الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الإعاشة والماء والنقلية والسلاح، لذلك سمي هذا الجيش بجيش العسرة: اشترك فيه المسلمون كلهم عدا ثلاثة تخلفوا عنهم، واشترك المسلمون كلهم في تجهيزه.
أنفق أبو بكر الصديق رضي الله عنه جميع ما بقي عنده من مال، وكان له يوم أسلم أربعون ألف دينار أنفقها كلها في سبيل الله، حتى تخلل بالعباءة.
وأنفق عثمان بن عفان رضي الله عنه ثلاثمائة بعير وألف دينار وأنفق عمر بن الخطاب رضي الله عنه نصف ماله، كما أنفق العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم وطلحة وعاصم بن عدي كثيرا من المال، وبهذا الإنفاق السخي أمكن تجهيز هذا العدد العظيم من جيش العسرة.
إن المسلمين عرفوا الحرب الإجماعية قبل أن يعرفها العالم بأربعة عشر قرنا؛ ولكن شتان بين حرب الفروسية التي عرفها المسلمون، وحرب العدوان التي عرفها العصر الحديث.
2- عقاب المتخلفين:
يتخلّف عن الاشتراك بالقتال في كل حرب قديمة أو حديثة قسم من العسكريين لأسباب شتى، وفي كل أمة قوانين معيّنة، يعاقب بموجبها المتخلّفون.
ويهمنا أن تعرف أن كثيرا من عوائل المتخلفين أبيدت عن بكرة أبيها في الدول التي طبقت الحرب الإجماعية خلال الحرب العالمية الثانية في القرن العشرين.
بمثل هذه القسوة الفظيعة في حرب حديثة في دول قوية راقية أخذ بها البريء بذنب الجاني، استطاعت تلك الأمم بمثل هذه القسوة الوحشية التقليل من التخلف بين صفوف جنودها عندما كانت في أوج قوتها؛ فلما تداعت قواتها تحت مطارق الحرب، تكاثر المتخلفون في صفوفها برغم قوانينها الرادعة.
ويهمني بعد ذلك أن تعرف كيف عالج الاسلام قضية التخلف بالعقاب النفسي الذي أخذ المسيء وحده بذنبه، دون أن يلحق بغيره من الأبرياء أي عقاب.
اسمع قصة تخلف كعب بن مالك كما يرويها بنفسه، لتر كيف كان عقاب المتخلفين في الاسلام!
قال كعب: (جئت فسلّمت عليه (يقصد على النبي صلى الله عليه وسلم ، فتبسّم تبسّم المغضب، ثم قال: تعاله. فجئت أمشي حتى جلست بين يديه، فقال لي: ما خلّفك؟ ألم تكن قد ابتعت ظهرك؟
(قلت: بلى! والله إني لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أن أخرج من سخطه بعذر، ولقد أعطيت جدلا؛ ولكن والله لقد علمت إن حدّثتك حديث كذب ترضى به عليّ، ليوشكن الله أن يسخطك عليّ، ولئن حدّثتك حديث صدق تجد عليّ فيه، إني لأرجو فيه عفو الله عني
…
والله ما كان لي من عذر، والله ما كنت أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنك.
(فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أما هذا فقد صدقت فيه، فقم حتى يقضي الله فيك) ، فقمت
…
(وثار رجال من بني سلمة، فأتبعوني يؤنبونني، فقالوا لي: والله ما علمناك كنت قد أذنبت ذنبا قبل هذا، ولقد عجزت ألا تكون اعتذرت الى رسول الله صلى الله عليه وسلم بما اعتذر إليه المخلفون، فقد كان كافيك ذنبك استغفار رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(قال كعب: فو الله ما زالوا يؤنبونني حتى أردت أن أرجع فأكذّب نفسي، ثم قلت لهم: هل لقي هذا معي أحد؟ قالوا: نعم مرارة بن الربيع العمري من بني عمرو بن عوف وهلال بن أمية الواقفي، فذكروا لي رجلين صالحين شهدا (بدرا) فيهما أسوة
…
فصمتّ حين ذكروهما لي
…
(ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين عن كلامنا أيها الثلاثة من بين من تخلّف عنه، فاجتنبنا الناس وتغيروا لنا، حتى تنكرت لي الأرض فما هي بالتي أعرف، فلبثنا على ذلك خمسين ليلة.
