الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
هذه المسائل (1) دعوتين.
الدعوى الأُولى: ادَّعَى أنَّ أحاديثَ الفقهاءِ متعارضَة في وضع اليَدِ على اليد
، ونصَّ السَّيِّد على ما يتحيَّرُ العاقل في صدوره مِن مثله (2)، وذلك أنَّه ذكر في كتابه أنَّ وائل بن حُجْرٍ فاسِقٌ مجروحٌ، فلمَّا وصل السيد إلى مسألة وضعِ اليُمنى على اليُسرى، ذكر تعارُضَ الأخبارِ في ذلك، وأنَّ في حديث وائلٍ أنَّ الوضع يكونُ على الصُّدُورِ (3)، وفي حديث عليٍّ، وأبي هريرة أنَّ الوضع تحت السُّرَّة، فعارضَ بينَ رواية أمير المؤمنين مع أبي هُريرة الحافِظ الأمينِ، وبَيْنَ روايةِ وائل الذي نصَّ على أنَّه عِنْدَهُ مِنَ المجروحين الفاسقين، فأينَ كانَ عقلُ السَّيِّدِ -أيده اللهُ- حتَّى اعتقَد أنَّ حديث وائل -مع اعتقاده فيه- يُعارِضُ حديثَ أمير المؤمنين عليه السلام، وأبي هريرة رضي الله عنه حتَّى يجِبَ طَرْح حديثهمَا منْ أَجْلِ حديثِ وائلٍ؟ وهذا يَدُلُّ على أن السيد كتب رسالتَه وهو لا يدري ما يكتب إمَّا لتعصُّبٍ شديدٍ، أو غيرِ ذلك.
الدعوى الثانية: ادَّعى أنَّ العُمُومَ يعارِضُ الخصوصَ إذا جُهِلَ التاريخُ
، كما ذهبت إليه. الحنفِيَّةُ، وهذه مسألةُ خلافٍ، الذي عليه جماهير العلماء، والذي عليه عَمَلُهُم هو تقديمُ الخَاصِّ عِنْدَ جَهْلِ التَّارِيخِ، وقد ذكر الشَّيْخُ أبو الحسين البصري أنَّه الَّذي عليه علماءُ الأمصار (4)، ولا شكٌّ
(1) في (ش): " المسألة ".
(2)
في (ش): ما يتحير عقل العاقل في عقله عن مثله.
(3)
في (ش): الصدر.
(4)
" المعتمد " 1/ 259، ونص كلامه: فأما إذا لم يعرف التاريخ بينهما (أي: بين الخاص والعام) فعند أصحاب الشافعي أن الخاص منهما يخص العام، وهذا سديد على أصولهم، لأنه ليس للخاص مع العام إلا أن يقارنه، أو يتأخر عنه، أو يتقدمه، وقد بان وجوب خروج ما تناوله الخاص من العام في الأحوال الثلاثة، وأيضاً، فإن فقهاء الأنصار في هذه الأعصار يخصون أعمَّ الخبرين بأخصهما مع فقد علمهم بالتاريخ.
أنَّ العمل بالخاصِّ أَرْجح، أمَّا إنْ قُلنا: إنَّه خاصٌّ، وإنَّ الخاصَّ يُقدَّمُ (1)، فظاهر، وأما إن لم نَقُلْ بذلك، فلأنَّ الخصوصيةَ من وجوهِ التَّرجيح، فكانَ العملُ به أرجحَ، لأنه ُ أخصُّ بالحكم، وقوَّى هذا ابنُ رشد في " نهايته "(2) في اشتراط النِّصاب في الحُبوب.
وبالجملة فَذكْرُ الحُججِ في هذه المسألَةِ على الاستقصاء يَطُولُ، لكنا نكتفي في ذلك بكلام مُخْتَصَرٍ، فنقول للسيدِ: هل تدَّعي التَّعارضَ في ذلك على سبيِلِ القطع، أوعلى سبيلِ الظن؟ إن قلتَ: على سبيلِ القطع، فَهَلُمَّ الدَّليل، وعلينا القَبُولُ أو الجوابُ، ولكِنَهُ يَلْزَمُك على الكُلِّ تأثيمُ الجِلَّة من علماء الإسلام الّذين قَضَوْا بتقديمِ الخاصِّ على العَامِّ، وإن قلت: إنَّهما متعارضانِ على سبيل الظَّنِّ، فما معنى المراسلة والمناظرة في مسألةٍ اجتهاديَّةٍ ظنِّيةٍ على سبيل الإنكار والتَعَسُّفِ، وما عَلِمْنَا أنَّ أحداً أنكر على مَنْ قضى بتقديم الخاصِّ على العامِّ عند جَهْلِ التَّاريخ منذ صُنِّفَ أُصولُ الفقْهِ، وعُرِف الكلامُ في مسائل الخلاف. فلو سَكَتَ السَّيِّدُ عن النَكير في ذلك، لَوسِعَهُ مَا وَسِعَ أمَّةَ محمَّد صلى الله عليه وسلم في مقدار سِتِّ مِئَةِ سنةٍ، وإنَّما ذَكَرَ هذه النُكْتَةَ في تقديم معارضة العامِّ للخاصِّ (3) عِنْدَ جهل التَّاريخ، لأنَّه فَهِمَ أنَّهُ لا حُجَّةَ لَهُ في المنِع من وضع اليُمنى على اليُسرى، ومِنَ التأمين إلا ذلك، فإنه إنما عارض جميعُ ما تقدَّم بحديثِ " اسْكُنُوا في الصَّلَاةِ "(4).
(1) في (ش): مقدم.
(2)
اسمه الكامل " بداية المجتهد ونهاية المقتصد ": ونصه فيه 1/ 265: ولكن حمل الجمهور عندي الخصوص على العموم هو من باب ترجيح الخصوص على العموم في الجزء الذي تعارضا فيه، فإن العموم فيه ظاهر، والخصوص فيه نص.
(3)
في (ب): الخاص.
(4)
أخرجه مسلم (430) في الصلاة: باب الأمر بالسكون في الصلاة، والنهي عن =
والجوابُ عنه: أنَّ المرادَ ممَّا لم تُشْرَعْ فيه الحَرَكةُ، وإلا لَزِمَ تحريمُ الركوع والسُّجودِ فيها، وهو موافق على رفع المُسَبِّحةِ في التَّشهُّد إشارَة إلى التَّوحيد، وعلى الالتفاتِ عِنْدَ التَّسليم، لكونه مشروعاً، فكذلك (1) كل حَرَكَةٍ مشروعَةٍ، ومنه حَرَكَةُ اللِّسانِ والشفتين عِنْد القراءَةِ، والذكر الذي يجب بإجماعٍ أو خلافٍ، أو لا يجب بإجماعٍ أو خلافٍ.
وكذلك إنَّما يُعارَضُ أحاديثُ (2) التأمين مع كثرتها بعموم النَّهْي عَنِ الكَلام في الصَّلاة، والمرادُ به أيضاً الكلامُ الَّذي لم يُشْرَع وفاقاً؛ لأنَ الصَّلاةَ على النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وآله وذكرَ اسْمِه صلى الله عليه وسلم لا يُفْسِدُ؛ لأنهُ مشروع.
والأحاديثُ في التأمين كثيرةٌ، الذي حضرني الآن منها خمسةَ عَشَر حديثاً، أَكْتَفِي بالإشارةِ إلى مواضِعِها، منها " مجمعُ الزوائد "، و" اكتب السِّتةِ "، و" المنتقى "(3)، وكتبُ أهلِ البيت "علوم آل
= الإشارة باليد ورفعها عند السلام، والنسائي 3/ 4 في السهو، باب: السلام بالأيدي في الصلاة، وأحمد 5/ 86 و93 من طرق عن جابر بن سمرة قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:" ما لي أراكُم رافعي أيديكم كأنها أذناب خيل شُمُس، اسكنوا في الصلاة ".
وقوله: " رافعي أيديكم " أي: في السلام، كما جاء مبيناً في رواية: كنا إذا صلينا وراء رسول الله صلى الله عليه وسلم قلنا: السلام عليكم بأيدينا يميناً وشمالاً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما بال أقوام يرمون بأيديهم كأنها أذناب الخيل الشُّمُس، لا يسكن أحدهم، ويشير بيده على فخذه، ثم يسلم على صاحبه عن يمينه وعن شماله.
(1)
في (ب): وكذلك.
(2)
في (ش): " حديث " وهو خطأ.
