الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العالمين، وكلُّ ذلِكَ خلافُ المعلوم.
الوظيفة الثالثة: الاعتراف بالعجزِ عن معرفةِ حقيقة هذه المعاني
، فإنَّه إنِ (1) ادَّعى ذلِكَ، كذب. وهذا معنى قولِ مالكٍ رحمه الله: الكيفيَّةُ مجهولة، يعْني: التفصيلُ المرادُ به غير معلوم.
قلت: العَجْزُ عن المعرفة التفصيلية في ذاتِ الله وصفاته (2) ضروري؛ لأنَّ كلَّ ما لَمْ يُشَاهَدْ، ولا مثْلَ له في المشهوداتِ، استحال تصوُّره في الذَّهن، وما استحال تصوُّره، استحال أن يُعْرفَ إلَاّ على سبيل الجملة، ولو (3) لم نعرف النُّورَ أو غيره، وسمعنا ذكرَه، ما أمكن تصوُّرُه، ولو تصوَّره متصوِّرٌ مِنْ غيرِ معرفة، وقع في الخطأ، ولذلِك لا يُمْكِنُ تعريفُ الصغير لَذَّة النَّكاح على التَّفصيل، وَمَنْ قال له: إنَّه حُلْوٌ كالسُكَّرِ على جهة التَّقريب له، أخطأ، فكيف لا يجب الاعترافُ (4) بالعجز (5) وهو ضروري؟
قال الشيخ:
الوظيفة الرابعة: السُّكوت
؛ لأنَّهم بالسُّؤال متعرِّضُون لمَا لا يُطِيقونه، وخائِضُون فيما ليس هُمْ أهلاً له، فإنْ سأل السَّائل، جاهلاً، زاده جوابُهُ جهلاً، وربما ورَّطه (6) في الكُفْرِ مِنْ حيث لا يشعر، وإنْ سألَ عالماًً، عَجَزَ عن تفهيمه (7)، لِقصور فهمه هو، فالعامَّةُ والخاصَّةُ
(1)" إن " ساقطة من (ب).
(2)
" وصفاته " ساقطة من (ش).
(3)
في (ش): "فلو"، وفي (ج): ولم يعرف.
(4)
عبارة " لا يجب الاعتراف " ساقطة من (ش)، وفي (ب): لا يعترف.
(5)
في (ش): العجز.
(6)
في (ش): وسطه.
(7)
في (ش): تفهمه.
عاجزون عن معرفة كيفيَّة الأمور الإِلهية، قاصِرُونَ عن إدراكها، فَمنْ فعل ذلك، وجب على السُّلطانِ زجْرُه، ومنعُهُ، وضربه بالدِّرَّة، كما فعل عُمَرُ رضي الله عنه بِمَنْ يسألُ عَنِ الآياتِ المتشابهة (1)، وكما فَعلَ رسول الله صلى الله عليه وسلم في الإنكار على قوم رآهم يخوضُونَ في القدر، ويسألون عنه فقال:" أبِهذا أُمِرْتُمْ؟ "(2) وقال عليه السلام: "إنَّمَا أهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكمْ كَثْرَةُ
(1) أخرج الدارمي في " سننه " 1/ 54، والآجري في " الشريعة " ص 73، واللالكائي (1138) من طريقين عن حماد بن زيد، حدثنا يزيد بن حازم، عن سليمان بن يسار أن رجلاً من بني تميم يقال له: صبيغ بن عسل قَدِمَ المدينة وكانت عنده كتب، فجعل يسأل عن متشابه القرآن، فبلغ ذلك عمر رضي الله عنه، فبعث إليه، وقد أَعَدَّ له عراجين النخل، فلمَّا دخل عليه جلس، فقال له عمر رضي الله عنه: من أنت؟ فقال: أنا عبد الله صُبيغ، فقال عمر رضي الله عنه: وأنا عبد الله عمر، ثم أهوى إليه، فجعل يضربه بتلك العراجين، فما زال يضربه حتى شجَّه، فجعل الدمُ يسيل على وجهه، فقال: حسبُك يا أميرَ المؤمنينَ، فقد واللهِ ذَهَبَ الذي كنتُ أَجِدُ في رأسي. وانظر " الإصابة " 2/ 191.
