الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وأصحابه) ! قالت: (والله ما أرى أنه يقوم لمحمد وأصحابه شيء) . فاذا كان هذا مقدار معنويات المشركين في مكة، فكيف تستطيع المقاومة، وكيف لا تتردد في الإقدام على القتال؟
إني أعتبر أن فتح مكة قد تمّ للمسلمين من يوم عمرة القضاء، لأن هذه العمرة أثرت في معنويات قريش أعظم التأثير.
إن عمرة القضاء فتحت قلوب قريش، وغزوة الفتح فتحت أبوابها.
ومما زاد في انهيار معنويات قريش وشلّ كل روح للمقاومة فيها، ما اتخذه الرسول صلى الله عليه وسلم من ترتيبات إيقاد عشرة آلاف نار في ليلة الفتح، ومرور الجيش كله بأبي سفيان قائد قريش أو أكبر قائد فيها، ودخول أرتال المسلمين من كل جوانب مكة.
لقد كانت معركة (الفتح) معركة معنويات لا معركة ميدان.
6- السلم:
حرص الرسول صلى الله عليه وسلم منذ خروجه من المدينة المنورة حتى فتح مكة المكرمة على نياته السلمية، ليؤلف بذلك قلوب المشركين، ويجعلها تقبل على الاسلام.
إيقاد النيران في ليلة الفتح بشكل لم تعرف له العرب مثيلا من قبل، يستهدف القضاء على روح المقاومة في قريش، ويجبرها على الاستسلام دون قتال.
ومرور الجيش بأبي سفيان، يستهدف إقناعه بعدم جدوى المقاومة، ليعمل من جانبه على إقناع قريش بهذا الرأي.
(ومن دخل دار أبي سفيان أو أغلق عليه بابه أو التجأ الى البيت الحرام فهو آمن) ، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم، ومعناه: منع تجمع قريش للمقاومة وإجبارهم على الاستسلام.
بل إن دخول أرتال المسلمين من كل جانب من جوانب مكة، لا يعني إلا إقناع قريش باستحالة المقاومة.
كما عهد صلى الله عليه وسلم الى أمرائه حين أمرهم أن يدخلوا مكة، ألّا يقاتلوا إلا من قاتلهم.
كل ذلك كان يستهدف السلم وحقن الدماء.
وبقي الرسول صلى الله عليه وسلم مصرا على نياته السلمية بعد الفتح أيضا، فقد أصدر العفو العام عن قريش «1» وقال لهم:(اذهبوا فأنتم الطلقاء) .
(1) - أمّن رسول الله (ص) الناس حاشا عبد العزّى بن خطل وعبد الله بن سعد بن أبي سرح وعكرمة بن أبي جهل والحويرث بن نقيذ بن وهب بن عبد بن قصي ومقيس بن صبابة وقينتي ابن خطل وهما فرتنا وصاحبتها، وسارة مولاة لبني عبد المطلب. أما ابن خطل، فكان قد أسلم وبعثه (ص) مصدّقا وبعث معه رجلا من المسلمين فعدا عليه وقتله ولحق بالمشركين، فوجد يوم الفتح وقد تعلق بأستار الكعبة، فقتله سعيد بن حريث المخزومي وأبو برزة الأسلمي. وأما عبد الله بن سعد بن أبي سرح، فكان يكتب لرسول الله (ص) ، ثم لحق بمكة فاختفى، فأتى به عثمان بن عفان رسول الله (ص) وكان أخاه من الرضاعة، فاستأمن له، فأمنه النبي (ص) . وأما عكرمة بن أبي جهل ففر الى اليمن فأتبعته امرأته أم حكيم بنت الحارث بن هشام فردته، فأسلم وحسن إسلامه، ثم أصبح من قادة الفتح الاسلامي. وأما الحويرث بن نقيذ، وكان يؤذي رسول الله (ص) ، فقد قتله علي بن أبي طالب يوم الفتح. وأما مقيس بن صبابة، فكان قد أتى النبي (ص) مسلما ثم عدا على رجل من الأنصار فقتله لقتله أخاه خطأ، فقتله يوم الفتح نميلة بن عبد الله الليثي وهو ابن عمه. وأما قينتا ابن خطل، فقتلت إحداهما واستؤمن للأخرى، فأمنها رسول الله (ص) ، فعاشت الى أن ماتت بعد ذلك بمدة، وكانتا تغنيان بهجو رسول الله (ص) . وأما سارة فاستؤمن لها أيضا، فأمنها رسول الله (ص) . واستتر رجلان من بني مخزوم عند أم هانىء بنت أبي طالب فأمنتهما، فأمضى رسول الله (ص) أمانها لهما، وقيل إنهما الحارث بن هشام وزهير بن أبي أمية أخو أم سلمة، فأسلما وكانا من خيار المسلمين. وهكذا لم يقتل من أهل مكة وهم ألد أعداء الإسلام والمسلمين يوم الفتح غير ثلاثة رجال وامرأة واحدة!! وهذا منتهى التسامح والإنصاف.
وكما حرص النبي صلى الله عليه وسلم على السلم الإجماعي حرصه على السلم للأفراد، فمنع القتل حتى لفرد من المشركين.
قتلت خزاعة حلفاء المسلمين رجلا من هذيل غداة يوم الفتح لثأر سابق لها عنده، فغضب الرسول صلى الله عليه وسلم أشد الغضب، وقام في الناس خطيبا، ومما قاله:
(يا معشر خزاعة! ارفعوا أيديكم عن القتل فقد كثر إن نفع، لقد قتلتم قتيلا لأدينه، فمن قتل بعد مقامي هذا فأهله بخير النظرين: إن شاءوا فدم قاتله، وإن شاءوا فعقله- أي ديته-) .
ثم ودى بعد ذلك الرجل الذي قتلت خزاعة.
بل إن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يقتل رجلا من المشركين أراد اغتياله شخصيا وهو يطوف في البيت الحرام، بل تلطّف معه؛ فقد اقترب منه فضالة بن عمير يريد أن يجد له فرصة ليقتله، فنظر إليه النبي صلى الله عليه وسلم نظرة عرف بها طويّته، فاستدعاه وسأله: «ماذا كنت تحدّث به نفسك) ؟! قال: (لا شيء! كنت أذكر الله) . فضحك النبي صلى الله عليه وسلم وتلطّف معه ووضع يده على صدره، فانصرف الرجل وهو يقول:(ما رفع يده عن صدري، حتى ما من خلق الله شيء أحبّ إليّ منه) .
لقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يستهدف من حرصه على السلم تأليف قلوب الناس وتوحيد كلمتهم ليقبلوا طائعين على الاسلام، فلم يكن من السهل على قريش أن تقبل بمصيرها الذي آلت إليه وهي كانت سيدة العرب غير منازع، لأنها أعظمهم حضارة وأشدهم بأسا وأكثرهم مالا وفي بلدها البيت الحرام.
ليس من السهل أن ترضى قريش بمصيرها هذا وتقبل على الاسلام طائعة وتحمل رايات الجهاد، لو لم تعامل هذه المعاملة السلمية التي لم تكن تتوقعها؛ وبذلك انقلب موقفها من أشد الناس عداوة للإسلام الى أحرص الناس على رفع راية الاسلام.