(3)
" منتقى الأخبار" تأليف شيخ الحنابلة علامة عصره أبو البركات عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم بن محمد بن الخضر الحراني المعروف بابن تيمية جد شيخ الإسلام، المتوفى سنة 652 هـ. وكتابه هذا يشتمل على جملة من الأحاديث النبوية التي يرجع أصول الأحكام إليها، ويعتمد علماء الإسلام عليها، انتقاها من صحيحي البخاري ومسلم، و " مسند " الإمام أحمد، و" جامع " أبي عيسى الترمذي، و" سنن " أبي داوود، والنسائي، وابن ماجة، واستغنى بالعزو إلى هذه المصادر عن الإطالة بذكر أسانيدها، وقد شرحه شرحاً =
محمد"، و" مجموع زيد ".
فمنها عن علي عليه السلام مرفوعاً، رواه ابن ماجه (1) بإسناد حسن.
ومنها عنه عليه السلام موقوفاً، رواه محمد بنُ منصور في " علوم آل محمد " في باب الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم، وأحسِبُه في " مجموع زيد " في القُنوت وعن أبي هريرة ثلاثة أحاديث (2)، وثلاثة عن وائل (3)،
= حافلاً الإمام المجتهد قاضي قضاة اليمن محمد بن علي بن محمد الشوكاني المتوفى سنة 1255 هـ، وسماه " نيل الأوطار "، وهو مطبوع متداول.
(1)
في " سننه " برقم (854) من طريق ابن أبي ليلى، عن سلمة بن كهيل، عن حُجَيَّة بن عدي، عن علي قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قال: " ولا الضالين " قال: " آمين ". قال البوصيري في " مصباح الزجاجة " ورقة 56: ابن أبي ليلى: هو محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، ضعفه الجمهور، وقال أبو حاتم: محله الصدق، وباقي رجاله ثقات.
(2)
أخرج مالك 1/ 87، ومن طريقه البخاري (870)، ومسلم (410)، وأبو داوود (935)، والترمذي (250)، والنسائي 2/ 144، والبيهقي 2/ 55، وأحمد 2/ 459 عن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب وأبي سلمة بن عبد الرحمن أنهما أخبراه عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" إذا أمن الإمام فأمنوا، فإن من وافق تأمينه تأمين الملائكة، غفر له ما تقدم من ذنبه ". وله طرق أخرى عند البخاري (6402)، ومسلم (410)(73) و (74) و (75) و (76)، والدارمي 1/ 284، وابن ماجه (846) و (851) و (852)، وأحمد 2/ 233 و270 و312 و440، وابن الجارود (190)، وابن حبان (1795) بتحقيقنا.
وأخرج الدارقطني 1/ 335، والبيهقي 8/ 52 من طريق الزبيدي، عن الزهري، عن سعيد، وأبي سلمة، عن أبي هريرة قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا فرغ من قراءة أم القرآن، رفع صوته، وقال:" آمين ". قال الدارقطني: إسناده حسن، وصححه ابن حبان (1797) والحاكم 1/ 223، ووافقه الذهبي.
وأخرج النسائي 2/ 134 من طريق عبد الله بن عبد الحكم، عن شعيب، عن الليث، عن خالد، عن أبي هلال، عن نعيم المجمر قال: صليت وراء أبي هريرة، فقرأ بسم الله الرحمن الرحيم، ثم قرأ بأم القرآن حتى إذا بلغ {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} فقال: آمين، فقال الناس: آمين
…
وإذا سلم قال: والذي نفسي بيده إني لأشبهكم صلاة برسول الله صلى الله عليه وسلم. وإسناده صحيح، وصححه ابن خزيمة (499)، وابن حبان (1792).
(3)
أخرجه أحمد 4/ 316 - 317، وأبو داوود (932)، والترمذي (248)، والدارمي =
وبقيتها عن معاذ (1)، وسلمانَ (2)، .......................
= 1/ 284، والدارقطني 1/ 334، وابن أبي شيبة 2/ 425، والبيهقي 2/ 57، والبغوي (586) من طرق عن سفيان، عن سلمة بن كهيل، عن حُجر بن العنبس، عن وائل بن حجر قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم قرأ {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} فقال: " آمين " ومدَّ بها صوته.
ولفظ أي داوود: ورفع بها صوته، وإسناده صحيح، وقد تابع سفيان على ذلك اثنان.
وأخرجه الطيالسي (401)، وأحمد 4/ 316، والبيهقي 2/ 57، والطبراني في " الكبير " 22/ (109) و (110) و (112) من طريق شعبة به إلا أنَّه قال: وأخفي بها صوته. وقد خطأ النقاد رواية شعبة هذه، وجزموا بأن رواية سفيان أصح.
وأخرجه ابن حبان في " صحيحه "(1796) من طريقين عن شعبة، عن سلمة بن كهيل، عن حجر أبي العنبس، عن علقمة بن وائل، عن وائل أنَّه صلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما قال:{وَلَا الضَّالِّينَ} قال: آمين.
وأخرجه أبو داوود (933)، والترمذي (249)، وابن أبي شيبة 1/ 299، والطبراني 22/ (114) عن العلاء بن صالح (وأخطأ أبو داوود فسماه علي بن صالح) الأسدي، عن سلمة بن كهيل، عن حجر بن عنبس، عن وائل قال: صليت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجهر بآمين، وسلم عن يمينه، وعن شماله حتى رأيت بياض خده. وهذا سند صحيح، وصححه البيهقي في " معرفة السنن والآثار "، والحافظ في " تلخيص الحبير " 1/ 236.
وأخرجه أحمد 4/ 318، والبيهقي 2/ 58 من طريقين عن زيد بن معاوية، عن أبي إسحاق، عن عبد الجبار بن وائل، عن أبيه
…
وفيه: " فقال: آمين، يجهر بها ".
وأخرجه ابن ماجه (855) من طريق أبي إسحاق، به، ولفظه:" فلمَّا قال: (ولا الضالين) قال: " آمين "، فسمعناها.
وأخرجه الدارقطني 1/ 334 - 335 أيضاً من طريقه بلفظ: " قال: آمين، مدَّ بها صوته ".
وأخرجه النسائي 2/ 145 من طريق يونس، عن أبي إسحاق به. وفيه:" ولما قرأ {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} قال: آمين، فسمعته وأنا خلفه ".
وأخرجه أحمد 4/ 315 من طريق عبد القدوس، أخبرنا الحجاج، عن عبد الجبار بن وائل، عن أبيه أنَّه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: آمين.
(1)
ذكره الهيثمي في " المجمع " 2/ 112 - 113 مطولاً، ونسبه للطبراني، وحسن إسناده، وفيه:" إن اليهود قوم سئموا دينهم وهم قوم حسد، ولم يحسدوا المسلمين على أفضل من ثلاث: رد السلام، وإقامة الصفوف، وقولهم خلف إمامهم في المكتوبة: " آمين ".
(2)
في الطبراني (6136) من طريق سليمان التيمي، عن أبي عثمان، عن سلمان أن بلالاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم:" لا تسبقني بآمين ". قال الهيثمي في " المجمع " 2/ 113: ورجاله =
......................... وَسَمُرَة (1)، وعائِشَةَ (2)، وأمَّ سَلمَة (3)، وأمِّ الحُصَيْن (4)، وعَنِ ابْنِ شِهابٍ مُرْسلٌ.
وذكر الحاكمُ أنَّه جَمَعَهُ في بابٍ مفردٍ، ولم يُعَارضْ بحديثٍ واحدٍ لا صحيح، ولا ضَعيفٍ، لا مِنْ رِوايَةِ أَهْلِ البيت، ولا شِيعَتِهِمْ، ولا أَهْلِ الحَدِيث.
ولَنَا أنْ نُجِيبَ على معارضَتِها بالعُموم (5) بترجيح الخاصِّ كما
= موثقون. ورواه أبو داوود (937)، والبيهقي من حديث بلال أنَّه قال: يا رسول الله لا تسبقني بآمين. وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي.
(1)
أخرجه الطبراني في " الكبير "(6891) من طريق رواد بن الجراح، عن سعيد بن بشير، عن قتادة، عن الحسن، عن سمرة بن جندب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا قال الإمام: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} فقولوا: آمين، يجبكم الله ". وإسناده ضعيف رواد ابن الجراح، اختلط بأخرة، وسعيد بن بشير: ضعيف، لكن رواه مسلم (404)، والنسائي 3/ 96 - 97، وأبو داوود (972) من حديث أبي موسى الأشعري ضمن حديث مطول. وفيه:" فإذا قال: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ}، فقولوا: آمين، يجبكم الله ".
(2)
أخرجه ابن ماجه (856) من طريق إسحاق بن منصور، أخبرنا عبد الصمد بن عبد الوارث، حدثنا حماد بن سلمة، حدثنا سهل بن أبي صالح، عن أبيه، عن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم:" ما حسدتكم اليهود على شيء ما حسدتكم على السلام والتأمين ". قال البوصيري في " مصباح الزجاجة " ورقة 56: هذا إسناد صحيح احتج مسلم بجميع رواته.
