا يتردد، ولا يخشى أحدا إلا الله، وتحمل التكذيب والتعذيب والأذى والجوع والحرمان، مصرا إصرارا عنيدا على تحقيق أهدافه كاملة.
كان يذهب الى الحجيج في مجامعهم، ويطلب منهم النصرة على مسمع ومرأى من جبابرة قريش وأحلافهم.
وتكلّلت إحدى محاولاته البطولية بالنجاح، وذلك بانبثاق بيعة (العقبة الأولى) ، ثم تلتها بيعة (العقبة الثانية) ، فكانت البيعة الأولى أول انتصار عسكري له خارج مكة المكرمة، وكانت البيعة الثانية انتصارا عسكريا آخر له، وأدى كل ذلك الى انتشار الإسلام في المدينة المنورة، وأصبح له فيها جنود يعتمد عليهم في الملمات.
إن حياته المباركة في مكة المكرمة، كانت مكرّسة للتوحيد من أجل الجهاد.
وأمر النبي صلى الله عليه وسلم مسلمي مكة ومن حولها بالهجرة الى المدينة المنورة للانضمام الى إخوانهم هناك، فهاجر المسلمون تباعا تاركين أموالهم وأهليهم،
(1) - الآية الكريمة من سورة الشعراء 26: 214.
فكانت هجرة الرسول القائد عليه أفضل الصلاة والسلام الى المدينة المنورة معناها: اجتماع القائد بجنوده في قاعدتهم الأمينة.
وفي دار الهجرة، أنجز النبي الكريم صلى الله عليه وسلم حشد قواته: بنى المسجد وهو الثكنة الأولى للإسلام، وآخى بين المهاجرين والأنصار حتى يتعاونوا على أسباب العيش وليكونوا جبهة واحدة لتحقيق هدف واحد، وعقد المعاهدات بين المسلمين وخصومهم في المدينة المنورة ليطمئن الى سلامة جبهته الداخلية، فلما نزلت أول آية من آيات الجهاد:(أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ. الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا: رَبُّنَا اللَّهُ)«1» ، كان الرسول القائد عليه أفضل الصلاة والسلام قد أكمل حشد جيش يؤمن بعقيدة واحدة، وله هدف واحد، وقائد واحد، يستند الى قاعدة أمينة واحدة.
ونشب القتال بين المسلمين وبين قريش بعد إنجاز دور الحشد، فبدأ دور الدفاع عن العقيدة، وهو من إرسال السرايا الأولى للقتال الى انسحاب (الأحزاب) عن المدينة المنورة بعد غزوة (الخندق) ؛ وفي هذا الدور ازداد عدد المسلمين، فصمدوا دفاعا عن عقيدتهم ضد أعدائهم الأقوياء.
وبعد غزوة (الخندق) بدأ دور (الهجوم) وانتهى هذا الدور بعد غزوة (حنين) ، وبهذا الدور انتشر المسلمون في أرجاء الجزيرة العربية كلها، وأصبحوا قوّة ذات مكانة وكيان.
وكان الدور الأخير من أدوار جهاد الرسول القائد عليه أفضل الصلاة والسلام في سبيل التوحيد، هو دور (التكامل) ، وهو من بعد غزوة (حنين) إلى أن التحق النبي صلى الله عليه وسلم بالرفيق الأعلى، فتكاملت قوات المسلمين بهذا الدور،
(1) - الآيتان الكريمتان من سورة الحج 22: 39- 40.
واستطاعت إن توحّد شبه الجزيرة العربية كلها؛ فكانت غزوة (تبوك) نهاية جهاد النبي صلى الله عليه وسلم في توحيد شبه الجزيرة العربية، تحت راية الإسلام.
إن حياة النبي الكريم صلى الله عليه وسلم في المدينة المنورة كانت مكرّسة للجهاد من أجل التوحيد.
وكانت حياة خلفائه الراشدين رضي الله عنهم من بعده تطبيقا عمليا لأهداف النبي صلى الله عليه وسلم التي نذر لها حياته الكريمة: جهاد من أجل التوحيد، وتوحيد من أجل الجهاد.
