الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ضَمْيَرَةَ مخلوقين أو غيْر مخلوقين، كما مر تقريرُ ذلك في المسألة الأولى.
الوجه السابع: أنَّ الخبَرَ إذا وَرَدَ في شَيْءٍ، ظهر في الأصل ظُهوراً عامَّاً
، وقضتِ العادَةُ في ذلك الأمْرِ أنْ يُنْقَل نقلاً عامَّاً، ثُمَّ ورَدَ ذلك الخَبَر وُرُودَاً خاصَّاً، فإنه لا يُقْبَلُ، وقد ذكر هذا عدَد كثير من علماءِ الأصول وأهلِ علم النظرِ، منهم المنصورُ بالله عليه السلام، فإنه قال في كتاب " الصَّفْوَة " ما لفظه: قال شيخُنا رحمه الله: فأمَّا إذا ورد الخَبَرُ بشيْءٍ ظهر في الأصل ظهوراً عاماً، والعادةُ جارية فيما ظهر ذلك الظُّهور (1) أن يُنقل نقلاً عاماً، ثم ورد ذلك خاصَّاً، فإنه لا يُقْبَل. قال عليه السلام: وهو الذي نختارُه، وقد خالف ذلك أبو علي (2)، وقال: إنَّه يُقْبَلُ.
قال عليه السلام: ومثَال المَسْأَلَةِ: الجَهْرُ بـ (بِسْمِ اللهِ الرحمنِ الرحيم).
قال عليه السلام: والدَّليلُ على ما ذهبنا إليه، أن كُلَّ أَمْرَيْنِ استويا في الظُّهور، وكان الدَّاعي إلى نقل أَحَدِهِما كالداعي إلى نقل الآخر، فإنهُ يجبُ أن يستويَ نقلهما، لأنَّ ما دعا إلى نقل أَحَدهِمَا هو بِعَيْنِهِ يدعو إلى نقلِ الآخر، لولا ذلك، لجوَّزْنَا أن يكون امرؤ القيس قد عُورِضَ بقصائدَ تَبْرزُ على شعره في الفصاحَةِ والجَزَالَةِ (3)، ولم يُنْقَلْ إلينا، ولجَوََّزْنَا أن تكون قد عُورِضتَ مُعْجزاتُه - يعني النبي صلى الله عليه وسلم بما هو أَبْهَرُ مِنْها، وإنَّما لم يُنْقَل إلينا، وكذلك القرآن الكريم، كُنا نُجَوِّز معارضتَه على هذا القول على ما هو مُساوٍ لَهُ في النظْمِ والفصاحة، أو مُبَرِّزُ عليه، وإن لم يُنْقل على
(1) في (ب): لظهور.
(2)
هو الجبائي محمد بن عبد الوهاب البصري شيخ المعتزلة، تقدم التعريف به في 2/ 318.
(3)
تحرفت في (ش) إلى: " الحوالة ".
حَدِّ نقله، وكلُّ ذلِك لا يجوز؛ لأن كل ما دعا إلى نقل أَحَدِهِمَا بعينه يدعو إلى نقلِ الآخرِ، ولا وَجْهَ يُوجِبُ نقلَ أحدهما دون الآخر مع الاستواء، فوجب أن يُقتضى بفساده -إلى قوله عليه السلام: فإذا لم يُنْقَلْ إلينا أَحَدٌ الأمرين مع استوائِهمَا في باب الدَواعي إلى نقلهما، علِمْنَا بذلك أنهُما لم يَسْتَوِيَا في الظهور في الأصل. انتهى كلامُه عليه السلام.