وأخرجه أحمد 6/ 135، والبيهقي 2/ 56 من طريق آخر بأطول مما هنا، وصححه ابن خزيمة (1585).
(3)
لم أقف عليه من حديثها.
(4)
أخرجه الطبراني في " الكبير " 25/ (383) من طريق إسماعيل بن مسلم المكي، عن أبي إسحاق، عن ابن أم الحصين، عن جدته أم الحصين بنت إسحاق الأحمسية أنها كانت تصلي خلف النبي صلى الله عليه وسلم في صف من النساء، فسمعته يقول:{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} حتى بلغ {وَلَا الضَّالِّينَ} قال: " آمين " حتى سمعته وأنا في صف النساء
…
إسماعيل بن مسلم المكي: ضعيف. وأورده الزيلعي في " نصب الراية " 1/ 371 من مسند إسحاق بن راهويه، عن النضر بن شميل، عن هارون الأعور، عن إسماعيل بن مسلم المكي، به. ونسبه لإسحاق الحافظ في " المطالب العالية " 1/ 123.
(5)
أي: عموم النهي عن الكلام.
تقدَّم، وبدعوى التَّأَخُّرِ، والاستدلالِ عليه بقول عليٍّ والصَّحابةِ بعدَ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم وروايتهم وتعليمهم، ولم يكونوا يفعلون مِثْل ذَلكَ في المنسوخات مثل شرب الخمر، والصلاة إلى بيتِ المقدس، ونحو ذلك.
وأنا أقتصِر على هذا القدرِ في مسألة التَّأمين، ووضع اليُمنى على اليُسرى على سبيل الإيماءِ والإشارةِ الخَفِيَّة، وإنَّما اقتصرت على ذلك؛ لأنِّ بعضَ أَهْلِ البَيْتِ عليهم السلام يُخالفُ في ذلك، ويروي مثلَ أحاديثِ الفُقَهاءِ في (1) جوازهما، فلو رَجَّحْتُ تلكَ الأحاديثَ، لكُنْتُ عند العامَّةِ (2) قد رَجَّحْتُ. (3) خَبَر بعْضِ أهل البيتِ على بَعْضٍ، وهذا سهْلٌ، وأعني بالعامَةِ هنا أكثرَ (4) القُراء، لا الحرَّاثينَ.
وأمَّا مسأَلَةُ الجَهْرِ والإِخفاتِ، فإنَّ العامَة تعتقِدُ أنَي قد رجَّحْت فيها خبرَ المتأوِّلينَ المُخْتَلَفِ في جَرْحِهِم على خَبَرِ العِتْرَةِ الطَّاهِرين بغَيْرِ شَكٍّ، فينبغي أن أبيِّن عَدَمَ ذلِكَ، وأنا أُوردُ في دفعِ ذلك اثني عشرَ وَجْهاً إنْ شاء الله تعالى.
الوجهُ الأوَّلُ: أنِّي أجْهَرُ بالبسملة على مذهب زيدِ بنِ علي، والهادي عليهما (5) السَّلام، وغيرِهما من العِترة الكِرام، لأنّي (6) أُسْمعُ
(1) زاد في (ش) بين في ومثل: " معهما "، وكتب بجانبها " ظ "، أي: ظاهر الكلام يستلزم هذه الزيادة.
(2)
جملة " عند العامة " سقطت من (ش).
(3)
" قد رجحت " ساقطة من (ب).
(4)
" هنا أكثر " ساقطة من (ب).
(5)
في (ب): " عليهم ".
(6)
في (ش): " فإني ".
نفسي، وأُسْمِعُ منْ بِجَنْبِي، وقد قال زيدُ بن عليٍّ: مَنْ أسمع أُذُنَيْهِ فَلَمْ يُخَافِتْ (1).
ومذهبُ الهادي عليه السلام أنَّ أقَلَّ الجَهْرِ أنْ يُسْمِعَ الإنسانُ مَنْ بِجَنْبِهِ، وذلك أيضاً أقل المخافتة، فمَنْ فَعَلَهُ، فقد أَخَذَ بالإجماعِ (2) مِنْ أَهْلِ المذْهبِ وَمَنْ يُوافِقُهمُ على قولهِمْ هذا؛ لَأنَ القائِل بأنَّ السنَةَ المخافَتَة، يقول: هذه مخافتةٌ، والقائل بأنَّ الجَهْرَ السُّنَّةَ، يقول: هذا جهر.
فإنْ قُلْتَ: كيفَ يَصِح عند أهلِ المذهب أن يكونَ المتكلِّم جاهِرَاً مخافِتَاً في حالةٍ واحِدَةٍ.
قلت: لأنَّ الجهرَ والمُخافَتَةَ مِنَ الأُمورِ الإضَافِيَّةِ دونَ الحقيقَةِ، والأمورُ الإضافِيةُ يَجوز فيها ما صورَتُه صورةُ المناقَضَةِ، وليس في معناه مناقضةٌ، وذلك مثلُ القَبْلِيَّة والبَعْدِيَّةِ، فإنَّهما لما لَمْ يكونا مِنَ الأعراضِ الحقيقيَّة جازَ في الشَّيْءِ أنْ يكونَ قَبْلاً وبَعداً بالنظرِ إلى زمانين أو مكانين، فاليومُ قَبْلُ بالنَّظَرِ إلى غدٍ، وبَعْدُ بالنظر إلى أمس، بخلاف السواد والبياض، فإنَّهما عَرضَان حقيقيَّان، فلا يجوز في الشَّيْء أن يكونَ أبيض بالنظر إلى أمرٍ، وأسودَ بالنظر إلى أمرٍ آخر.
فإذا عرفتَ هذا، فاعلم أنَّ الجَهْرَ والإخفات ليسا مِنَ الأمور الحقيقيةِ الثبوتيَّة، وإنما هما اسمانِ إضافيان، ونعتان لفظيَّان، كالصِّغَرِ والكِبَرِ، والكَثْرَة، والقِلَّةِ، فالمتكلِّمُ المُسْمِعُ مَنْ بِجَنْبِهِ جاهرٌ بالنظر إلى منْ لم يُسْمِعْ
(1) في (ب) و (ش): " ما خافت من أسمع أذنيه ".
(2)
في (ش): " الإجماع ".
من بِجَنْبِهِ، وهو أيضاً مُخافِت بالنظر إلى منْ رفعَ صوتَهُ رَفْعاً قوياً فوق هذا المقْدارِ. وهذا الجواب كافٍ، لو أحببتُ الاقتصارَ عليه، لأجزأني، لكنِّي أحِبُّ الزِّيادة عليه، لِيَتبَيَّنَ للنَّاظِر في هذا الكلامِ أنَّ وُجُوة المَحَامِلِ كثيرةٌ لمَنْ أحبَّها، وأبوابَ الظَّنِّ الجميل واسعةٌ لمَنْ يطلُبُها، لكن السيد -أيَّدَهُ الله- لم يَسْلُكْ هذا المسلكَ في رسالته، فإنه بلغني أنه يَنْسُبُنِي (1) إلى القولِ بترك البَسْملَةِ بالمرة، فليتَهُ اعْتَدَلَ، فترك الحَمْلَ على السلامَةِ، والقولَ بِمَا لَمْ يَكُنْ، وما أقول فيه إلا ما قالت عائِشةُ في ابن عمر: ما كَذَبَ ولكِنَّه وَهِل (2).
الوجه الثاني: سلَّمنا تسليمَ جَدَلٍ أنَّا نُخَافِتُ، فإنَّه لا يلزَمُ منه ترجيحُ غير (3) أهلِ البيتِ عليهم السلام، فكيف يلزم مِنْهُ ترجيحُ الفَسَقةِ عليهم؟ وهذا يلزَمُ منه أنَّ مَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أهْل البيت، فَهُوَ فاسِقٌ تصريح أو تأويلٍ، وهذا خلافُ إجتماعَيِ العتْرَةِ والُأمَّة، وخلافُ المعلومِ مِنَ الأدلة والخبرة، وبِكُلِّ تقدير، فإنَّ ما ذكرَهُ غيرُ لازم، وذلِكَ لأنَّ الأحاديثَ الَّتي رَواها بعضُ أهلِ البيت عليهم السلام يمْكِنُ أن تكونَ منسوخَةً، كما ذهب إليه بعضُ أهلِ العلم، وذلِكَ هو الظَّاهِرُ مِنْ حديث سعيد بنِ جُبَيْرٍ، ففيه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم: كان يَجْهَرُ ببسم الله الرحمنِ الرحيم، وكان مُسَيْلِمَةُ يُدعى رحمانَ اليَمَامةِ، فقال أهلُ مكَّةَ: إنما يدعو لرحمان (4) اليمامة، فأمر النَّبي صلى الله عليه وسلم بإخفائها، فما جهر بها حتَّى مات.
