الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مقدمة الطبعة الرابعة إرادة القتال في الجهاد الإسلامي
1
أ- بعث النبي صلى الله عليه وسلم من (الحديبية) عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه إلى مكة المكرمة، ليبلغ أشراف قريش: أن المسلمين لم يأتوا للحرب، وإنما جاءوا زائرين للبيت الحرام ومعظمين لحرمته.
وبلغ عثمان أبا سفيان بن حرب وعظماء قريش عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أرسله به. فقالوا لعثمان حين فرغ من تبليغ رسالته الى قريش: (إن شئت أن تطوف بالبيت فطف)، فقال عثمان: ما كنت لأفعل حتى يطوف به رسول الله صلى الله عليه وسلم.
واحتبست قريش عثمان عندها، فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين، أن عثمان ابن عفان قد قتل، فقال الرسول القائد عليه أفضل الصلاة والسلام:(لا نبرح حتى نناجز القوم) .
ودعا النبي صلى الله عليه وسلم الناس الى البيعة، فكانت بيعة الرضوان تحت الشجرة، وكانت هذه البيعة على الموت.
قال الصحابة الذين شهدوا بيعة الرضوان: (كنا نبايع يومئذ على الموت) .
ب- واستشهد في معركة (اليرموك) الحاسمة عكرمة بن أبي جهل وسهل ابن عمرو والحارث بن هشام، فأتوا بماء وهم صرعى في النزع الأخير، ولكنهم تدافعوا، كلما دفع الى رجل منهم قال: اسق فلانا، حتى ماتوا ولم يشربوه! فقد طلب عكرمة الماء، فرأى سهيلا ينظر إليه، فقال:(ادفعوا الى سهيل) .
ورأى سهيل الحارث ينظر إليه، فقال:(ادفعوه الى الحارث) ، فلم يصل إليه حتى ماتوا.
ج- وكان خالد بن الوليد رضي الله عنه قائدا عاما على المسلمين في أرض الشام فقاد المسلمين في معركة (اليرموك) الفاصلة الى النصر، تلك المعركة التي فتحت أبواب فلسطين والأردن وسورية ولبنان للمسلمين.
وعزله عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو في أوج انتصاراته، ولكن خالدا لم يأنف بهذا العزل، وقال قولته المشهورة:(لا أقاتل من أجل عمر، بل أقاتل من أجل إعلاء كلمة الله) .
د- وشهدت الخنساء الشاعرة المشهورة معركة القادسية الحاسمة، ومعها بنوها أربعة رجال، فحرضتهم على القتال.
وباشر أولاد الخنساء القتال، وقتلوا واحدا بعد واحد، فلما علمت باستشهادهم قالت:(الحمد لله الذي شرفني بقتلهم، وأرجو من ربي أن يجمعني بهم في مستقر رحمته) .
لم تجزع الخنساء على استشهاد أولادها الأربعة تحت لواء الإسلام، وهي التي جزعت أشد الجزع وأعظمه على أخيها صخر بن عمرو السلمي الذي قتل تحت لواء الجاهلية، وبكته أحر البكاء وأغزره، ولا يزال شعرها في (صخر) مضرب الأمثال في العاطفة المتأججة وصدق الرثاء.
2 أ- تلك أمثلة نابضة بالحياة من تاريخنا المجيد، وهي غيض من فيض
…
ولكنها تعطي الجواب العملي الواضح لمعنى: (إرادة القتال) ، كما فهمها وتشرب بها وطبقها السلف الصالح من أجدادنا العرب المسلمين.
فقد رفض عثمان بن عفان رضي الله عنه، أن يطوف بالبيت العتيق وحده دون المسلمين، وهو الذي كان في شوق غامر لهذا الذي دعته إليه قريش طائعة مبادرة، مما يدل على تشبعه بالضبط المتين، فلا يفعل شيئا حتى إذا صادف ذلك الشيء هوى في نفسه، إلا إذا تلقى أوامر قائده صريحة واضحة.
وهو- فوق ذلك- يدل على تشبعه بروح الجماعة وخضوعه لمصالحها العليا، ونبذ مصالحه الذاتية وراءه ظهريا.
وتدافع عكرمة وصحبه الماء وهم في الرمق الأخير، يدل على الإيثار بأروع صوره في أحرج الظروف والأحوال.
وموقف الخنساء عند علمها باستشهاد أولادها الأربعة وهي شيخ رهمة يدل على التضحية بأغلى وأعز شيء في الحياة من أجل المبدأ والعقيدة.