ولما عَرَفَ المنصور بالله (1) أنَّهُ يلزَمُ مِنْ هذا القطْع بأنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم لمْ يَكُنْ يجهر بالتَسْمِيَة (2) مثلَ جَهْرِه بالفاتحة، إذن لاستوى نقلُهما، فلمَّا نُقِل الجَهْرُ بالفاتِحَة تواتُراً و (3) إجماعاًً، والجهْر بالبسملة ظنَّاً وآحاداً، علمنا بذلك عدم استوائهِما في زمانه عليه السلام، فيجبُ رد حديثِ مَنْ نَقَل ما يقتضي (4) استمرارُه عليه السلام على حالَة واحِدَة، فَحينَ رأى المنصور (5) عليه السلام هذا السؤال وارداً -ولم يكنِ القَوْلُ بإخفاء البَسْمَلةِ مذهبَهُ- أشار إلى الجواب، فقال عليه السلام: فأما الجهر بالتَسمية والفاتِحَةِ، فقد عللَ شيخُنا رحمه الله تعذُّر استوائِهِمَا في ظهورِ النقل بِعلةٍ ظاهِرَة، وهي أنهما لم يستويا في الأصل، لأن النبِي صلى الله عليه وسلم كان يجهر بالتَّسمية حالَ اشتغال المسلمين بالتكبيرة، فبعضُهم يسْمَعُه يجهر، وبعضُهم لا يسمعُه مِنْ رَهَجِ (6) التكْبيرِ، وليس كذلك الفاتِحَةُ. انتهى
(1) جملة " ولما عرف المنصور بالله " ساقطة من (ب).
(2)
في (ش): بالبسملة.
(3)
الواو ساقطة من (ب).
(4)
في (ب): يقضي.
(5)
في (ش): المنصور بالله.
(6)
أي: انتشار أصواتهم بالتكبير، وارتفاعها، وأصل الرهج: الغبار، وأرهج الغبار: أثاره، ومن المجاز: ولَه بالشر لهج، وله فيه رهج، وأرهجوا في الكلام والصخب. وفي (ج) و (ش): وهج.
كلامُه عليه السلام.
وقد اخْتَلَفَ العلماءُ في هذا الجواب الذي ذكره عليه السلام، فهو جوابٌ معروفٌ مُتَداوَلُ بين الأصوليِّين، فمنهم من قوَّاه، وهؤلاء نظروا إلى الجَهْر بعد التَكبيرة الأولى، ومنهم مَنِ اسْتضعفه، وهؤلاء نظروا إلى الجهر أوَّلَ الرَّكعة الثَّانية، وفي أول السورة بعد الفاتحة.
وَقَدِ اعتذر الشيخُ أبو الحُسين عن هذا بأن القارىء يبتدىء القراءَةَ بصوتٍ ضعيف، وفيه نَظَرٌ لوجهين.
أحدهما: أنَّه كان يلزمُ التّواتُر في التسمية عند قراءة السورة بعد الفاتحة، لأنها تكون بعد قوة صوت القارىء.
وثانيهما: كان يلزمُه أن لا يتواتَرَ الجهرُ بأولِ الفاتِحَة، لأنَّه يكون عند ضعفِ صوته، وأيضاًً فقد اشتركا في الجهر الذي يسمعهُ من بعده من المؤتمِّين سيَّما في الركعة الثانية، والحامِلُ على التَّبليغِ هو السماع، لا شدَّةُ الصَوتِ وخِفَّتُه، وقوَّتُه وضعفُه، بحيث لو كان ضعفُ صوته مستمراً، لنُقلَ أنَّه جَهَرَ.
وقد ذكر عن الفقيه علي بنِ عبد الله هذين الوجهين في الجواب في تعليقه على " الجوهرة "، وضعَّفَهُما.
إذا تقرر هذا، فهذه عِلةٌ مانعة مِنْ صِحَّة أحاديثِ الجهر، فَمَنْ ترك العمَلَ بها لهذه العِلة، لم يستحِق الإنكارَ عندَ أحدٍ من الأئِمَّة الأطهار، ولا عندَ غيرهم من عُلماءِ الأقطار، ولا يُنْسَبُ إلى تقديم الفُسَّاق على إمامي الأئِمَّة: الهادي والقاسم عليهما السلام.
الوجه الثامن: أنَّ هذِهِ الأحاديثَ الواردَةَ في هذه المسأَلَةِ هِيَ مِنَ
الأحاديث الوارِدَةِ فيما تَعُمُّ به البلوى، مثل أحاديث الوضوءِ ممَّا مسَّتِ النَّار (1)،
(1) أخرج مسلم (352)، وأبو داود (194)، والترمذي (79)، والنسائي 1/ 105 - 106 من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" توضؤوا مما مست النار "، وفي رواية الترمذي: فقال له ابن عباس: يا أبا هريرة، أنتوضأ من الدهن، أنتوضأ من الحميم؟ فقال أبو هريرة: يا ابن أخي، إذا سمعت حديثاًً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا تضرب له مثلاً. وانظر تعليق الشيخ أحمد شاكر، رحمة الله عليه.