(1) في (ب): " نسبني ".
(2)
أي: غلط ونَسِيَ، وحديثها عند مسلم (932)، والنسائي 4/ 17، وأبي داوود (3129). وفي رواية: أما إنَّه لم يكذب، ولكنه نسي أو أخطأ. وانظر " الإجابة لإيراد ما استدركته عائشة على الصحابة " ص 102 - 103 للزركشي.
(3)
سقطت من (ش).
(4)
في (ش): رحمان.
رواه أبو داود في " المراسيل "(1) عن سعيد بن جبير، والمرسلُ عندنا مقبولٌ، وقد أثنى يحيى بنُ معينٍ (2) على مرسلاتِ سعيدِ بنِ جُبَيْرٍ، وقال: هي أحبُّ إليَّ مِنْ مرسلاتِ عطاء، رواه الترمذيُّ. قال في كتاب " الغاية ": وقد رُوِيَ الحديثُ مسنداً أيضاًً.
فإن قلت: قد زالت العلَّةُ، فيزول الحُكْمُ؟
قلت: قد زالَتِ العِلَّةُ في زمانه صلى الله عليه وسلم بعد فتح مَكةَ، واستمرَّ الحُكْمُ كما استمر في غُسل يوم الجُمَعَةِ (3)، والسَّعْي (4)، والطَّوافِ (5) بعدَ زوال
(1) رقم (34) باب: الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم، بتحقيقنا، وفي سنده شريك بن عبد الله، وهو سيىء الحفظ، فالحديث مع كونه مرسلاً سنده ضعيف.
على أنَّه لم يرد في هذا المرسل أن ذلك كان في الصلاة.
وقول صاحب الغاية: " وقد روي الحديث مسنداً " لم أقف عليه، ولا إخال ذلك يصح.
(2)
هذا وهم من المؤلف، فإن الذي أثنى عليها هو يحيى بن سعيد القطان، وليس يحيى بن معين. روى ذلك عنه علي بن عبد الله المديني كما في " علل الترمذي " الملحق بالجزء الخامس من جامعه 5/ 754 الذي نقل عنه المؤلف، و" شرح العلل " 1/ 274 لابن رجب.
وفي " التهذيب " 4/ 14 من ترجمة سعيد بن جبير: وقال ابن أبي خيثمة: رأيتُ في كتاب علي -يعني ابن المديني-: قال يحيى بن سعيد: مرسلات سعيد بن جبير أحب إليَّ من مرسلات عطاء ومجاهد.
(3)
انظر " شرح السنة " 2/ 160 - 165، و" سنن أبي داوود "(352) و (353).
(4)
أخرج البخاري (1649)، والنسائي 5/ 242 من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: إنما سعى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الصفا والمروة ليري المشركين قوته. وانظر " جامع الأصول " 3/ 186 - 189.
(5)
في " صحيح البخاري "(1602) في الحج، باب: كيف كان بدء الرَّمَل من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فقال المشركون: إنه يقدم عليكم وقد وهنهم حمى يثرب، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يرملوا الأشواط الثلاثة، وأن يمشوا بين الركنين، ولم يمنعه أن يأمرهم أن يرملوا الأشواط كلها إلا الإبقاء عليهم. والرمل: هو الإسراع، وهو شبيه بالهرولة. وانظر " جامع الأصول " 3/ 162 - 163. =
العِلَّةِ، بل لعل العِلَّة زالت بَعْدَ الهِجْرَهَ مِنْ مَكةَ إلى المدينَةِ، فأمَّا بعد الفَتْح، فَبِغَيْر شَكٍّ.
وقد طُعِنَ في هذا الحديث بِأمْرٍ عقليٍّ، وهو أن الرحمنَ مذكورٌ في الفَاتِحَةِ، ولم يُخَافِتْ بها، فما تعني حينئذٍ المخافَتَةُ بالبسملَةِ؟ ويُمْكِنُ الجوابُ على ذلك بأنَّ (1) الرحمن في الفاتحة وقع صَِفَةً لِربِّ العالمين، وموصوفاً بِمَلِكِ يَوْمِ الدين، فكان أبعدَ منَ الشُبْهَةِ وأكثرَ تَمَيُّزَاً، وأقلَّ لَبْساً، أو غيرَ ذلك، واللهُ أعْلَمُ، وأيضاً فالأنظارُ المحتَمَلَةُ لا تُرَدُّ بها الآثارُ كما لا تُرَدُّ بها الشرَائعُ. فإذا تقرَّر هذا، فَمِنَ الجائزِ أني أذهبُ إلى النسْخِ، وَمَن اعْتَقدَ في خبرٍ أنَّه منسوخ، لم يَصِح أنْ يُرَجِّحَ بَيْنَهُ وبين النَاسخ عند أهلِ المعرفة؛ لأني قد قَبِلْتُ الذي روى المنسوخَ، وصدقْتهُ، لكِنَّه ثبت لي مِنْ غير طريقِهِ أنَّ ما رواه منسوخٌ، فقبلتُ الرِّوايَتَيْنِ معاً (2) إذ (3) كانتا عَنْ ثَقتَيْنِ عَدْلَيْنِ، وعَمِلْتُ بمقتضى الأدلَّةِ في العمل بالناسخ وتركِ المنْسوخِ، وقد أجمع المحقِّقُونَ من الأمةِ والعِتْرَةِ على أنَّ المنسوخَ يُتْركُ، وإن كانَ الَّذِي رواه أفضلَ الأمَّةِ وأعلمَهَا متى كانت طريقة النَّاسِخِ صحيحةً، وإن كانت دونَ درجَةِ المنسوخِ في الصِّحَّة متى كانا ظنِّييْنِ معاً (4).
= وفي البخاري أيضاً (1605) من حديث عمر قال للركن: أما والله إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت النبي صلى الله عليه وسلم استلمك، ما استلمتك، فاستلمه، ثم قال: مالنا وللرَّمَل، إنما كنا رائينا به المشركين وقد أهلكهم الله، ثم قال: شيء صنعه النبي صلى الله عليه وسلم، فلا نحب أن نتركه.
(1)
من قوله: " الرحمن " إلى هنا سقط من (ب).
(2)
سقطت من (ش).
(3)
في (أ) و (ج): " إذا "، وفي (ب):" أن "، والمثبت من (ش).
(4)
سقطت من (ش).
وقال بعض أهل العلمِ: يُقدَّمُ النَّاسخُ وإن كان ظَنِّيَّا على المنسوخ، وإن كان قطعياً، واحتجَّ على ذلك بأنَّ المنسوخَ من القطعي هو (1) أمرٌ مظنونٌ، وهو دوامُ العمل به واستمرارُه، والدَّليل على أنَّ دوامَهُ مظنونٌ بتجويزُ النَّسْخِ عليْه، وتحريمُ العملِ به على العالِمِ حتَّى يطلُبَ النَّاسِخَ، فلا يجِدُهُ، فلو كان الدَّوام معلوماً، لاستحال مع العِلْمِ به تجويزُ النَّسخِ، ولَكَان طَلَبُ النَّاسِخ عَبَثاً، وإنَّما المقطوعُ بهِ ثبوتُه فيما مضى لم يُنْسَخْ، فيحتاجُ إلى ناسخٍ قاطعٍ.
وبعدُ، فليسَ يَصْلُحُ أن يكونَ الأمرُ المنسوخُ بالناسِخِ القطعيِّ مقطوعاً به؛ لأنَّه لو كان كذلك، لأدَّى إلى تعارُضِ الأدِلَّةِ القاطِعَةِ، وهو محالٌ، فإذا ثبتَ أنَّ المنسوخَ هو الدوامُ والاستمرارُ، وأنَّ ذلِكَ القَدْرَ مظنونٌ في القطعيِّ وغيره، وثبتَ أنَّ النَّسْخَ عليه مُجَوَّز مُحتَملٌ قَبْلَ (2) ورودِ الناسِخِ الظَّنِّيَ، فلا شَكَّ أنَّ النَّاسِخ الظَّنِّيِّ إذا ورد، اقتضى رُجحان النَسخِ ومرجوحية عَدَمِ النَّسْخِ، فكيف يقال في المرجوحِ الَّذي ليس بِمظْنونِ الثُّبوتِ: إِنَّهُ مقطوعٌ (3) بثبوتهِ، وليس براجح ولا مساوٍ، بل مرجوحٌ موهومٌ، وبعد ثبوت كونهِ مرجوحاً موهوماً، كيف يَصِحُّ في النظَرِ التَمَسُّكُ به، وتركُ ناسخِهِ المظنون الثبوتِ الرَّاجِحِ الصِّحَّةِ، ولو صَحَّ قولُ القائل: إنَّ المنسوخَ القطعيَّ معلومُ الثُّبوتِ، وإنَّ الظنِّيِّ لا يعارِضُ العلم، لكانَ يَجِبُ أنْ يقطع على كَذِبِ مَنْ روى النَّاسِخَ، لأن مَنْ أخبر بأنَّ المعلومَ الثبوتِ غير ثابتٍ، وَجَب القطعُ بتكذيبِهِ، وهذا ما لم يَقُلْ به قائلٌ.