وقولة خالد بن الوليد بعد عزله، تدل على أنه لم يكن يجاهد في سبيل أمجاد شخصية ولا مصالح ذاتية، بل كان يجاهد في سبيل إعلاء كلمة الله.
وكل تلك المواقف، تدل بوضوح، على الإصرار الفذ والعزم الأكيد، على التضحية بكل غال ورخيص، وبكل ما في الدنيا من متاع، من أجل مجد الإسلام.
ب- فما معنى إرادة القتال إذن؟
هي الرغبة الأكيدة في الصمود والثبات في ميدان القتال من أجل مثل عليا وأهداف سامية، وإيمان لا يتزعزع بهذه المثل والأهداف. وثقة بأنها أحب وأعز وأغلى من كل شيء في الحياة، وتحمل أعباء الحرب بذلا للأموال والأنفس واستهانه بالأضرار والشدائد وصبرا في البأساء والضراء وحين البأس، حتى يتم تحقيق تلك المثل العليا والأهداف السامية، مهما طال الأمد وبعد الشوط وكثر العناء وازدادت المصاعب وتضاعفت التضحيات.
ذلك هو مفهوم: (إرادة القتال في الجهاد الإسلامي)، وهو مفهوم لا تطمع في إدراك شأوه مفاهيم: إرادة القتال في العقيدتين العسكريتين الشرقية أو الغربية على حد سواء.
مفهوم: إرادة القتال في الجهاد الإسلامي، مادة وروح، فيه الدعوة الى الخير والسلام، وفيه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفيه الإعراض عن الاستغلال والاستعباد.
ومفهوم: إرادة القتال في الشرق والغرب مادة فقط. فيه الدعوة الى التسلط والاستعمار وفيه إشاعة المنكر والفساد، وفيه حب الحرب وكراهية السلام.
3 أ- فكيف غرس الإسلام مفاهيم إرادة القتال في نفوس المسلمين وعقولهم معا؟
حث الإسلام على (الطاعة) . والطاعة هي الضبط والنظام: (وَقالُوا:
سَمِعْنا وَأَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) «1» .
وأشاع الإسلام معاني الخلق الكريم، ومنه الصبر الجميل:(ثُمَّ جاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ)«2» ، وقال تعالى: (اصْبِرُوا وَصابِرُوا
(1) - الآية الكريمة من سورة البقرة 2: 285. وقد وردت (طاع) ومشتقاتها في تسع وعشرين ومائة من آيات الذكر الحكيم، أنظر التفاصيل في المعجم المفهرس 426- 431.
(2)
- الآية الكريمة من سورة النحل 16: 110.
وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ) «1» ، وقال تعالى:(وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ)«2» .
وغرس الإسلام روح الشجاعة والإقدام: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ. وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ، وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ)«3» .
والتولي يوم الزحف من الكبائر، كما نص على ذلك حديث رسول الله عليه أفضل الصلاة والسلام.
وأمر الإسلام بالثبات في ميدان القتال: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا)«4» .
ودعا الإسلام الى الجهاد بالأموال والأنفس لإعلاء كلمة الله: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ)«5» ، وقال تعالى:(انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالًا، وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ)«6» .
(1) - الآية الكريمة من آل عمران 3: 200.
(2)
- الآية الكريمة من سورة البقرة 3: 177. وقد وردت (صبر) ومشتقاتها في ثلاث آيات ومائة آية من آيات الذكر الحكيم، أنظر التفاصيل في المعجم المفهرس 399- 401.
(3)
- الآيتان الكريمتان من سورة الأنفال 8: 15- 16.
(4)
- الآية الكريمة من سورة الأنفال 8: 45.
(5)
- الآية الكريمة من سورة الحجرات 49: 51.
(6)
- الآية الكريمة من سورة التوبة 9: 41، أنظر تفسير هذه الآية في (الكشاف) للإمام الزمخشري، لتجد أن المسلمين سبقوا العالم الى مفهوم الحرب الشاملة التي تنص على:(إعداد الأمة بكل طاقاتها المادية والمعنوية للحرب)، والتي زعم المشير لو دندروف بعد الحرب العالمية الأولى في كتابه:(الأمة في الحرب) ، بأنه أول من فكر في الحرب الشاملة، بينما أرسى الإسلام أسسها قبل أربعة عشر قرنا.
وبين الإسلام أن المثل العليا لا بد أن تكون لها الأسبقية على كل شيء في الدنيا:
(قُلْ: إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ، وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ)«1» .
وجعل الإسلام مقام الشهداء من أعظم المقامات: (فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ)«2» ، وقال تعالى:
(وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ)«3» ، وقال تعالى:(وَمَنْ يُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً)«4» .