وأخرجه مسلم أيضاً (353) من حديث عائشة.
وأخرجه أبو داود (195)، والنسائي 1/ 107 من حديث أم حبيبة.
وأخرجه النسائي 1/ 106 - 107 من حديث أبي أيوب الأنصاري، ومن حديث أبي طلحة، ومن حديث زيد بن ثابت.
قال الحازمي في " الناسخ والمنسوخ " ص 47: وقد اختلف أهل العلم في هذا الباب، فبعضهم ذهب إلى الوضوء مما مست النار، وممن ذهب إلى ذلك ابن عمر، وأبو طلحة وأنس بن مالك، وأبو موسى، وعائشة، وزيد بن ثابت، وأبو هريرة، وأبو عزة الهذلي، وعمر بن عبد العزيز، وأبو مجلز لاحق بن حميد، وأبو قلابة، ويحيى بن يعمر، والحسن البصري، والزهري.
وذهب أكثر أهل العلم وفقهاء الأمصار إلى ترك الوضوء مما مست النار، وراوه آخر الأمرين من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وممن لم ير منه وضوءاً: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وابن مسعود، وابن عباس، وعامر بن ربيعة، وأُبي بن كعب، وأبو أمامة، وأبو الدرداء، والمغيرة بن شعبة، وجابر بن عبد الله رضوان الله تعالى عليهم أجمعين، ومن التابعين عبيدة السلماني، وسالم بن عبد الله، والقاسم بن محمد، ومن معهما من فقهاء أهل المدينة، ومالك بن أنس، والشافعي، وأصحابه، وأهل الحجاز عامتهم، وسفيان الثوري، وأبو حنيفة، وأصحابه، وأهل الكوفة، وابن المبارك، وأحمد، وإسحاق.
والدليل على النسخ حديث جابر بن عبد الله: كان آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك الوضوء مما غيرت النار. أخرجه أبو داود (192)، والنسائي 1/ 108، وابن الجارود في " المنتقى "(24)، والبيهقي 1/ 155 - 156، وإسناده صحيح. وصححه ابن خزيمة، وابن حبان وغيرهما. ورواه أحمد 3/ 374 - 375 من حديث جابر مطولاً، وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم أكل وأكل القوم معه، ثم نهض، فصلى بنا العصر، وما مس ماء، ولا أحد من القوم.
وحديث عمرو بن أمية الضمري أنَّه رأي رسول الله صلى الله عليه وسلم تخير من كتف شاة، فأكل منها، فدعي إلى الصلاة، فقام وطرح السكين، وصلى ولم يتوضأ. أخرجه البخاري (208) و (675) و (2923) و (5408) و (5422) و (5462)، ومسلم (355)، والترمذي (1837).
وحديث ميمونة أن النبيض صلى الله عليه وسلم أكل عندها كتفاً، ثم صلى ولم يتوضأ. أخرجه البخاري (210)، ومسلم (356). =
والغُسُلِ مِن التقاءِ الخِتَانَيْنِ (1) ونحوهما، وَقَدِ اختلف العلَمَاءُ كثيراً في خَبَرِ الواحد إذا كان فيما تَعُمُّ به البَلْوى هل يُقْبَلُ أم لا (2)؟، ولم
= وحديث ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أكل كتف شاة، وصلى ولم يتوضأ. أخرجه مالك 1/ 25، والبخاري (207) و (5404) و (5405)، ومسلم (435)، وأبو داود (187)، والنسائي 1/ 108.