(1) في (ش): " وهو".
(2)
سقطت من (ش).
(3)
في (ش): " إنَّه ليس مقطوع ".
فإذا عرفتَ أنَّ الخلافَ بَيْنَ العُلَماءِ قد وَقَعَ في تقديم النَّاسِخِ الظنيِّ على المنسوخ القطعيِّ، وأنَّ حُجَّتهُم في القوة كما ترى، فكيف بتقديم الناسِخِ الظَّني على المنسوخ الظنَيِّ؟ ولو أنَّا استفتينا يحيى بن الحسين عليه السلام (1) وسائِرَ الأئمة الأعلامِ في تقديم الناسِخِ مِنْ رواية غيرهم مِن الثقات على المنْسوخِ من (2) روايتهم مع صحَّة النَّاسخ على شرط الأئمة وأهلِ العلم، ما اختلفَ منهُمُ اثنانِ في تجويز هذا، بل وإيجابه، وأين هذا من باب التَّرجيح؟ ولعلَّ مَنْ له أدنى مَعْرِفَةٍ بالأصولِ، لا يَشُكُّ في أنَّ الأصوليِّينَ أفردوا للنَّسْخِ باباً وللتَّرجيح (3) باباً، لأنَّهما أمرانِ مختلفانِ متغايرانِ، وبابانِ مفترقان متباعدان.
الوجه الثالث: سلمنا عدمَ النسْخِ، فإنَّا نُجِيزُ الأمرَيْن معاً، ونقول كما قال ابن أبي ليلى (4)، وإسحاق، والحكم: مَنْ شَاءَ جَهَرَ، ومن شاء
(1) لعله السيد يحيى بن علي بن الحسين مصنف " الياقوتة " و" الجوهرة "، فقد جاء في هامش " البدر الطالع " 2/ 331 ما نصه: في تاريخ المولى العلامة الحافظ أحمد بن عبد الله بن عبد الرحمن الجنداري -حفظه الله- ما لفظه: في سنة (739) توفي السَّيِّد العلامة المجتهد يحيى بن الحسين بن يحيى بن علي صاحب " اللمع " ابن الحسين صاحب " الياقوتة " و" جوهرة آل محمد " و" اللباب " وغيرها من المؤلفات، وكان علامة وَرِعاً لا تأخذه في الله لومة لائم، ولم يقل بإمامة الإمام يحيى فيما يروى، وله تحصيلات وتقريرات في مذهب الهادي، عاش نيفاً وستين سنة، ودفن بجامع صنعاء بجنب الإمام أحمد بن المطهر.
(2)
من قوله: " رواية غيرهم " إلى هنا سقط من (ش).
(3)
من قوله: " ولعلَّ " إلى هنا ساقط من (ب).
(4)
هو مفتي الكوفة وقاضيها الإمام أبو عبد الرحمن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى الأنصاري الكوفي المتوفى سنة 148 هـ، كان نظير الإمام أبي حنيفة في الفقه، إلا أنَّه في الحديث سيىء الحفظ، كثير الخطأ، خرج حديثه أصحابُ السنن.
والحكم: هو الإمام الكبير، عالم أهل الكوفة، أبو محمد الحكم بن عتيبة الكندي مولاهم الكوفي المتوفى سنة 115 هـ، ثقة، أخرج حديثه الشيخان وأصحاب السنن، وإسحاق: هو الإمام الكبير شيخ المشرق سيد الحفاظ أبو يعقوب إسحاق بن إبراهيم بن مخلد الحنظلي المروزي المعروف بابن راهويه المتوفى سنة 238 هـ، وهو أحد أئمة =
خافت، وَكُلٌّ واسِعٌ.
وليس هذا بترجيحِ بعضِ الأحاديثِ على بعض، بل هذا استعمالٌ للجميع منها؛ لأنَّها لم تُعارض، والدَّليل على أنها لم تُعَارَضْ: أنَّ بعضَها ورد بأنه عليه السلام جَهَرَ، وبعضَها ورد بأنَّه خافت، فجاز أن يكونَ ذلك وارداً على التَّخيير، كما أنَّه يجوز بالإجماعِ أن يقولَ عليه السلام: من شاء جهر، ومن شاء خافَتَ، فلمَّا جاز ذلك وأمكن (1)، جاز الاقتداءُ بكُلِّ واحدٍ من الفعلين الثُّبوتيَّيْن، إذ لا يتعيَّن أحدُهما إلا مَعَ المعارضَةِ المحْضة، والمعارضَةُ المَحْضَةُ لا تَصِحُّ بين الأفعالِ المتجرِّدةِ عَنِ الأقوالِ، وإنَّما تكونُ بَيْن الأقوالِ، أوْ بَيْن فعلٍ وقولٍ، وبيانُ ذلِكَ
= المسلمين، وعلماء الدين، اجتمع له الحديث، والفقه، والصدق، والورع، والزهد، روى له الجماعة سوى ابن ماجة. وقال أحمد بن حفص شيخ ابن عدي: سمعت أحمد بن حنبل يقول: لم يعبر الجسر إلى خراسان مثل إسحاق، وإن كان يخالفنا في أشياء، فإن الناس لم يزل يخالف بعضهم بعضاً.
قال شعيب: وهكذا يكون عظماء الرِّجال في اتساع صدورهم، وتقدير جهود غيرهم، والإشادة بفضلهم، فإن اختلاف الأئمة المجتهدين في فهم نصوص الكتاب والسنة وما تدل عليه ظاهرة طبيعية في شريعة الإسلام، لأن أكثر نصوصه ظنية الدلالة، وهذا الاختلاف مما أراده الله تعالى ورضيه، فهو رحمة وتوسعة ومجال للتنافس والإبداع. ولقد كان من أثره هذا التراث الضخم الذي تحفل به المكات الإسلامية من المؤلفات المتنوعة. واختلافهم في القرآن إنما هو في بعض ما استنبط منه من أحكام نتيجة للخلاف في فهمه، لخفاء في دلالته بسب من الأسباب، كالاشتراك في لفظه، والتخصيص في عامه، أو التقييد في مطلقه، أو ورود نسخ عليه، أو غير ذلك من الأسباب المبينة في مظانها. واختلافهم في السنة لا يقتصر على اختلافهم فيما تدل عليه الأحاديث وما يراد منها، كما هو الحال في آي القرآن، بل يتجاوز ذلك، فيختلفون في الحكم على الحديث صحة وضعفاً، فيرى بعضهم صحيحاًً ما يراه الآخر ضعيفاً، إلى غير ذلك من أسباب الاختلاف الكثيرة التي بينها العلماء في مؤلفاتهم، وأما الآيات التي وردت في ذم الخلاف، والنهي عنه، والتحذير منه، فالمراد منه الخلاف المذموم الذي ينجم عنه التعصب والحقد وطعن الخصم في عرضه ودينه والافتئات عليه بما هو منه بريء.
(1)
جملة " ذلك وأمكن جاز " ساقطة من (ب).
مذكورٌ في الأصول.
وقد نَصَّ حيٌّ الفقيهُ العلامَّة عليُّ بنُ عبدِ اللهِ في تعليقهِ على " الجوهرة " على ثُبُوتِ الجَهْرِ والمخافَتَةِ معاً عَنِ النبِي صلى الله عليه وسلم، وقال ما لفظه:" اعلم أنَّ الإنصافَ في هذه المسْألَةِ هو أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجْهَرُ في البَعْضِ، ويُخافِتُ في البعض "(1). ذكره في الكلام فيما تَعُمُّ به البلوى مِنْ أخبار الآحاد، فإذا ثبتَ أن الأمْرَيْنِ كانا مِنْهُ عليه السلام مِنْ غيرِ تعارُض، دَلَّ على جواز الأمرَيْنِ، ولا شكَّ أنهُ قد ورد في بعض الأقوال ما يقتضي المعارَضَةَ، ولكن لم يثبُتْ عندي صحَّةُ ذلك القولِ المرويِّ على ما أعْتَبِرُهُ في شروط خَبَرِ الواحدِ ممَّا اعْتَبرَهُ غيري من نُجوم الأئِمَّةِ، وعلماءِ الأمَّةِ.
فإن قيل (2): في هذا ترجيحُ التَّسوِيَةِ بينَ الجَهْرِ وَبَيْنَ الإخْفاتِ على قوْلِ جماهير العِتْرةِ عليهم السلام أنَّ المشروعَ هُوَ الجَهْرُ دُونَ الإِخفاتِ (3).
