الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قال: (بل هو الحرب والرأي والمكيدة) .
قال الحباب: (يا رسول الله. فإن هذا ليس بمنزل، فانهض بالناس حتى نأتي أدنى ماء من القوم، فنعسكر فيه، ثم نعوّر «1» ما وراءه من الآبار ثم نبني عليه حوضا فنملأه ماء، ثم نقاتل القوم، فنشرب ولا يشربون) .
أنفذ الرسول صلى الله عليه وسلم هذا الرأي، فما حلّ نصف الليل حتى تحول المسلمون الى معسكرهم الجديد، وامتلكوا مواقع الماء، وأعلن الرسول صلى الله عليه وسلم لأصحابه:
(أنه بشر مثلهم، وأن الرأي شورى بينهم، وأنه لا يقطع برأي دونهم، وأنه في حاجة الى حسن مشورة صاحب المشورة الحسنة منهم)
…
وأنجزوا بناء الحوض وملأوه ماء، ثم غوّروا المياه الأخرى، وتم كل ذلك ليلا، ثم أخذوا قسطهم من الراحة بقية الليل، ليكونوا أقوياء في الصراع الوشيك.
2- المشركون:
علم أبو سفيان بن حرب بخروج الرسول صلى الله عليه وسلم لاعتراض قافلته حين رحلته الى الشام، فخاف أن يعترضه المسلمون حين عودته.
لقد كانت القافلة حوالي ألف بعير موفرة بالأموال، إذ لم يبق أحد من قريش رجالا ونساء لم يساهم فيها بحظ حسب امكاناته الاقتصادية، حتى قوّم ما تحمله القافلة بخمسين ألفا من الدنانير.
ولما تأكد أبو سفيان بن حرب من خروج الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه للتعرض
(1) - نعور: تروى هذه الكلمة بالعين المهملة، ومعناها على ذلك (نفسد) وذلك بأن يقذفوا في القلب أحجارا وترابا فيفسدوها على أعذائهم؛ وتروى بالغين المعجمة، ومعناها حينئذ بجعله يغور في الأرض، وهو قريب من سابقه.
لقافلته العزلاء إلا من ثلاثين أو أربعين رجلا، استأجر ضمضم بن عمرو الغفاري، فبعثه مسرعا الى مكة ليستنفر قريشا الى أموالهم، ويخبرهم أن محمدا قد عرض لها في أصحابه.
وصل ضمضم الى مكة، فقطع أذن بعيره، وجدع أنفه وحول رحله، ووقف هو عليه وقد شقّ قميصه من قبل ومن دبر، وجعل يصيح: (يا معشر قريش! اللطيمة اللطيمة «1» ! أموالكم مع أبي سفيان قد عرض لها محمد في أصحابه
…
لا أرى أن تدركرها. الغوث الغوث
…
) .
ولم تكن قريش في حاجة الى من يستنفرها، فقد كان لكل فرد منها في العير نصيب.
ولما فرغت قريش من جهازها وأجمعت المسير، ذكرت ما كان بينها وبين بني (كنانة) من الحرب والحزازات، فخشوا أن تضربهم (كنانة) من الخلف، وكاد هذا المحذور يقعدهم عن الخروج لولا أن جاء مالك بن جشعم المدلجي، وكان من أشراف بني كنانة، فقال:(أنا جار لكم من أن تأتيكم كنانة من خلفكم بشيء تكرهونه)
…
إذ ذاك قررت قريش الخروج خاضعة لرأي دعاة الحرب وعلى رأسهم أبو جهل، أشد الناس عداوة للمسلمين، وعامر بن الحضرمي أخو عمرو بن الحضرمي الذي قتله المسلمون في (نخلة) والذي يحرص على الأخذ بثأره.
ولم يتخلّف من أشراف قريش غير أبي لهب الذي أرسل مكانه رجلا آخر، كما حشد هؤلاء كل القادرين على حمل السلاح من قريش وحلفائهم.
وسبق أبو سفيان بن حرب قافلته للحصول على المعلومات عن قوة المسلمين
(1) - اللطيمة: هي الإبل تحمل الطيب.