وأخرج أحمد 1/ 366 من طريقين عن ابن جريج قال: أخبرني محمد بن يوسف أن سليمان بن يسار أخبره أنَّه سمع ابن عباس - ورأي أبا هريرة يتوضأ، فقال: أتدري مما أتوضأ؟ قال: لا، قال: من أثوار أقط أكلُتها، قال ابن عباس: ما أبالي مما توضأت، أشهد لرأيت رسوِل الله صلى الله عليه وسلم أكل كتف لحم، ثم قام إلى الصلاة وما توضأ. قال: وسليمان حاضر ذلك منهما جميعاًً. وسنده صحيح.
وقال الإمام النووي: كان الخلاف فيه معروفاً بين الصحابة والتابعين، ثم استقر الإجماع على أنَّه لا وضوء مما مسَّت النار.
وجمع الإمام الخطابي بين الأحاديث بأن أحاديث الأمر محمولة على الاستحباب، لا على الوجوب.
(1)
انظر حديث أبي موسى في وجوب الاغتسال من التقاء الختانين في مسلم (349)، و" الموطأ " 1/ 46، والترمذي (108) و (109).
وحديث أبي هريرة في البخاري (291)، ومسلم (348)، وأبي داود (216)، والنسائي 1/ 110 و111، والطحاوي 1/ 56، والطيالسي (2449)، وأحمد 2/ 234 و347 و393 و470 - 471 و520، وانظر " فتح الباري " 1/ 396 - 398.
(2)
خبر الواحد فيما تعم به البلوى، أي: يحتاج إليه الناس حاجة متأكدة مع كثرة تكرره لا يثبت به وجوب إلا إذا اشتهر أو تلقته الأمة بالقبول عند عامة الحنفية، وقالوا: إن عدم انتشاره وذيوعه يورث شكلاً، ولهذا لما سلم الرسول صلى الله عليه وسلم على رأس الركعتين ساهياً، وقال له ذو اليدين -دون سائر الحاضرين-: أقصرت الصلاة أم نسيت يا رسول الله؟ توقف في قبول خبره، وظن أنه مخطىء، فلمَّا وافقه الحاضرون، عمل بقوله.
والأكثرون على قبول خبر الواحد فيما تعم به البلوى إِذا صح إسناده دونما اشتراط اشتهاره وتلقي الأمة له بالقبول لإطلاق النصوص الدالة على وجوب العمل بالخبر، واتفاق الصحابة على العمل به في ذلك، ولأن شروط البيوع، والأنكحة، وما يعرض في الصلاة، والوضوء من الخارج من السبيلين، والمشي مع الجنازة، وبيع رباع مكة وإجارتها ووجوب الوتر ونحوه أثبته المخالف بخبر الواحد، وهو مما تعم به البلوى.
وانظر التفصيل في " المعتمد" 2/ 167 - 169، و" المحصول " 2/ 1/632 - 636، و" العدة في أصول الفقه " لأبي يعلى 3/ 855 و" فواتح الرحموت " 2/ 128 - 131، و" سلم الوصول لشرح نهاية السول " 3/ 170 - 173، و" تيسير التحرير " 3/ 112 - 115.
يتكلَّمْ في هذه المسأَلَةِ القاسم والهادي عليهما السلام وأمثالهما من مُتَقَدمي الأئِمة، وأكثَرُ مَنْ تكلم فيها ووسع القولَ علماءُ الأصول، منهمُ السيدُ أبو طالب في كتاب " المجزىء "، فإنَّه تكلم في المسألة، ووسعَ القول، وذكر حُجَجَ الفَريقَيْنِ، ثُمَّ قال: وفيما ذكرناه تنبيه على طريق النَّظَرِ في المسألَة، فأشار عليه السلام إلى جواز الأمْريْنِ. وقال في أوَّل المسألة: ذهب بعضهم إلى أنَّ خبرَ الواحِدِ لا يُقْبَلُ فيه -يعني فيما تعُمُّ به البَلْوى- وإنَّما يُقْبَلُ مَا يَشيعُ نَقْلُه، ويجبُ العلمُ (1) به، وهو قول أكثَرِ أصحابِ أبي حنيفَة، وإليه ذهب شيخُنا أبو عبد الله، وحكاه عن أبي الحسنِ الكرْخي (2). وطريقُ نصْرَةِ القول الأولِ ما ذكره شيخُنا أبو عبد الله واعتمده، فإنه بَلَغَ في نصْرَةِ هذه المسألة نهاية ما في الوُسْع، فغايةُ أمرِ غَيْرِه مِمنْ ينْصُر هذه المسألة أنْ يفهم كلامَه، وما رواه فيها (3) استدلالاً وانفصالاً عَنِ الأسئلة والمُعارَضَاتِ. انتهى كلامه عليه السلام.