قلنا: الجوابُ من وجهين.
أَحَدُهُما: أن ذلك ليس بِخِلافٍ لإجْمَاعهِمْ، لأنهُ قد رُوي ذلِكَ عَنْ أميرِ المؤمنين عليه السلام، فإن رِوَايَةَ الجهرِ والإخفات مشهورةٌ عَنْهُ عليه السلام، وليسا قولين، فنقول: إن أحدَهُمَا قديمٌ، والآخَرَ جديدٌ (4)، بل
(1) أحاديث الإسرار أولى بالتقديم لثبوتها وصحة سندها، وأما أحاديث الجهر فلا توازيها في الصحة والثبوت.
(2)
في (ب): " قلت ".
(3)
من قوله: " على قول جماهير " إلى هنا ساقط من (ب).
(4)
في (ب): " حديث ".
هُما فِعلانِ يَصِحُّ نسبَتُهما إليه عليه السلام منْ غَيْرِ رجُوعٍ عن أحَدِهمَا، وهذا هو الظَّاهر، ومَنْ قَالَ: إِنَّهُ قد رَجَعَ عن أحَدِهِمَا، احتاجَ إلى دليلٍ على ما ادَّعاهُ.
وثانيهما: إنَّما كلامُنا في التَّرجيحِ في الرِّوايةِ الذي ادَّعاه السَّيدُ، وأمَّا التَّرجيحُ في المذهب، فقد تركنا الخَوْضَ فيه، لأنَّهم عليهم السلام مجمعون على جوازِهِ، وما زالوا عليه في قديمِ الزَمانِ وحديثه، هذا النَّاصِرُ عليه السلام اشترط الخوفَ في جوازِ قَصْرِ الصَّلاة في السَفَرِ (1)، وخالف
(1) وعزاه النووي في " شرح مسلم " 5/ 195 إلى بعض السلف، ونصه فيه: ثم مذهب الشافعي، ومالك، وأبي حنيفة، وأحمد، والجمهور أنَّه يجوز القصر في كل سفر مباح، وشرط بعض السلف كونه سفر خوف، وبعضهم كونه سفر حج أو عمرة أو غزو، وبعضهم كونه سفر طاعة.
وليس في قوله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} متمسك لمن شرط الخوف في القصر، لأن الآية وردت في قصر الصفة في صلاة الخوف، لا في قصر العدد، لما علم من تقدم شرعية قصر العدد، وكما يدل عليه آخر الآية.
ولو سلم أنها في قصر العدد في صلاة السفر، فالقيد في قوله:{إِنْ خِفْتُمْ} اتفاقي لا احترازي، فعن يعلى بن أمية قال: قلت لعمر بن الخطاب: إنما قال الله سبحانه وتعالى: {أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} فقد أمن الناس؟ قال عمر: عجبتُ مما عجبتَ منه، فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:" صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته ". أخرجه الشافعي في " مسنده " 1/ 311، وأحمد (174) و (244) و (245)، ومسلم (686)، والطبري (10310) و (10312)، والبيهقي 3/ 134 و140.
قال ابن القيم في " زاد المعاد " 1/ 466 بتحقيقنا: والآية أشكلت على عمر وغيره، فسأل عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأجابه بالشفاء، وأن هذا صدقة من الله، وشرع شرعه للأمة، وكان هذا بيان أن حكم المفهوم غير مراد، وأن الجناح مرتفع في قصر الصلاة عن الآمن والخائف، وغايته أنَّه نوع تخصيص للمفهوم أو رفع له. وقد يقال: إن الآية اقتضت قصراً يتناول قصر الأركان بالتخفيف، وقصر العدد بنُقصان ركعتين، وقُيِّدَ ذلك بأمرين: الضرب في الأرض، والخوف، فإذا وُجِدَ الأمران، أُبيحَ القصران، فيصلون صلاة الخوف مقصورة عددُها وأركانها، وإن انتفي الأمران، فكانوا آمنين مقيمين، انتفي القصران، فيصلون صلاة تامة كاملة، وإن وُجِد أحدُ السببين، ترتب عليه قصره وحده، فإذا وُجِدَ الخوف والإقامة، قُصرت =
المشهورَ مِنْ مذاهبِ (1) آبائِهِ عليهم السلام لِدليل اقْتَضى ذلِكَ.
وقال القاسم عليه السلام: إنَّ الوُضوءَ واجبٌ على كل مَنْ قَامَ إلى الصَّلاة ِ، وإنْ كانَ على وضوءٍ (2)، وخالفَ المشهورَ مِنْ مذاهبِ آبائهِ
= الأركان، واستوفي العدد، وهذا نوع قصر، وليس بالقصر المطلق في الآية، فإن وجد السفر والأمن، قُصر العددُ واستوفي الأركان، وسميت صلاة أمن، وهذا نوع قَصرٍ، وليس بالقصر المطلق، وقد تُسمى هذه الصلاة مقصورة باعتبار نقصان العدد، وقد تُسمى تامة باعتبار إتمام أركانها، وأنها لم تدخل في قصر الآية.
(1)
في (ش): " مذهب ".
(2)
ومستنده في ذلك قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ .. } وللعلماء في المراد بهذه الآية قولان:
أحدهما: إذا قمتم إلى الصلاة محدثين فاغسلوا، فصار " الحدث " مضمراً في وجوب الوضوء، وهذا قول سعد بن أبي وقاص، وأبي موسى الأشعري، وابن عباس، والفقهاء. انظر الآثار في " جامع البيان "(11300) و (11301) و (11302) و (11303) و (11304) وما بعدها.
والثاني: أن الكلام على إطلاقه من غير إضمار، فيجب الوضوء على كل من يريد الصلاة محدثاًً أو غير محدث. وهذا مروي عن علي رضي الله عنه، وعكرمة، وابن سيرين انظر الآثار في " جامع البيان "(11322) و (11323) و (11324) ونقل عنهم استمرار الوجوب.
ونقل عن جماعة من العلماء أن ذلك كان واجباً، ثم نسخ بالسنة، وهو ما روى بريدة بن الحصيب أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الصلوات يوم الفتح بوضوء واحد، ومسح على خفيه، فقال له عمر: لقد صنعت اليوم شيئاً لم تكن تصنعه، فقال:" عمداً صنعته يا عمر ". أخرجه أحمد 5/ 350، ومسلم (277)، وأبو داوود (172)، والترمذي (61)، والنسائي 1/ 86، وابن ماجة (510)، والطبري (11330)، والبيهقي 1/ 162 و271، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، والعمل على هذا عند أهل العلم أنَّه يصلي الصلوات بوضوء واحد ما لم يحدث، وكان بعضهم يتوضأ لكل صلاة استحباباً وارادة الفضل.
قلت: ويمكن حمل الآية على ظاهرها من غير نسخ، ويكون الأمر في حق المحدثين على الوجوب، وفي حق غيرهم على الندب.
قال الإمام أبو جعفر الطري 10/ 19 بعد أن ذكر أقوال أهل التأويل في معنى الآية: وأول الأقوال في ذلك عندنا بالصواب قول من قال: إن الله عنى بقوله: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا} جميع أحوال قيام القائم إلى الصلاة غير أنَّه أمر فرض بغسل ما أمر الله بغسله القائم =
عليهمُ السَّلامُ في ذلك، كما ذكره الأميرُ الحسينُ في " الشفاء "، فإنَّه حكى قوْلَهُ هذا، وقال: إنَّهُ محجوجٌ بإجماعِ أهْلِهِ عليهم السلام، أو كما قال.
ومن ذلك: قولُ السيدِ أبي العبَّاسِ رحمه الله: إِنَّ شرطَ صِحَّةِ الإمامَةِ أنْ يكونَ الإمام (1) معصوماً، وقولُه: إن قول الإمام حُجَّةٌ كقولِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، حكى ذلك عنه الإِمامُ يحيى بن حمزة في كتاب " الانتصار "،
= إلى صلاته بعد حدث كان منه ناقض طهارته، وقبل إحداث الوضوء منه، وأمر ندب لمن كان على طهر قد تقدم منه، ولم يكن منه بعده حدث ينقض طهارته، ولذلك كان عليه السلام يتوضأ لكل صلاة قبل فتح مكة، ثم صلى يومئذ الصلوات كلها بوضوء واحد ليعلم أمته أن ما كان يفعل عليه السلام من تجديد الطهر لكل صلاة إنما كان منه أخذاً بالفضل، وإيثاراً منه لأحد الأمرين إلى الله، ومسارعة منه إلى ما ندبه إليه ربه، لا على أن ذلك كان عليه فرضاً واجباً.
