الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بجمود الفطنة، وكثرة البله، وكل إناءٍ بالذي فيه يرشُحُ (1)، ولو كنتَ من أهل المغاصات الغامضة، والأذهان السَّيَّالة، والقرائحِ الوقادة، لظهر ذلك في رسائلك، فلا مخبأ بعد بوس، ولا عِطرَ بعد عَرُوس (2)، فكيف تعيبُ الخصوم بعيبٍ أنت بمثله موصوم؟
وكيفَ يَعيبُ العُورَ من هُو أعوَرُ
السادس: أنّ الفلاسفة تدَّعي من التَّحذلق مثل ما أنت مُدَّعٍ
، ونعتقد في علماء المتكلمين من المسلمين كلهم من البله مثل ما أنت معتقد في المُحدثين، فإنهم يدَّعون أن المسلمين غيرُ ممارسين للعلوم العقلية على ما ينبغي، وأنهم همُ السُّبَّاق إلى تأسيس علم المعقول، ووضع قوانين البراهين في فنِّ المنطق، وأنّهُمُ المستبدُّون بذلك، لصفاء أذهانهم، وشدَّة غوصهم على الغوامض، وكما أن ذلك -وإن كان حقّاً- لا يوجب صحة ما كنتم عليه من الكفر المعلوم، وكذلك تشبُّثُ كثيرٍ من المتكلمين ببعض أساليب الفلاسفة في النظر والجدل لا يُوجِبُ صحَّة ما هم عليه من البدع، هذا إن سلَّمتَ أنّ المدقِّق قد يَضِلُّ الطريق، ولا ينفعه التدقيق، وإن لم تُسلِّم ذلك، فاتخذهم أئمة، وانسلخ عن هذه الأُمة، وفي هذا أكبرُ دليلٍ على نقض ما توهَّم المعترِضُ من تعليل إبطال المبطلين بعدم مُمارسة دقائق العلوم.
(1) في (أ): راشح.
وهو مثل يُضربُ في إفصاح الرجل بما يطبع به، إن خيراً فخير، وإن شرّاً فشر، وهو في الأمثال:" كُلُّ إناءٍ يرشحُ بما فيه "، ويروى:" ينضَحُ بما فيه ". انظر " مجمع الأمثال " للميداني 2/ 162، و" المستقصى " للزمخشري 2/ 224.
(2)
وهذا المثل قيل فيه أكثر من مناسبة، فيضرب على ذم ادخار الشيء وقت الحاجة إليه، ويضرب على الاستغناء عن ادخار الشيء لعدم من يدخر له. وانظر:" فصل المقال " لأبي عبيد ص 426 - 427، و" مجمع الأمثال " 2/ 211 - 212، و" المستقصى " 2/ 263 - 264.
السابع: كان المسلمون أمةً واحدةً في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأيَّام الخلفاء الراشدين، ليس (1) بينهم خلافٌ في أمر العقيدة، وعُلِمَ من النبي صلى الله عليه وسلم، ومن الخلفاء الراشدين أن الذي كان عليه المسلمون في أعصارهم هو سبيل الهدى، ومنهجُ الحق، وطريق (2) السلامة، حتَّى مارستم هذه العلوم، وتركتم الجمود، وسالت أذهانكم بالحقائق، وغُصتم على خفيات الدقائق، وضلت من ثلاثٍ وسبعين فرقةً اثنتان وسبعون فرقة، ولم يبق من الأمة ببركة هذه الممارسة على الهدى عُشرُها ولا عُشرُ عُشرِها، وأنتم تدَّعُون أن المعتزلة منها، فالمعتزلةُ عشرُ فِرَقٍ كما ذكره إمامُ علومهم عليُّ بنُ عبد الله بن أبي الخير وغيره، وهم مختلفون في عقلياتٍ تجب (3) عندكم وعندهم القطع بقبح الاختلاف فيها، وتحريم أحد القولين، واحتمال الفسق في ذلك الاختلاف عند جميعكم، ومن أجاز منكم ومنهم كفراً لا دليلَ عليه، جوَّز في جميع ذلك الخلاف أن يكون كُفراً.
والشيعة أكثر فِرَقَاً، وأشدُّ اختلافاً من المعتزلة.
والزيديةُ فرقةٌ واحدةٌ من الشيعة (4) قد تفرَّقت إلى مخترعة، ومطرفيَّة، وجاروديَّة (5)، وصالِحِيَّة (6)، وحُسينيَّة، وفي الفُروع مؤيّدية،
(1) في (ش): من ليس.
(2)
من قوله: " الخلفاء الراشدين " إلى هنا ساقط من (ب).
(3)
في (ش): ثم.
(4)
في (ش): والشيعة.
(5)
هم أصحابُ أبي الجارود زياد بن أبي زياد، وقد زعمُوا أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم نصَّ على علي بن أبي طالب بالوصف دون التسمية، وأنه الإمام بعده، وأن الناس ضلوا وكفروا بتركهم الاقتداء به واختيارهم أبا بكر، وانظر " مقالات الإسلاميين " ص 66 - 67، و" الملل والنحل " للشهرستاني 1/ 157 - 159.