والقصد بإيرادِهِ بيانُ أنهُ كلامُ مَنْ يجوز للمختارِ أن يختارَ ذلِكَ، ولا يَحْرَجُ فيه. فإذا ثبت هذا، كانَ منَ الجائِز أنْ يترك العمَلَ بخبر الواحد في هذِهِ المسأَلَةِ، لأنَّها مِمَّا تعُمُّ به البلوى، لا لأنَّ الفُساقَ أرجَحُ عنْذنَا مِنْ أَئِمَّةِ التقْوَى، فيجبُ على هذا أن لو كان الجَهْرُ بالبَسْمَلَةِ واجباً، أن يتواتر
(1) في (ب): " العمل "، وهو خطأ.
(2)
هو الشيخ الإمام الزاهد مفتي العراق، شيخ الحنفية، أبو الحسن، عبيد الله بن الحسين بن دلال البغدادي الكرخي الفقيه، انتهت إليه رئاسة الحنفية بعد أبي خازم، وانتشرت تلامذته في البلاد، واشتهر اسمه، وبعد صيته، وكان من العلماء العباد ذا تهجد، وتأله، وزهد تام، ووقع في النفوس. من كبار تلامذته أبو بكر الرازي صاحب " أحكام القرآن ". صنف " المختصر"، وشرح " الجامع الصغير " وشرح " الجامع الكبير". وكان مولده سنة 260 هـ، ومات سنة 340 هـ. مترجم في " السير " 15/ 427.
(3)
ساقطة من (ب).
ذلِكَ، وهذا إنما يَرِدُ على الأحاديث التي أوردها السَّيِّدُ، فأمَّا الأحاديثُ التي فيها أنَّه عليه السلام كان يجْهَرُ، أو كان يُخَافتُ، فلا يَرِدُ هذا عليه، لأنهُ لا يَمْتَنِعُ تواتُرُ الجَهْرِ والإِخفاتِ عنه عليه السلام فِعْلاً لا قَوْلاً، فقد صنف علماءُ الأثر في ذلك كتباً منفردهَ، وادعَوُا التواتُر في الجانِبَيْنِ.
أما مَنْ ذَهَبَ إلى الإِخفات، فَقَدِ ادَّعى تواتُرَ ذَلِكَ في مَسْجِد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإتصال عَمَل الأئمةِ والمصلين فيه منْذُ تُوُفَيَ عليه السلام إلى زَمَنِ مالك، فإنَ مالكا أدْركَ الناسَ على ذلك، ولم يُنْقَلْ أنَّ أحداً أكْرهَ الناسَ على تغيير شَيْءٍ في الصَّلاةِ، ولا نهاهُمْ عَنِ الجَهْرِ بعد أنْ كانوا عليه، مع ما رُويَ في ذَلِكَ مِنَ الأحاديث (1) الصَّحيحَةِ الكَثِيرَةِ التي أجْمَعَ علَمَاءُ النَقْلِ على صِحَّتِهَا وَقُوَّتها (2)،
(1) في (ب): الأخبار.