قلت: وقوله: " كان عليه السلام يتوضأ لكل صلاة قبل فتح مكة " محمول على غالب أحيانه، فربما صلى أكثر من صلاة بوضوء واحد، فقد أخرج البخاري (215) من حديث سويد بن النعمان قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام خيبر، حتى إذا كنا بالصهباء، صلى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم العصر، فلمَّا صلى دعا بالأطعمة، فلم يؤت إلا بالسويق، فأكلنا وشربنا، ثم قام النبي صلى الله عليه وسلم إلى المغرب، فمضمض، ثم صلى لنا المغرب ولم يتوضأ.
وجمهور أهل العلم على استحباب الوضوء لكل صلاة لما روى أحمد 2/ 259 من طريق أبي عبيدة الحداد، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم عند كل صلاة بوضوء، أو مع كل وضوء سواك، ولأخرت عشاء الآخرة إلى ثلث الليل" وإسناده حسن.
وأخرج البخاري (214) وغيره عن عمرو بن عامر، عن أنس قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يتوضأ عند كل صلاة، قلت (القائل عمرو بن عامر): كيف كنتم تصنعون؟ قال: يجزىء أحدنا الوضوء ما لم يحدث. ولفظ النسائي: عن عمرو أنَّه سأل أنساً: أكان النبي صلى الله عليه وسلم يتوضأ لكل صلاة؟ قال: نعم. ولابن ماجة: وكنا نحن نصلي الصلوات كلها بوضوء واحد.
وروى أحمد 5/ 225، وأبو داوود (48) بسند حسن عن عبد الله بن حنظلة بن الغسيل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أُمِرَ بالوضوء لكُلِّ صلاة طاهراً كان أو غير طاهر، فلمَّا شقَّ ذلك عليه، أمر بالسواك عند كل صلاة، ووضع عنه الوضوء إلا من حدث.
(1)
ساقطة من (ب).
وعبدُ اللهِ بنُ زيدٍ (1) في كتاب " المَحَجَّة البَيْضَاء "(2)، والفقيهُ يوسفُ بنُ أحمد بن عثمانَ (3) في كتاب " نورُ الأبصار ".
وَمِنْ ذلك: قولُ السّيِّد الإمامِ المؤيَّدِ باللهِ عليه السلام: إِنَّ العَقْدَ والاختيارَ هو طريقُ الإمامَةِ دُوْنَ الدَّعْوة، والخُروجِ. حكاهُ عنهُ الإِمامُ في " الانتصار ".
ومن ذلك: قولُ المؤيَّدِ باللهِ عليه السلام: إنَّ التَّقليدَ في معرفَةِ اللهِ تعالى جائزٌ، والعلمَ بالدَّلِيلِ غيرُ واجبٍ. نصَّ عليه المؤيَّدُ في موضعين من كتابِ " الزِّيادَاتِ "(4)، واحتجَّ عليه، وصرَّح به تصريحاً يَستحيلُ تأويلُهُ إلَّا على مُقتَضَى مذاهب الباطنيَّةِ في التَّأويل، وحكى ذلك القاضي شرفُ الدين حسن بن محمد النَّحوي عن المؤيَّدِ باللهِ في تعليقه على " الزِّيادات "، ولم يتأوَّلْه، وحكى ذلك الإمام يحيى في " الانتصار " عن
(1) ترجمه صاحب " العقود اللؤلؤية " 1/ 71، فقال: هو الفقيه العالم أبو محمد عبد الله بن زيد بن مهدي العريقي
…
كان فقيهاً، دقيق النظر، ثاقب الفطنة، اتضح له في بعض المسائل ما لم يتضح لغيره، فلم يقلد فيها إمامه، فأنكر عليه علماء وقته، إذ لم يُطيقوا الإنكار على غيره ممن يقول بقوله كأحمد وداود .. ، وكانوا يعظمونه، ويُثنون عليه، وكان مشهوراً بالعلم والصلاح، ومصنفاته تدل على غزارة علمه، وجودة نقله، وله عدة مصنفات في الفقه والأصول، وكان جيد الفقه. توفي سنة 640 هـ معتكفاً.
وفي " هدية العارفين " 5/ 460: عبد الله بن زيد بن مهدي حسام الدين العريقي، من علماء الزيدية توفي سنة 640، قال صاحب " قلادة النحر ": كان محدثاً فقيهاًً، له تصانيف في الفقه والأصول.
(2)
" البيضاء " ساقطة من (ش).
(3)
هو يوسف بن أحمد بن محمد بن عثمان اليمني الزيدي صاحب التصانيف الشهيرة، قال الشوكاني في " البدر الطالع " 2/ 350: كان مستقراً بهجرة العين من ثلا، والطلبة يرحلون إليه من جميع أقطار اليمن، فيأخذون عنه في جميع العلوم الشرعية
…
توفي في جمادى الآخرة سنة 832 هـ.
(4)
منه نسخة مخطوطة بالجامع الكبير بصنعاء. انظر " الفهرس " ص 259.
المؤيَّد ِ بالله عليه السلام، ولم يتأوَّلْهُ، ولم يَزَلْ قدماءُ العِتْرَةِ عليهم السلام يُخَالِفُونَ الجماهير من آبائِهِمْ متَى أوجبَ الدَّليلُ ذلِكَ.
وقد قال المؤيَّدُ بالله عليه السلام في غيرِ مسألةٍ: وأخافُ أنْ يكونَ قولُ يحيى في هذِهِ المسألةِ مخالِفَاً للإجماعِ.
وقال م (1) في قولِ القاسم عليه السلام بتقديمِ التَّوَجُّه قبل التكبير: إنَّه أوَّلُ من قال به، وإنَّ مَنْ قَبْلَهُ مِن العِترة وغيرهم خالفوه في ذلك.
وكذلك استمرَّ عَمَلُ المتأخِّرينَ مِنْ أهلِ البيتِ عليهم السلام ُ على ما ذكرته مِن مخالفةِ الجماهيرِ، فقال الأميرُ الحسينُ بن مُحَمَدٍ في كتاب " الشفاء ": إِنَّ صلاة الجُمُعَةِ خَلْفَ الفاسِقِ جَائِزَةٌ، واحتجَّ على ذلك، وقال: إنَّه لا يُحْفَظُ عن أحدٍ من أهلِ البيت أنَّه يقولُ به، ولكنَّه لا يُعْلَم أنَّهمْ أجمعوا على تحريم ذلك، أو كما قال، وتابعه على هذا الاختيار الإمامُ محمَّدُ بنُ المطهرِ.
وكذلك الإِمامُ المهديُّ علي بنُ مُحَمَّد عليه السلام قد ذهبَ إلى جوازِ لباسِ الحريرِ (2) للمُجَاهِدِينَ في غير وقتِ الحربِ، وكان الجُنْدُ
(1) في (ش): المؤيد.
(2)
أي: البلدي، لا النباتي، فإن الأول هو المحرم لبسه بالنسبة للذكور إلا عند الحاجة، فقد روي البخاري (2919) و (5839)، ومسلم (2076)(25) من طريق قتادة عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص لعبد الرحمن بن عوف، والزبير في قميص من حرير من حِكَّة كانت بهما. وفي رواية: شكوا إلى النبي -يعني: القمل- فأرخص لهما في الحرير، فرأيته عليهما في غزاة.
قال الطبري فيما نقله عنه الحافظ في " الفتح " 10/ 295: فيه دلالة على أن النهي عن لبس الحرير لا يدخل فيه من كانت به علة يخففها لبس الحرير. قال الحافظ: ويلحق بذلك ما يقي من الحر والبرد حيث لا يوجد غيره.
وقال الإمام الشوكاني في " نيل الأوطار " 2/ 81: والحديث يدل على جواز لبس الحرير =
يَلْبَسونه عِنْدَهُ عليه السلام في مُدَّةِ أيَّامِهِ المباركَةِ، فلمْ يُنْكِرْ ذلك عليهم.
وذهب عليه السلام أيضاًً إلى جوازِ رَمْي البُغَاةِ مِنْ أهلِ الإِسلامِ بالمَنْجَنِيقِ.
وكُلُّ ذلك خِلَافُ المشهورِ مِنْ مذاهبِ آبائهِ عليهم السلام، وكذلك الإمامُ النَّاصر عليه السلام قد استجازَ ذلِكَ كُلَّه، وذهبَ إليه، وزادَ عليه جوازَ المِزْمَارِ مَعَ الطُّبُولِ لِمَصْلَحَةِ الجِهَادِ والتَّرْغِيب فيه. وهذا القبيلُ كثيرٌ لا سبيل إلى استقصائِهِ، فلم يَزَلْ أهلُ العلمِ مِنَ الخَلَفِ والسَّلَفِ يَشِذُّون بمذاهبَ تُخَالِفُ مذاهِبَ الجَمَاهيرِ، ولهذا ذهبَ العلماءُ أنَّ الإجماعَ لا ينعقدُ إذا لم يبقَ مِنَ العُلَمَاءِ إلا واحِدٌ، ومنْهُمْ مَنْ قَالَ: يكون إجماعاً ظَنِّيَّاً عُرْفِيّاً، لا حقيقيّاً، وقيل (1): يكونُ حُجَّةً، ولا يكون إجماعاًً، فلولا جوازُ
= لعذر الحكة والقمل عند الجمهور، وقد خالف في ذلك مالك، والحديث حجة عليه، ويقاس غيرهما من الحاجات عليهما.