(6)
هم أصحابُ الحسن بن صالح بن حي، وكذلك البترية أصحاب كثير النواء الأبتر، =
وهادَوِيَّة (1)، وناصِرِيَّة (2)، وقاسِمِيَّة (3)، وأهلُ الكوفة منهم على مذهب أحمد بن عيسى (4)، والحسن بن يحيى، ومحمد بن منصور كما ذكره صاحب " الجامع الكافي "، ووقَعَ بينهم تفسيق وتأثيم على الاختلاف في
= وهما متفقان في المذهب، يزعمون أن علياً أفضل الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأولاهم بالإمامة، وأن بيعة أبي بكر وعمر ليست بخطأ، لأن علياً ترك ذلك لهما، ويقفون في عثمان وفي قتلته، ولا يقدمون عليه بإكفار، ويرون أن من شهر سيفه من أولاد الحسن والحسين رضي الله عنهما، وكان عالماً، زاهداً، شجاعاً، فهو الإمام، وينكرون رجعة الأموات إلى الدنيا.
انظر " مقالات الإسلاميين " ص 68 - 69، و" الملل والنحل " 1/ 161 - 162.
(1)
هم أصحاب الإمام الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين بن القاسم الرسي المتوفى سنة 298 هـ، ولد سنة 245 هـ، قام هادياً مرشداً يدعو إلى الله سبحانه وإلى صراطه المستقيم، وكان مرجعاً في الدين من كل الطوائف الإسلامية، ومن أقواله المأثورة عنه:" إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن ليخترع أمراً دون علم الله سبحانه وتعالى، كما حكى القرآن عنه صلى الله عليه وسلم إذ قال: {إن أتبع إلا ما يوحى إليَّ}. وانظر " الإمام زيد " لأبي زهرة ص 509 - 516.
(2)
هم أصحاب أبي محمد الحسن بن علي بن الحسن بن علي بن عمر بن علي بن الحسين، وتلقب بالناصر الكبير، ويُسمى الأطروش لطرش أصابَ أذنيه، المتوفى سنة 304 هـ، قال الشهرستاني في " الملل ": لم ينتظم أمر الزيدية حى ظهر بخراسان ناصر الأطروش، فطلب مكانه ليقتل، فاختفي، واعتزل إلى بلاد الديلم والجبل، وهم لم ينحلوا بدين الإسلام، فدعا الناس دعوة إلى الإسلام على مذهب زيد بن علي، فدانوا بذلك، وبقيت الزيدية في تلك البلاد ظاهرين، وكان يخرج واحد بعد واحد من الأئمة ويلي أمرهم.
وكان الناصر محيطاً بعلم السنة والسلف الصالح وعلم آل البيت، ويعتمد على الآثار والنصوص، انظر " الإمام زيد " ص 497 - 499.
(3)
نسبة إلى كبيرهم القاسم بن إبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيم طباطبا بن الحسن، بن الحسن بن علي المتوفى سنة 242 هـ وقد نشأت القاسمية ببلاد الحجاز، وكانت آراؤها ضمن الإطار الزيدي، وكان لهذا المذهب شأن باليمن، لأن حفيد القاسم تلقى علم جده، ونشر المذهب الزيدي باليمن بعد أن اختار منه، فصارت زيدية الحجاز واليمن على مذهبه ومذهب جده. انظر الإمام زيد ص 495 - 497.
(4)
حفيد الإمام زيد، نشأ في العراق، وكان منصرفاً إلى الاجتهاد الفقهي والفتيا حتى قيل: إنه فقيه آل البيت، صنف الأمالي في الفقه، وقرن فيه الفروع الفقهية بالأدلة ووجه استنباطها، وكان زاهداً متعبداً، ومجاهداً مقاتلاً، واختفي بالبصرة بعد أن تخلص من حبس الرشيد له إلى أن مات سنة 247 هـ انظر " الإمام زيد " ص 493 - 495.
الفروع -كما حكاه السيد أبو العباس في تلفيقه رحمه الله، دَعْ عنك الأصول- واشتد اختلافُهم (1) من بعد الإمام المنصور بالله عليه السلام في الأئمَّة، فافترقوا على الإمام الدَّاعي، وعلى الإمام المهدي أحمد بن الحسين افتراقاً قبيحاً كفَّر (2) بعضُهم بعضاً.
وعامَّة هذه البدع والشِّيع (3) إنما كانت بسبب ترك (4) الجمود، وسيلان الأذهان، فلا عَدِمَكُمُ المسلمون، زيدُوا في هذا السيلان والممارسة لعلوم اليونان، فما يحصُلُ منها غداً إلَاّ مثلُ ما حصل منها أمس، فقد عرفتُ مضرتها بأعظم التجربة، وما عُرِفَ الداء الذي يجبُ اجتنابه في الطب احترازاً على الأبدان إلا بدون هذه التجربة، فكيف لا يحترز على الأديان من هذه المضرَّة العظمى بعد مثل هذه التَّجارِب الدائمة؟
فإن كان المحدِّثون ما استحفُّوا منك السُّخرية والاستهانة إلَاّ لعدم دخولهم معكُم في هذه الممارسة، فالأمرُ في ذلك مجبور (5)، ولهم أُسوة يُعزُّون بها أنفُسهم بالصحابة، والتَّابعين، بل بالأنبياء والمرسلين، وأمَّا الأعذارُ الموجبة عندكم لهذه الممارسة، فسوف يأتي بيانُها والجوابُ عنها قريباً إن شاء الله تعالى.
(1) في (ش): خلافهم.
(2)
في (ش): كفرت.
(3)
في (ب): الشنع.
(4)
تصحفت في (ش) إلى " تلك ".
(5)
في (ب): مجبوب.
تم بعونه تعالى الجزء الثالث من
العواصم والقواصم
ويليه الجزء الرابع وأوله:
أخبرنا ما سبب توهمك لاختصاصك بالذكاء دون المحدثين.