(2)
روى أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم، وأبا بكر، وعمر رضي الله عنهم كانوا يفتتحون الصلاة بـ (الحمد لله رب العالمين). أخرجه البخاري (743) في صفة الصلاة، باب: ما يقول بعد التكبير، وأخرجه الترمذي (246) وعنده " القراءة " بدل " الصلاة " وزاد: عثمان، وأخرجه مسلم (399) بلفظ:" صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان، فلم أسمع أحداً منهم يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم "، وأخرجه أحمد 3/ 264، والطحاوي 1/ 202، والدارقطني 1/ 315، وقالوا فيه:" فكانوا لا يجهرون ببسم الله الرحمن الرحيم "، وأخرجه ابن حبان في " صحيحه "(1794) بتحقيقنا، وزاد:" ويجهرون بالحمد لله رب العالمين "، وفي لفظ النسائي 2/ 135، وابن حبان (1790)، والبغوي (582):" فلم أسمع أحداً منهم يَجْهَرُ ببسم الله الرحمن الرحيم "، وفي لفظ لأبي يعلى الموصلي في " مسنده ":(2881): " فكانوا يستفتحون القراءة فيما يجهر به بالحمد لله رب العالمين "، وفي لفظ للطبراني في " معجمه الكبير"(739)، وابن خزيمة (498)، والطحاوي 1/ 203:" وكانوا يسرون ببسم الله الرحمن الرحيم " ورجال هذه الروايات كلهم ثقات مخرج لهم في الصحيح كما قال الزيلعي في " نصب الراية " 1/ 326 - 327.
ولأحمد 4/ 85، والترمذي (244)، والنسائي 2/ 135 من طريق قيس بن عَبايَة، عن ابن عبد الله بن مفضل (واسمه يزيد كما جاء مصرحاً به في رواية أحمد 4/ 85) قال: سمعني أبي وأنا في الصلاة أقول: بسم الله الرحمن الرحيم، فقال لي: أي بني، مُحْدَث، إياك =
مع ما يَشْهَدُ (1) لِذَلِكَ مِنْ وُجُوبِ التَوَاترِ في الجَهْرِ لو (2) كان صحيحاًً مستمراً كما قررَهُ المنصور وأبو طالب، واختارَتْه (3) الحنَفيَّةُ.
= والحدث، قد صليتُ مع النبي صلى الله عليه وسلم، ومع أبي بكر، ومع عمر، ومع عثمان، فلم أسمع أحداً منهم يقولها، فلا تقلها، إذا أنت صليت، فقل:(الحمد لله رب العالمين). وحسنه الترمذي، وقد حقق القول فيه الزيلعي في " نصب الراية " 1/ 232 - 233، وأيد تحسين الترمذي له.
وأخرج مسلم (498) من طريق بديل بن ميسرة، عن أبي الجوزاء، عن عائشة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستفتح الصلاة بالتكبير، والقراءة بـ (الحمد لله رب العالمين).
قال الزيلعي: وهذا ظاهر في عدم الجهر بالبسملة، وتأويله على إرادة اسم السورة يتوقف على أن السورة كانت تسمى عندهم بهذه الجملة، فلا يعدل عن حقيقة اللفظ وظاهره إلى مجازه إلا بدليل.
ثم قال 1/ 334 - 335: ومما يدل على أن البسملة ليست آية من السورة، فلا يجهر بها: ما رواه البخاري في " صحيحه "(4474) من حديث أبي سعيد بن المعلى قال: " كنت أصلِّي في المسجد، فدعاني رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، فلم أُجبه، فقلت: يا رسول الله إني كنت أصلي، فقال: ألم يَقُل الله: {اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ} ثم قال لي: لأعلمنَّك سورةً هي أعظم السُّوَر في القرآن قبل أن تخرج من المسجد، ثم أخذ بيدي، فلمَّا أراد أن يخرج، قلت له: ألم تقل: لأعلمنك سورة هي أعظم سورة في القرآن؟ قال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته ". قال الزيلعي: فأخبر أنها السبع المثاني، ولو كانت البسملة آية منها لكانت ثمانياً، لأنها سبع آيات بدون البسملة، ومن جعل البسملة منها إما أن يقول: هي بعض آية، أو يجعل قوله {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} إلى آخرها آية واحدة.
ومما يدل أيضاًً على أن البسملة ليست من السورة ما أخرجه أصحاب السنن الأربعة عن شعبة، عن قتادة، عن عباس الجشمي، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن سورة من القرآن شفعت لرجل حتى غفر له وهي {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ} انتهى. قال الترمذي: حديث حسن، ورواه أحمد في " مسنده "، وابن حبان في " صحيحه "، والحاكم في " مستدركه "، وصححه، وعباس الجشمي، يقال: إنَّه عباس بن عبد الله، ذكره ابن حبان في " الثقات "، ولم يتكلم فيه أحد فيما علمنا، ووجه الحجة منه أن هذه السورة ثلاثون آية بدون البسملة بلا خلاف بين العادين، وأيضاًً فافتتاحه بقوله:{تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ} دليل على أن البسملة ليست منها.