وبوب البخاري عليه في الجهاد، باب: الحرير في الحرب، قال الحافظ في " الفتح " 6/ 101: وأما تقييده بالحرب، فكأنه أخذه من قوله في رواية همام " فرأيته عليهما في غزاة "، ووقع في رواية أبي داود:" في السفر من حكة "، وقد ترجم (أي: البخاري) له في اللباس، ما يرخص للرجال من الحرير للحكة. وجعل الطبري جوازه في الغزو مستنبطاً من جوازه للحكة. فقال: دلت الرخصة في لبسه بسبب الحكة أن من قصد بلبسه ما هو أعظم من أذى الحكة كدفع سلاح العدو ونحو ذلك، فإنه يجوز، وقد تبع الترمذي البخاري فترجم له: باب ما جاء في لبس الحرير في الحرب. ثم المشهور عن القائلين بالجواز أنَّه لا يختص بالسفر، وقد اختلف السلف في لباسه، فمنع مالك وأبو حنيفة مطلقاًً، وقال الشافعي، وأبو يوسف بالجواز للضرورة، وحكى ابن حبيب عن ابن الماجشون أنَّه يستحب في الحرب، وقال المهلب: لباسه في الحرب لإرهاب العدو، وهو مثل الرخصة في الاختيال في الحرب.
قلت: وفي " الدر المختار " وحاشيته 6/ 351 و357: وقال الصاحبان أبو يوسف ومحمد: يحل لبس الحرير في الحرب. قال ابن عابدين: وظاهر التقييد بحالة الحرب أن المراد وقت الاشتغال بها، لكن في القهستاني: وعن محمد: لا بأس للجندي إذا تأهب للحرب بلبس الحرير وإن لم يحضره العدو، ولكن لا يصلي فيه إلا أن يخاف العدو.
(1)
في (ش): " وقد ".
شذوذِ العالِمِ بالاختيار، ما رَسَمْتُ هذِهِ المسألَةَ، وقد تقدَّم ذِكْرُ تَفَرُّدِ عَلِيٍّ عليه السلام بجواز بيع أمِّ الوَلَدِ (1)، وقد ذَكَرَ الأميرُ شمسُ الدِّينِ أنَّ لِعَلِيٍّ عليه السلام ما لو يُفْتي بهِ غَيْرُهُ مِنْ أهلِ الأعصارِ المتأخِّرَةِ لنُسِبَ إلى الجَهْلَ.
وقد ذكر السُّبْكي (2) في " طبقاته " ما شذَّ بِهِ كلُّ عالِم مِمَّنْ ذكره، فصارَ جواز الشُّذوذِ مُجْمعَاً عليه لِشُهْرَتِهِ، وَعَدَمِ الِإنكارِ، فَمُحَرِّمُهُ أقربُ إلى مُخَالَفَةِ الإجماعِ منه إلى مُتَابِعِهِ (3)، وَمَنْ عقَدَ الإجماعَ مع مخَالَفَةِ الوَاحدِ، لم يجْعلْهُ إجماعاً قطعياً، ولا أثَّمَ ذلِكَ الواحِدَ.
فإن قُلْتَ: وما المُوجِبُ للشُّذوذ وموافقة الجماهير أولى؟
قلتُ: الموجبُ دليلٌ هو عند المخالِفِ أرجحُ من مُوَافَقَتِهِمْ، وموافَقَتُهُمْ حسَنَةٌ، لكنْ إذا حصل ما هو أحْسَنُ مِنْهَا، كانَ أوْلَى، مثلُ ما إِنَّ العَمَلَ بالحديثِ حَسَن، لكِنْ إذا حصل (4) العَمَلُ بالقرآنِ، وَلَمْ يُمْكِنِ الجَمْعُ، كان أحْسَن.
فإنْ قلْتُ: فكيف يَجُوزُ للعالِمِ مِنْ أهلِ البيتِ عليهم السلام أنْ يُخَالِفَ إجماعَ أهْلِهِ، أو يُخَالِفَ إجماعَ الأمَّةِ؟
(1) انظر 1/ 292.
(2)
هو قاضي القضاة تاج الدين أبو نصر عبد الوهاب بن علي بن عبد الكافي السبكي الشافعي ولد سنة 727 هـ، وتوفي سنة 771 هـ وكتابه " الطبقات " ترجم فيه لأعلام الشافعية، رتبه على سبع طبقات، عقد لأهل كل مئة سنة طبقة، ويتخلل الترجمة فوائد حديثية وفقهية وتاريخية وأدبية، وكثيراً ما يذكر في الترجمة الآراء التي ينفرد بها صاحب الترجمة. وقد طبع الكتاب طبعة متقنة محررة بتحقيق الأستاذين الفاضلين: محمود محمد الطناحي، وعبد الفتاح حلو في عشرة أجزاء، سنة 1964 م بمطبعة عيسى البابي الحلبي وشركاه بمصر.
(3)
في (ب): متابعته.
(4)
من قوله "ما هو" إلى هنا ساقط من (ش).
قلت: الجوابُ عن هذا بعْدَ تسليم كَوْنهِ إجماعاً واضحٌ عنْدَ مَنْ لَهُ أدنى تمييزٍ، وذلك لأنَّ هذِهِ الإجماعاتُ التي في المسائِلِ إجماعاتٌ ظَنيَّةٌ، والدَّليلُ الظَّنِّي يجوز مُخَالَفَتُهُ لأِرْجحَ منه، وإنْ كانَ ذلك الدَّليلُ مِنَ الكِتابِ والسُنَّةِ، مع أنَّ مَنْ أنكر أنَّهما حُجَّةٌ كَفَرَ، فكيف بإجماعَيِ الُأمَّةِ والعِتْرَةِ اللَذَيْنِ منْ أَنْكَرَ كوْنَهمَا حُجَّةً، لم يُكَفرْ، وَلَمْ يُفَسَّقْ؛ هذا في مَنْ أنكر القَطْعِيَّ مِنْهُما والظَّنِّيَّ، وإنَّما فَسَّقُوا مَنْ خَالَفَ إجماع الُأمَّةِ القَطْعِيَّ، لا مَنْ قال: إنَّه (1) لَيْسَ بِحُجَّةٍ، فلا يقَعُ في هذا وَهْمٌ، فأمَّا الإجْمَاعُ الظَّنِّيُّ، فلم يَقُلْ أحدُ: إنَّ مُخَالِفَهُ يَفْسُقُ، دع عنك مُنْكِرَهُ، بل قال بعض العُلماء: إنَّ الإجْمَاع الظنِّيَّ: ليس بحُجَّةٍ البَتَّةَ، وَلَمْ أعلمْ أنَّ في أهل العلم مَنْ خَرَجَ على المُخَالفِ في الإجماع الظَّنِّيِّ.
وقد نصَّ الإمام يحيى في "المعيار" أنَّ الخبَرَ الظَّنِّيَّ يُقَدَّمُ على الإِجماعِ إذا لم يثبُتْ أنَّ أهل الإجماعِ قد عَلِمُوا بِهِ، وَخَالفُوهُ بعد العلْمِ به (2)، فإنْ خالَفُوهُ بعدَ العِلْمِ بهِ، قُدِّمَ الإجماعُ.
فإذا عَرَفْت هذِه الجُمْلَةَ، تَبَيَّنَ لك سُهُولَةُ أمْرِ المخالفة في الفروعِ، وأنَّ المُخَالِف لو خالف الإجماعُيْنِ -إجماعَ الأمَّةِ والعِتْرَةِ- على (3) هذه الصِّفَةِ، لم يستَحِقَّ الِإنكار والتَّأثيم، سواءٌ قال: إنَّهما إذا كانا ظَنِّيَّيْن، فلا حُجَّةَ فيهما، أو قال: بأنَّهما حُجَّةٌ، ولكن حَصَلَ ما هو أرْجَحُ مِنْهمَا، فكيفَ بِمنْ لم يُخَالِفْ إجماعاً البتَّة؟
وبعدُ، فالخلاف لأهلِ البيتِ عليهم السلام في هذه المسألة يَسِيرٌ
(1) في (ب): إن.
(2)
ساقطة من (ب).
(3)
في (ش): مع.