ومواضعهم فلما ورد ماء (بدر) وجد عليه مجدي بن عمرو، فسأله:(هل رأى أحدا من المسلمين) ؟ فأجاب مجدي: (لم أر إلا راكبين أناخا الى هذا التل) ، وأشار الى حيث أناخ الرجلان من المسلمين.
فحص أبو سفيان بن حرب مناخهما، فوجد في روث بعيريهما نوى عرفه في علائف يثرب، فأدرك أن الرجلين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وأن جيشه منه قريب، فرجع الى القافلة ليغيّر طريقها نحو الساحل، تاركا (بدرا) الى يساره، وأسرع في مسيره حتى بعدت المسافة بين القافلة وبين قوات المسلمين، وأرسل أبو سفيان الى قريش يطلب منهم أن يعودوا أدراجهم الى مكة لنجاة قافلتهم من المسلمين.
وأرسلت قريش عمير بن وهب الجمحي ليستطلع لهم قوة المسلمين، فرجع إليهم ليخبرهم أنهم ثلاثمائة رجل يزيدون قليلا أو ينقصون، ولا كمين لهم ولا مدد، ولكنهم قوم ليس لهم منعة ولا ملجأ إلا سيوفهم، فلا يموت منهم رجل قبل أن يقتل رجلا مثله.
وتضاربت آراء قريش، منهم من يريد الرجوع ومن هؤلاء بنو زهرة الذين رجعوا فعلا، ومنهم من يريد البقاء، ومعنى ذلك الاصطدام بالمسلمين.
قال أبو جهل زعيم الذين أرادوا البقاء لقتال المسلمين: (والله لا نرجع حتى نرد (بدرا) ، فنقيم عليه ثلاثة ننحر الجزور ونطعم الطعام ونسقي الخمر وتعزف علينا القيان، وتسمع بنا العرب وبمسيرنا وجمعنا؛ فلا يزالون يهابوننا أبدا بعدها) .
وقصد حكيم بن حزام عتبة بن ربيعة فقال: (يا أبا الوليد! إنك كبير قريش وسيدها والمطاع فيها. هل لك إلى أن لا تزال تذكر فيها بخير الى آخر الدهر) ؟
قال عتبة: (وماذا يا حكيم) ؟
قال حكيم: (ترجع بالناس وتحمل أمر حليفك عمرو بن الحضرمي) .
قال عتبة: (قد فعلت. أنت عليّ بذلك، إنما هو حليفي فعلي عقله «1» وما أصيب من ماله؛ فأت ابن الخنظلية- يقصد أبا جهل- فإني لا أخشى أن يشجر- أي يخالف بين الناس ويحملهم على عدم الوفاق- أمر الناس غيره) .
قال حكيم: (فانطلقت حتى جئت أبا جهل، فوجدته نثل درعا- أي أخرج درعه- من جرابها، يهنئها- أي يتفقدها ويعدها للقتال- فقلت: يا أبا الحكم، إن عتبة أرسلني إليك بكذا وكذا)
…
قال أبو جهل: (انتفخ والله سحره «2» - يقصد أن عتبة جبن- حين رأى محمدا صلى الله عليه وسلم وأصحابه- كلا والله لا نرجع حتى يحكم الله بيننا وبين محمد، وما بعتبة ما قال، ولكنه قد رأى أن محمدا وأصحابه أكلة جزور؛ وفيهم ابنه تخوّفكم عليه)
…
وبعث أبو جهل الى عامر بن الحضرمي فقال: (هذا حليفك يريد أن يرجع بالناس، وقد رأيت ثأرك بعينيك، فقم فانشد خفرتك)«3» . فقام عامر بن الحضرمي فاكتشف، ثم صرخ:(واعمراه!! واعمراه!!) .
ولما علم عتبة بقول أبي جهل: (انتفخ والله سحره) قال: (سيعلم مصفّر أسته- أي الجبان- من انتفخ سحره، أنا أم هو) ؟
ولم يبق مفر ولا مهرب من القتال.
(1) - عقله: ديته.
(2)
- سحر: الرئة وما حولها.
(3)
- الخفر: بضم الخاء أو فتحها هو العهد، وأنشدها: أي أذكرها.