(1)
في (ب): شهد.
(2)
في (ش): ولو.
(3)
في (ب): واختاره.
وأما الجَهْرُ بِالبَسْمَلَة، فقد رُوَيتْ فيه أحاديث كثيرة، وصَنَّفَ في ذلِكَ غَيْرُ واحدٍ مِنَ الحُفَّاط تصانِيفَ مُفْرَدةً، وقد جَمَعَ الحافظ الكبير أبو بكر بنِ الخطيبِ (1) أحاديثَ الجَهْرِ في ثلاثةِ أجزاء (2).
إذا عرفت هذا، فدعوى التَّواتُر في ثُبوتِ الجَهْرِ والإِخفات غيرُ مُسْتَنْكَرٍ عَقْلاً ولا نَقْلاً، أما العَقْلُ فلأنَه تَواتُر فيما تَعُمُّ بِه البَلْوى، ويجب في العادَة ظُهورُه وشُهْرَتُه، وأما النقْل فلأنَ الرُّوَاة (3) في الجانِبَيْنِ عددٌ
(1) هو الحافظ الكبير العلامة الناقد أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت بن أحمد بن مهدي البغدادي، صاحب التصانيف الكثيرة النافعة المتوفى سنة 463 هـ.
قال ابن ماكولا: كان أبو بكر آخر الأعيان ممن شاهدناه معرفة، وحفظاً، وإتقاناً، وضبطاً لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتفنناً في علله وأسانيده، وعلماً بصحيحه وغريبه، وفرده ومنكره ومطروحه، ولم يكن للبغداديين بعد أبي الحسن الدارقطني مثله. مرجم في " السير " 18/ 270 - 297.
(2)
أوردها الإمام الحافظ الزيلعي في " نصب الراية " 1/ 341 - 358، وتكلم على كل حديث منها، وأبان عن درجته بما تقتضيه الصناعة الحديثية، ثم لخص كلامه بقوله: وبالجملة فهذه الأحاديث كلها ليس فيها صريح صحيح، بل فيها عدمهما أو عدم أحدهما، وكيف تكون صحيحة، وليست مخرجة في شيء من الصحيح، ولا المسانيد ولا السنن المشهورة، وفي روايتها الكذابون والضعفاء والمجاهيل الذين لا يوجدون في التواريخ، ولا في كتب الجرح والتعديل كعمر بن شمر، وجابر الجعفي، وحصين بن علي الأصبهاني الملقب بجراب الكذب، وعمر بن هارون البلخي، وعيسى بن ميمون المدني وآخرون أضربنا عن ذكرهم
…
ثم نقل عن صاحب " التنقيح " قوله: وهذه الأحاديث التي استدل بها على الجهر بالبسملة في الجملة لا يحسن بمن له علم بالنقل أن يعارض بها الأحاديث الصحيحة، ولولا أن يعرض للمتفقه شبهة عند سماعها، فيظنها صحيحة، لكان الإضراب عن ذكرها أولى، ويكفي في ضعفها إعراض المصنفين للمسانيد والسنن عن جمهورها، وقد ذكر الدارقطني منها طرفاً في " سننه " فبين ضعف بعضها، وسكت عن بعضها، وقد حكى لنا مشايخنا أن الدارقطني لما ورد مصر، سأله بعض أهلها تصنيف شيء في الجهر، فصنف فيه جزءاً، فأتاه بعض المالكية، فأقسم عليه أن يخبره بالصحيح من ذلك، فقال: كل ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في الجهر فليس بصحيح، وأما عن الصحابة، فمنه صحيح وضعيف، ثم تجرد الإمام أبو بكر الخطيب لجمع أحاديث الجهر، فأزرى على علمه بتغطية ما ظن أنَّه لا ينكشف، وقد بينا عللها وخللها.
وانظر " شرح السنة " 2/ 53 - 57 للبغوي، و" الناسخ والمنسوخ " ص 79 - 82 للحازمي.
(3)
في (ب): الرواية.