ب- فاذا تذكرنا أن الجهاد في الإسلام، يهدف الى حماية حرية نشر الدعوة الإسلامية والى نشر السلام، والى الدفاع عن دار الإسلام.
وإذا تذكرنا أن تعاليم القتال في الإسلام، تنص على الوفاء بالعهود، واحترام المواثيق، والترفع عن الظلم والعدوان، وإقرار السلام.
وإذا تذكرنا أهداف القتال في الاسلام وتعاليمه، علمنا بأن: إرادة القتال، التي تتغلغل في أعماق المسلم الحق، مبنية على أسس سليمة رصينة، لأن هذا المسلم يؤمن إيمانا عميقا بأنه يخوض (حربا عادلة) ، وهذه الحرب هي (حافز) جديد تجعل من المؤمن مقاتلا رهيبا، كما عبر ذلك العسكريون المحدثون.
(1) - الآية الكريمة من سورة التوبة 9: 24.
(2)
- الآية الكريمة من سورة النساء 4: 69.
(3)
- الآية الكريمة من سورة البقرة 2: 154.
(4)
- الآية الكريمة من سورة النساء 4: 74.
ولكن (إرادة القتال في الجهاد الإسلامي) ، تسيطر على المسلم في ميدان القتال أيام الحرب، كما تسيطر عليه في أيام السلام.
وإن الهدف الحيوي من الحرب هو تحطيم الطاقات المادية والمعنوية للعدو فإذا انتصر عليه في ميدان الحرب، واستطاع أن يحطم طاقاته المادية، فلا بد من جهود أخرى لتحطيم طاقاته المعنوية، ليكون النصر كاملا يؤدي الى الاستسلام.
وهنا تبدأ الحرب النفسية، التي تستهدف الطاقات المعنوية بالدرجة الأولى.
وفي تاريخ الحروب أمثلة لا تعد ولا تحصى، عن انتصارات استطاعت القضاء على الطاقات المادية، ولكنها لم تستطع القضاء على المعنوية، فكانت انتصارات ناقصة استمرت فترة من الزمن ثم أصبح المهزوم منتصرا وأصبح لمنتصر مهزوما.
فكيف يصاول الاسلام الحرب النفسية، ليصون معنويات المسلمين من الانهيار؟
كيف يحافظ الإسلام على إرادة القتال، في أيام السلام؟
لعل أهم أهداف الحرب النفسية هي التخويف من الموت والفقر ومن القوة الضاربة للمنتصر، ومجاولة جعل النصر حاسما والدعوة الى الاستسلام، وبث الاشاعات والأراجيف، وإشاعة الاستعمار الفكري بالغزو الحضاري، وإشاعة اليأس والقنوط.
المؤمن حقا لا يخشى الموت: (إِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا
يَسْتَقْدِمُونَ) «1» . وقال تعالى: (فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ)«2» ، وقال تعالى:(وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ)«3» ، وقال تعالى:(أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ)«4» ، وقال تعالى:(قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ)«5» .
إن المؤمن حقا يعتقد اعتقادا راسخا، بأن الآجال بيد الله سبحانه وتعالى، وما أصدق قولة خالد بن الوليد رضي الله عنه:(ما في جسمي شبر إلا وفيه طعنة رمح أو سيف، وها أنا أموت على فراشي كما يموت البعير، فلا نامت أعين الجبناء) .
والمؤمن حقا لا يخاف الفقر، لأنه يعتقد اعتقادا راسخا، بأن الأرزاق بيد الله سبحانه وتعالى:(وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ)«6» ، وقال تعالى:
(وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ)«7» ، وقال تعالى:
(فَآواكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)«8» .
والمؤمن حقا لا يخشى قوات العدو الضاربة، فما انتصر المسلمون في أيام الرسول القائد عليه أفضل الصلاة والسلام وفي أيام الفتح الإسلامي العظيم، لعدد أو عدد، بل كان انتصارهم انتصار عقيدة لامراء. قال تعالى: (قالَ الَّذِينَ
(1) - الآية الكريمة من سورة يونس 10: 49.
(2)
- الآية الكريمة من سورة الأعراف 7: 34، ومن سورة النحل 16:61.
(3)
- الآية الكريمة من سورة آل عمران 3: 145.
(4)
- الآية الكريمة من سورة النساء 4: 78.
(5)
- الآية الكريمة من سورة آل عمران 3: 154.
(6)
- الآية الكريمة من سورة البقرة 2: 212.
(7)
- الآية الكريمة من سورة الطلاق 15: 20.
(8)
- الآية الكريمة من سورة الأنفال 8: 26.
يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللَّهِ: كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ، وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) «1» ، وقال تعالى:(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ، إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ، وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ)«2» .
والمؤمن حقا لا يقر بانتصار أحد عليه ما دام في حماية عقيدته، لذلك فهو يعرف أن الانتصار في معركة قد يدوم ساعة ولكنه لا يدوم الى قيام الساعة:
(إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ، وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ)«3» .
والمؤمن حقا لا يستسلم بعد هزيمته، لأنه يعلم بأن بعد العسر يسرا:(وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ، وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ)«4» ، وقال تعالى:(وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)«5» .
والمؤمن حقا لا يصدق الإشاعات والأراجيف: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا)«6» ، وقال تعالى:(لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ)«7» ، وقال تعالى:(وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ، لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ)«8» .
(1) - الآية الكريمة من سورة البقرة 2: 249.
(2)
- الآية الكريمة من سورة الأنفال 8: 65.
(3)
- الآية الكريمة من سورة آل عمران 3: 140.
(4)
- الآية الكريمة من سورة المنافقين 63: 80.
(5)
- الآية الكريمة من سورة يونس 10: 65.
(6)
- الآية الكريمة من سورة الحجرات 49: 60.
(7)
- الآية الكريمة من سورة الأحزاب 32: 60.
(8)
- الآية الكريمة من سورة النساء 4: 83.
والمؤمن حقا يقاوم الاستعمار الفكري ويصاول الغزو الحضاري لأن له من مقومات دينه وتراث حضارته، ما يصونه من تيارات المبادىء الوافدة التي تذيب شخصيته وتمحو آثاره من الوجود.
والمؤمن حقا لا يقنط أبدا ولا ييأس من نصر الله ورحمته: (لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً)«1» ، وقال تعالى:(وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ)«2» ، وقال تعالى:(وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ)«3» ، وقال تعالى:(وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُسٌ قَنُوطٌ)«4» .
5 ولكن القول بأن الحوافز الروحية وحدها هي التي تؤجج إرادة القتال في المؤمن الحق، لا يغني عن كل قول.
والواقع أن في الاسلام حوافز (مادية) لا تقل أهمية عن الحوافز (الروحية) تعمل جنبا لجنب لترصين ارادة القتال، في نفوس المسلمين وعقولهم معا.
ومن أهم الحوافز المادية: عدم الاستهانة بالعدو أولا، والإعداد الحربي تدريبا وتسليحا وتنظيما وتجهيزا وقيادة ثانيا.
لقد استهان المسلمون بعدوهم يوم (حنين) . فغلبوا على أمرهم في الصفحة الأولى من صفحات ذلك اليوم العصيب: (وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ، فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً، وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ)«5» .
(1) - الآية الكريمة من سورة الزمر 39: 53.
(2)
- الآية الكريمة من سورة الحجر 45: 56.
(3)
- الآية الكريمة من سورة الروم 30: 36.
(4)
- الآية الكريمة من سورة فصلت 41: 49.
(5)
- الآية الكريمة من سورة التوبة 9: 25.
والحذر واليقظة من مظاهر عدم الاستهانة بالعدو: (وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ)«1» ، وقال تعالى:(يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ)«2» ، وقال تعالى:(وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا)«3» ، وقال تعالى:(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ)«4» ، وقال تعالى:(فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ)«5» .
إن الاستهانة بالعدو، تؤدي حتما الى الاندحار، وما أصدق المثل العربي القائل:(إذا كان عدوك نملة، فلا تنم له) .
والإعداد الحربي إعدادا متكاملا، يرفع المعنويات ويقوي الثقة بالنفس ويلهب مزية إرادة القتال، قال تعالى:(وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ، وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ)«6» ، وقال تعالى:(وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ)«7» .
تلك هي معالم: (إرادة القتال في الجهاد الإسلامي) ، وتلك هي الحوافز المادية والمعنوية التي جاء بها الاسلام، ليجعل من الأمة المسلمة التي تعمل بتعاليمه أمة لا تقهر أبدا.
(1) - الآية الكريمة من سورة التوبة 9: 53.
(2)
- الآية الكريمة من سورة المنافقين 63.
(3)
- الآية الكريمة من سورة المائدة 5: 92.
(4)
- الآية الكريمة من سورة النساء 4: 71.
(5)
- الآية الكريمة من سورة النساء 4: 102.
(6)
- الآية الكريمة من سورة الأنفال 8: 60.
(7)
- الآية الكريمة من سورة الحديد 57.
