الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إن حرب المسلمين كانت حرب فروسية، تطلب النصر بوسائل شريفة، وتعفّ عن الظلم والعدوان.
8- القضايا الادارية:
أ- توزيع الغنائم:
أولا: سيطر العامل النفسي بالدرجة الأولى على توزيع الغنائم، فقد أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يستميل قلوب رجالات قريش الذين أسلموا حديثا ولما يدخل الإيمان في قلوبهم، كما أراد أن يستميل زعماء القبائل الأخرى، لأن كثيرا من الناس يقادون الى الحق من بطونهم لا من عقولهم «1» .
وقد أغدق النبي صلى الله عليه وسلم العطاء على هؤلاء، حتى أصبح النبي صلى الله عليه وسلم أحب الناس إليهم وأصبح الاسلام دينهم الوحيد. أما المسلمون الأولون، فقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم أن يحرمهم من الغنائم، لأن إيمانهم أقوى من أن تؤثّر فيه القضايا المادية، فلما عتب عليه قسم من المسلمين الأولين في ذلك أجابهم:(إنني أعطي قوما أخاف هلعهم وجزعهم، وأكل قوما الى ما جعل الله في قلوبهم من الخير والغنى، منهم عمرو بن ثعلب) . قال عمرو: (ما أحب أن لي بكلمة رسول الله صلى الله عليه وسلم حمر النعم) .
كان الأنصار ممن وقعت عليهم مغارم هذه السياسة، فقد حرموا جميعا أعطيات حنين، فلم يمنحوا شيئا منها قط، فقال قائلهم:(لقي والله رسول الله صلى الله عليه وسلم قومه)، فمشى سعد بن عبادة الى النبي صلى الله عليه وسلم فقال:(يا رسول الله! إن هذا الحي من الأنصار وجدوا عليك في أنفسهم) !
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فيم) !؟ قال سعد: (فيما كان من قسمة هذه الغنائم في قومك وفي سائر العرب، ولم يكن فيهم من ذلك شيء) .
(1) - يطلق على هؤلاء: المؤلفة قلوبهم.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فأين أنت من ذلك يا سعد) ؟ قال: (ما أنا إلا امرؤ من قومي) .
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اجمع لي قومك في هذه الحظيرة، «1» فاذا اجتمعوا فأعلمني) . فخرج سعد، فجمعهم حتى إذا لم يبق من الأنصار أحد إلا اجتمع له، قال:(يا رسول الله! اجتمع لك هذا الحي من الأنصار حيث أمرتني أن أجمعهم) .
وقف النبي صلى الله عليه وسلم فيهم خطيبا فقال: (يا معشر الأنصار! ألم آتكم ضلالا فهداكم الله، وعالة «2» فأغناكم الله، وأعداء فألّف الله بين قلوبكم) ؟
قالوا: (بلى! الله ورسوله أمنّ «3» وأفضل) .
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا تجيبون يا معشر الأنصار) ؟ قالوا: وما نقول يا رسول الله، وماذ نجيبك؟؟ المن لله ولرسوله.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (والله لو شئتم لقلتم وصدقتكم: جئتنا طريدا فآويناك، وعائلا فآسيناك «4» ، وخائفا فأمّنّاك، ومخذولا فناصرناك! أوجدتم في نفوسكم يا معشر الأنصار في لعاعة «5» من الدنيا تألفت بها قوما أسلموا، ووكلتكم الى ما قسم الله لكم من الاسلام؟ أفلا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس الى رحالهم بالشاة والبعير وتذهبون برسول الله الى رحالكم؟ فو الذي
(1) - الحظيرة: هي في الأصل مكان يتخذ للإبل والغنم يمنعها الانفلات ويمنعها هجمات اللصوص والوحوش.
(2)
- العالة: الفقراء.
(3)
- أمنّ: هو أفعل تفضيل من المنة وهي النعمة.
(4)
- آسيناك: أعطيناك حتى جعلناك كأحدنا.
(5)
- لعاعة: بقلة حمراء ناعمة، شبه بها زهرة الدنيا ونعيمها.
نفسي بيده، لو أن الناس سلكوا شعبا «1» وسلكت الأنصار شعبا لسلكت شعب الأنصار، ولولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار! اللهم إرحم الانصار وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار) .
بكى القوم حتى بللوا لحاهم بالدموع، وقالوا: رضينا برسول الله قسما وحظا.
ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتفرقوا.
لقد حرصت على أن أنقل هذا الحديث كله، كي أبرز بوضوح الحكمة التي أرادها النبي صلى الله عليه وسلم من توزيع أكثر الغنائم على المؤلفة قلوبهم، ولكي يظهر الأسلوب الرائع الذي كان يعالج به النبي صلى الله عليه وسلم بعض المشكلات التي تعترضه، وكيف يستطيع بهذه المعالجة الحكيمة التخلص من تلك المشكلات بأسلوب مقنع حكيم.
لقد كان كلامه خارجا عن القلب، لذلك فهو يؤثر في القلب، وقد أوتي عليه أفضل الصلاة والسلام جوامع الكلم.
ثانياو في أسلوب جمع الغنائم من الناس والسيطرة عليها ووضعها في محل واحد، مثال قيّم للسيطرة على الغنائم العسكرية وعدم إفساح المجال لتبعثرها في الأيدي دون مبرر.
جمعت الغنائم في موضع (الجعرانة) بين الطائف ومكة بعيدا عن المواضع الخطرة، وتأمّنت حراستها، وسلم المسلمون كل غنيمة أصابوها الى المسؤول عن جمع الغنائم، حتى الإبرة والخيط.
جاء رجل من الانصار بكبة من خيوط شعر، فقال:(يا رسول الله! أخذت هذه الكبة أعمل بها برذعة بعير لي دبر)، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أما
(1) - شعب: بكسر فسكون، الطريق بين جبلين.