كانت حروب الردّة في أيام الصديق أبي بكر رضي الله عنه حروبا لإعادة وحدة شبه الجزيرة العربية تحت لواء الإسلام، وحين عادت وحدة العرب بعد انتصار المسلمين على المرتدين أصبحوا قوة هائلة، وجدت لها (متنفسا) في الفتح، فخفقت رايات العرب المسلمين من الصين شرقا الى حدود سيبريا شمالا، الى فرنسا غربا، الى المحيط الهندي جنوبا.
وكان من فضل الإسلام على العرب، أنه وحّد صفوفهم، وجمع كلمتهم، ووجّههم للفتح، فكان الإسلام بحق عقيدة منشئة بناءة ذاد عنها حماة قادرون، هم العرب الموحدون الذين أصبحوا بفضل وحدتهم وتوحيدهم قوة جبارة، ولن يعيدوا سيرتهم الأولى بغير الوحدة والتوحيد.
واليوم فإن الوحدة العربية هدف حتمي، يستمد مقوماته من وحدة (اللغة) التي هي قوام الثقافة والفكر، ووحدة (التاريخ) التي تصنع الوجدان والضمير ووحدة (الجهاد) الشعبي الذي يقرر ويحدد المصير، ووحدة (القيم) الروحية النابعة من رسالات السماء! فلمصلحة من تبقى السدود والقيود بين البلاد العربية؟ ألمصلحة الشعب العربي، وهو شعب واحد في تفرقه الوهن وفي اتحاده القوة؟ أم لمصلحة المسلمين بكل مكان، والعرب إذا اتحدوا يعيدون لهم سابق عزهم
ومجدهم؟ أم لمصلحة الحضارة العالمية، وهذه الحضارة تحقق كسبا عظيما في رجوع الحضارة العربية الى سابق عزها؟
إن حياة رسول التوحيد والجهاد عليه أفضل الصلاة والسلام هي أسوة حسنة للعرب والمسلمين في كل مكان وكل زمان.
إنها تناديهم من وراء الغيب عبر القرون: وحدوا صفوفكم وجاهدوا أعداءكم.
صمموا على تحقيق أهدافكم كاملة.
ضحوا من أجل مثلكم العليا بكل ما تملكون.
تخطوا العقبات والصعاب من أجل تحقيق وحدتكم وتوحيدكم.
لتكن مصالحكم الشخصية تحت أقدامكم في سبيل المصالح العامة.
أقولها كلمة صريحة حاسمة موجهة لقادة العرب خاصة ولقادة المسلمين عامة.
إن التاريخ لم يخلد غير الذين وحّدوا وجاهدوا: وحدوا الصفوف، ولموا الشعب، وكونوا قوة موحدة من قوى متفرقة وجاهدوا في سبيل مثل عليا لمصلحة أمتهم، ولمصلحة عقيدتهم، فالحياة تافهة إذا خلت من مثل عليا.
وهذه البلاد العربية متفرقة، فيها ميدان واسع لمن يريد العمل حقا لتوحيدها.
وهذه فلسطين وعمان والمحميات، فيها ميدان واسع لمن يجاهد لإنقاذها.
وهذا التاريخ يفتح أنصع صفحاته لتخليد من يوحّد ويجاهد.
إن القائد الذي يقدم على توحيد العرب وجهاد أعدائهم، سيجد القلوب
في الوطن العربي تهوى إليه، وسيجد النفوس في دار الإسلام تبارك خطواته، وسيجد الذين يقاومون جهوده يتهاوون تحت أقدامه كما تتهاوى أوراق الشجر في الخريف.
وأخيرا سيجد أن الضعف أصبح قوة، وأن الفقر أصبح غنى، وأن الجهل أصبح علما، وأن المرض أصبح صحة، وحينذاك سيكون للعرب قوة لها شأن في العالم كله، تعيد للمسلمين عزهم ومجدهم.
إن النبي العربي صلوات الله عليه وتسليمه عليه يطالبكم اليوم جميعا، أن تجاهدوا من أجل الوحدة، وتوحدوا من أجل الجهاد.
وصدق الله العظيم: (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ، وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً)«1» .
(1) - الآية الكريمة من سورة البقرة 2: 143.