(2)
أخرجه ابن ماجه (85)، وأحمد 2/ 178 من طريقين عن أبي معاوية، حدثنا داوود بن أبي هند، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال: خرجَ رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم ذات يوم والناسُ يتكلمون في القَدَرِ، قال: وكأنما تَفَقَّأ في وجهه حَبُّ الرُّمَّان من الغضب، قال: فقال لهم: " ما لكم تَضْربون كتاب الله بعضَه ببعضٍ؟ بهذا هَلَك منْ كان قبلكُم " قال: فما غبَطْتُ نفسي بمجلس فيه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أشْهَدْه، بما غبَطتُ نفسي بذلك المجلس، أَنَّي لم أَشْهَدْه. وصحح إسنادَه البوصيريُّ في " الزوائد " ورقة 7، والصواب أنَّه حسن. وانظر " شرح السنة " 1/ 260 - 262.
وأخرجه أحمد 2/ 181 عن أنس بن عياض، حدثنا أبو حازم، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال: لقد جلستُ أنا وأخي مجلساً ما أُحِبُّ أن لي به حُمْر النَّعم، أقبلت أنا وأخي، وإذا مشيخةٌ من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم جلوس عند باب من أبوابه، فَكرِهْنا أن نُفرِّقَ بينَهم، فجلسنا حجرةً، إذْ ذكروا آية من القرآن، فتمارَوْا فيها، حتى ارتفعت أصواتُهم، فخرج رسولُ الله صلى الله عليه وسلم مُغْضباً قد احمَّر وجهُه، يرميهم بالتُّراب، ويقول:" مهلاً يا قوم، بهذا أُهْلِكت الأمَمُ من قبلكم، باختلافهم على أنبيائهم، وضربهم الكُتُب بعضَها ببعضٍ، إن القرآن لم ينزلْ يُكذِّب بعضُه بعضاً، بل يُصَدَّقُ بعضُه بعضاً، فما عَرَفْتُم منه، فاعملوا به، وما جهلتُم منه، فردُّوه إلى عالِمِه ".
وقوله: " حُمْر النَّعَمِ " النَّعَم -بفتح النون والعين-: الإبل، والحمرُ: جمع أحمر، والبعير الأحمر: الذي لونه مثل لون الزعفران إذا صُبغَ به الثوبُ، وقيل: بعير أحمر: إذا لم =
مسَائِلِهِمْ" (1).
قلتُ: الحديثِ الثاني متَّفَقٌ على صحَّته، والأول جاء بأسانيد كثيرة (2) مجموعها يقضي بقوتها (3) كما يأتي عند ذكر القدر في مسألة أفعال العباد إن شاء الله تعالى.
قال الشّيْخُ: الوظيفة الخامسة: الإمساكُ عَنِ التَّصَرُّفِ في الألفاظِ الواردة.
وشرحُ ذلكَ: أنَّهُ يجبُ الجُمودُ على ألفاظِ هذِه الأخبار، والإمساكُ عَنِ التَّصَرُّفِ فيها من أربعة أوجه: التَّفسير، والتَّأويل، والتَّصرُّف، والتَّفريع.
= يخالط حمرتَه شيء، والإبل الحمر أصبر الإبل على الهواجر، والعرب تقولُ: خيرُ الإبل حمرها، وصُهبها، ومنه قول بعضهم: ما أحب أن لي بمعاربض الكلم حُمْرَ النِّعَم. " لسان العرب ": حمر.