(أما صاحباي، فاستكانا وقعدا في بيوتهما يبكيان؛ وأما أنا فكنت أشبّ القوم وأجلدهم، فكنت أخرج وأشهد الصلوات مع المسلمين، وأطوف في الأسواق ولا يكلّمني أحد؛ وآتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلّم عليه وهو في مجلسه بعد الصلاة، فأقول في نفسي: هل حرّك شفتيه برد السلام أم لا؟ ثم أصلي قريبا منه، فأسارقه النظر، فاذا أقبلت على صلاتي أقبل إليّ، وإذا التفتّ نحوه أعرض عني
…
(حتى إذا طال عليّ ذلك من جفوة المسلمين، مشيت حتى تسوّرت «1» جدار أبي قتادة، وهو ابن عمي وأحب الناس إليّ، فسلّمت عليه فو الله ما ردّ عليّ السلام!
…
(فقلت: يا أبا قتادة! أنشدك الله هل تعلمني أحب الله ورسوله؟
فسكت! .. فعدت له فنشدته، فسكت
…
فعدت له فنشدته فقال: الله ورسوله أعلم
…
ففاضت عيناي وتولّيت حتى تسوّرت الجدار
…
ثم غدوت الى السوق
…
(فبينا أنا أمشي بسوق المدينة، وإذا نبطيّ من نبط الشام ممن قدم بالطعام يبيعه في المدينة يقول: من يدلّ على كعب بن مالك؟ فطفق الناس يشيرون له إلي حتى إذا جاءني، دفع إليّ كتابا من ملك غسان وكتب كتابا في سرقة «2» من حرير، فاذا فيه: أما بعد، فإنه قد بلغني أن صاحبك قد جفاك، ولم يجعلك الله بدار هوان ولا مضيعة، فالحق بنا نواسك. فقلت لما قرأتها: وهذا
(1) - تسوّرت: علوت. وفي كتاب الله: (إذ تسوّروا المحراب) .
(2)
- سرقة: شقة من الحرير، ويقال: السرق، أحسن الحرير وأجوده.
من البلاء أيضا! قد بلغ ما وقعت فيه أن طمع فيّ رجل من أهل الشرك، فعدت بها الى تنّور، فسجرته بها «1» .
(فأقمنا على ذلك حتى إذا مضت أربعون ليلة من الخمسين، وإذا رسول الله يأتيني فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرك أن تعتزل امرأتك، قلت: أطلقها أم ماذا؟ قال: لا، ولكن اعتزلها ولا تقربها
…
(وأرسل الى صاحبيّ مثل ذلك، فقلت لامرأتي: الحقي بأهلك فكوني عندهم حتى يقضي الله في هذا الأمر ما هو قاض
…
(فجاءت امرأة هلال بن أمية، فقالت: يا رسول الله! إن هلال بن أمية شيخ ضائع ليس له خادم، فهل تكره أن أخدمه؟ فقال: لا، ولكن لا يقربك.
(قالت: إنه والله ما به حركة الى شيء، والله ما زال يبكي منذ كان أمره ما كان الى يومه هذا، ولقد تخوّفت على بصره!
…
(قال كعب: فقال لي بعض أهلي لو استأذنت رسول الله لامرأتك فقد أذن لامرأة هلال بن أمية أن تخدمه، فقلت: والله لا استأذن فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما يدريني ما يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا استأذنته فيها، وأنا رجل شاب
…
(ولبثت بعد ذلك عشر ليال حتى كملت لنا خمسون ليلة من حين نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كلامنا، فلما صليت صلاة الفجر صبح خمسين ليلة على سطح بيت من بيوتنا على الحال التي ذكر الله منا: قد ضاقت علينا الأرض بما رحبت وضاقت عليّ نفسي، وكنت قد ابتنيت خيمة في ظهر (سلع) فكنت أكون
(1) - سجرته بها: أي احرقتها وألهبت بها التنور.