ذلك لأن الاسلام بتعاليمه السمحة الرضية، جعل من المسلم الحق مطيعا لا يعصى، صابرا لا يتخاذل، شجاعا لا يجبن، مقداما لا يتردد، مقبلا لا يفر، صامدا لا يتزعزع، مجاهدا لا يتخلف، مؤمنا بمثل عليا، مضحيا من أجلها بالمال والروح، يخوض حربا عادلة لإحقاق الحق وإزهاق الباطل.
لا يخاف الموت، ولا يخشى الفقر، ولا يهاب قوة في الأرض، يسالم ولا يستسلم، ولا تضعف عزيمته الأراجيف والإشاعات، لا يستكين للاستعمار الفكري، ويقاوم الغزو الحضاري، ولا يقنط أبدا ولا ييأس من رحمة الله.
هذا المسلم الحق يقظ أشد ما تكون اليقظة، حذر أعظم ما يكون الحذر، يتأهب لعدوه ويعد العدة للقائه، ولا يستهين به في السلم أو الحرب.
فلا عجب أن يكون هذا المسلم الحق، متحليا بمزية: إرادة القتال، بل العجب كل العجب في ألا يكون.
وهذا ما يفسر لنا سر الفتح الإسلامي العظيم الذي امتد خلال ثمانين عاما «1» من الصين شرقا الى فرنسا غربا، ومن سيبيريا شمالا الى المحيط جنوبا.
ذلك لأن شعار المسلمين كان: (قُلْ: هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ)«2» ، النصر أو الشهادة.
ولأن المسلمين كانوا يحرصون على الموت حرص غيرهم على الحياة: (الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ، فَزادَهُمْ إِيماناً وَقالُوا حَسْبُنَا
(1) - من عام أحد عشر للهجرة الى عام اثنين وتسعين للهجرة.
(2)
- الآية الكريمة من سورة التوبة 9: 52.
اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ. فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ، لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ، وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ اللَّهِ، وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ) «1» .
وأشهد أنني لم أقرأ، حتى في كتب التعبية «2» وسوق الجيش الفنية «3» الصادرة في النصف الثاني من القرن العشرين، أوضح تعبيرا وأدق تعريفا وأكثر شمولا وأوجز عبارة، مما جاء في القرآن الكريم في هذه الآية الكريمة تعريفا لإرادة القتال.
بل لا يقتصر معناها على إرادة القتال وحدها، بل يشمل تعريف: المعنويات العالية أيضا.
تلك هي عظمة القرآن الكريم، حتى المجالات العسكرية، ولكن يا ليت قومي يعلمون.
6 والسؤال الذي يتردد اليوم هو: ألسنا مسلمين؟ وإذا كنا مسلمين، فلماذا لا ينصرنا الله على أعدائنا؟
والجواب على هذا السؤال، يورده القرآن الكريم بصراحة ووضوح.
قال تعالى: َ كانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ)
«4» ، فهل نحن مؤمنون حقا؟
وقال تعالى: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا، إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ)«5» ، فهل نصرنا الله حقا حتى ينصرنا ويثبت أقدامنا؟
(1) - الآية الكريمة من سورة آل عمران 3: 173.
(2)
- التعبية: التاكتيك.
(3)
- الشوق الاستراتيجي.
(4)
- الآية الكريمة من سورة الروم 30: 47.
(5)
- الآية الكريمة من سورة محمد 47: 70.
وقال تعالى: (وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ، إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ. الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ، وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ)«1» فهل أقمنا الصلاة وآتينا الزكاة حقا وأمرنا بالمعروف ونهينا عن المنكر حقا؟
وقال تعالى: (انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالًا، وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ)«2» ، فهل نفرنا خفافا وثقالا، وهل جاهدنا بأموالنا وأنفسنا في سبيل الله؟
ولكن، ما مصير الذين لا ينفرون؟ قال تعالى:(إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً)«3» .
كيف ينصرنا الله، ونحن لا نطبق تعاليمه، وهل ورد في القرآن ما يشير الى أن الله ينصر المسلمين الذين يتقبلون الاسلام بدون تكاليفه في الجهاد والعمل الصالح؟
إن هذا الأمر لا يصلح إلا بما صلح به أوله: العودة الى الاسلام وحينذاك سيقول يهود، كما قالوا من قبل:(إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ)«4» . ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله.
والحمد لله كثيرا، وصلى الله على سيدي ومولاي رسول الله، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
محمود شيت خطاب
(1) - الآيتان الكريمتان من سورة الحج 9: 41.
(2)
- الآية الكريمة من سورة التوبة 9: 41.
(3)
- الآية الكريمة من سورة التوبة 9: 39.
(4)
- الآية الكريمة من سورة المائدة 5: 22.