وأخرجه عبد الرزاق (20367)، ومن طريقه أحمد 2/ 185، والبخاري في " أفعال العباد " ص 43، والبغوي في " شرح السنة "(121) والآجري في الشريعة ص 67 - 68 عن معمر، عن الزهري، عن عمرو بن شُعيب، عن أبيه، عن جده قال: سَمِعَ رسول الله صلى الله عليه وسلم قوماً يتدارؤون، قال الرمادي: يتمارَوْن، فقال:" إنَّما هَلَكَ من كان قبلكم بهذا، ضربوا كتابَ الله بعضه ببعض، وإنما نَزلَ كتابُ الله عز وجل يُصَدِّقُ بعضُه بعضاً، فلا تكذِّبوا بعضَه ببعض، فما علمتُم منه فقولوه، وما جهلتُم فَكلوه إلى عالِمه ".
وأخرجه مختصراً أحمد 2/ 191، ومسلم (2666)، من طريقين عن حماد بن زيد، عن أبي عمران الجَوْني قال: كتب إليَّ عبد الله بن رباح يُحدِّث عن عبد الله بن عمرو، قال: هجَّرتُ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً، فإنا لجُلُوس إذِ اختلفَ رجلان في آيةٍ، فارتفعتْ أصواتُهُما، فقال:"إنما هَلَكت الأمم قبلكم باختلافهم في الكتاب".
(1)
تقدم تخريجه 1/ 219، وأزيد عليه هنا أنه: صححه ابن حبان (18) بتحقيقنا، واستوفيت تخريجه هناك.
(2)
في (ش): كثيرة كثرة.
(3)
في (ش): بقوتها ثبوتها.
أمّا التَّفسيرُ: فأعني به تبديلَ اللّفْظِ بلغةٍ أُخرى يقوم مقامَها بالعربية (1) أو يُؤَدِّي معناها بالفارسية أو (2) التُّركية، بل لا يجوز النطقُ إلا باللفظِ الوارِدِ، لأن منْ ألفاظ العربيّةِ ما لا يوجَد له فارسيةٌ مُطابقةٌ، ومنها ما يُوجدُ له فارسيةٌ مُطابقة، لكنْ ما جَرَتِ عادةُ الفرس باستعمالها في المعاني الّتي جَرَتْ عادةُ العرب باستعمالها فيها، ومنها ما يكون مشتركاً في العربيَّة، و (3) لا يكون في العَجَمِيَّةِ كذلِكَ، ثمَّ إذا انقسمت هذه الأشياء إلى ما يجوز، وما لا يجوز، وليس إدراك التمييز بينها (4)، ولا الوقوف على دقائق التّمييز بينها، ولا الوقوف على دقائق (5) التفاوت (6) جلياً سهلاً (7) يسيراً، بل يَكْثُرُ فيه الإِشكالُ، ولا يتميزُ محل التَّفاوت عن مَحَلِّ التَّعادل، فَحَسْم الباب احتياطاً -إذ لا حاجَةَ ولا ضرورةَ إلى التَّأويل- أوْلى منْ فتح الباب، وإقحام (8) الخلقِ وَرْطَةَ الخطر.
فليت شعري: أيُّ الأمرين أحزمُ، وأحوط، وأسلمُ، والمتصرّف فيه ذاتُ الله وصفاته، وما عندي أنَّ عاقلاً متديِّناً يخفى عليه أنَّ هذا الأمرَ مُخْطِرٌ (9)، وأن الخَطَرَ في الصِّفات الإلهية يجبُ اجتنابُهُ، وقد أوجبَ الشَّرعُ على الموطوءة العِدَّة لِبَراءة الرَّحم، والحذر مِنْ خلطِ الأنسابِ
(1) في (ش): باللغة العربية.
(2)
"أو" سقطت من (ش).
(3)
الواو ساقطة من (ش).
(4)
في (ش): منها، وفي (ج): بينهما.
(5)
من " التمييز " إلى هنا ساقط من (ش).
(6)
من " بينها " إلى هنا ساقط من (ج).
(7)
ساقطة من (ج).
(8)
في (ش): واقتحام.
(9)
في (ش): حطر.
احتياطاً لحكم الوراثة (1)، والولاية وما يترتَّبُ على النّسَبِ، فقالوا مع ذلك: تجبُ العِدَّةُ على العقيم، والآيسة، والصَّغيرة، وعِنْدَ العَزْل؛ لأنَّ باطِنَ الأرحام إنَّما يَطَّلِعُ عليها علَاّمُ الغُيوب، فلو فتحنا بابَ النَّظر في التَّأويل، كُنَّا راكبين مَتْنَ الخطر، فكما أن إيِجابَ العِدَّةِ حُكْمٌ شرعيٌّ يَثبتُ (2) بالاجتهاد ويترجَّح (3) طريقُهُ بالأولى، فنعلم أن هذا الاحتياط في الخَبَر عَنِ الله تعالى، وَعَنْ صفاته أهمُّ وأوْلَى مِنَ الاحتياطِ في العِدَّةِ، و (4) في كلِّ ما احتاط الفقهاءُ فيه مِنْ هذا القبيل.
وأمّا التَّصَرُّف الثَّاني: وهو بالتَّصرف بالتَّأويل، وهو بيانُ معناه بعدَ إزالة ظاهرِه، فهذا إمّا أن يَقَعَ مِنَ العامِّيِّ مع نفسه، أو مِنَ العالِمِ مع العامِّيِّ، أو مِنَ العالِمِ مع نفسه، بينَه وبَيْنَ ربه، فهذه ثلاثةُ مواضع.
الأول: تأويلُ العامِّيِّ على سبيلِ الاستقلال بنفسه، فهو حرامٌ، يُشْبِهُ خوضَ البحرِ المغرقِ (5) مِمَّن لا يُحْسِنُ السَّباحة، فلا شكَّ في تحريمه، وبَحْرُ معرفة ذاتِ الله وصفاته أبعدُ غوراً، وأكثرُ معاطِبَ ومهالك من بحر الماء.
الموضع الثاني: أن يكونَ ذلِكَ مِنَ العالِمِ مع العامِّيِّ، وهو أيضاً ممنوع، ومثاله: إنْ بحَّرَ الغواصُ (6) مع نفسِهِ عاجزاً عَنِ السِّباحَةِ، مضطربَ القلب والبدنِ، وذلك حرامٌ، لأنَّهُ يعرِّضه لخطرِ الهلاك، فإنَّه لا
(1) في (ش): الورثة.
(2)
في (ش): ثبت.
(3)
في (ش): وترجح ويترجح.
(4)
من قوله: "الخبر" إلى هنا ساقط من (ش).
(5)
ساقطة من (ش).
(6)
في (ش): الغوامض، وهو خطأ.
يقوى على حفظه في لُجَّةِ البحر، لقلَّة علمهِ بِعُمْقِ البحر، وتماسيحه وقُروشِهِ، وإن قَدَرَ على حفظه بالقُرْبِ مِنَ السَّاحل، إلى قوله: وفي معنى العامي: الأديبُ، والنَّحويُّ، والمُفَسِّر، والفقيهُ، والمتكلم.
قلت: في " صحيح البخاري "(1) عن عليٍّ رضوان الله عليه: لا تُحَدِّثوا النّاسَ بما لا تَحْتَمِلُهُ عُقُولُهُم، أتُحِبُونَ أن يُكذَّبَ اللهُ ورسولُهُ؟!
وصحَّ أيضاً عن معاذ أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم نهاه أنْ يُخْبِرَ بالخبر الحقِّ الذي أخبره (2) به صلى الله عليه وسلم مِنْ نَجَاةِ مَنْ مات يشهدُ أن لا إله إلا الله مُخْلِصاً بها قلبُه (3)، وجاءَ النَّهي عَنِ الخبر بمثل ذلِكَ كثيراً؛ وذلك لأجل المصلحة،
(1) رقم (127) في العلم، باب: من خص بالعلم قوماً دون قوم كراهية أن لا يفهموا، ولفظه:" حَدِّثوا الناسَ بما يَعْرفُونَ، أتحبون أنْ يُكَذَّبَ الله ورسولُه".
قال الحافظ: والمراد بقوله: " بما يعرفون " أي: يفهمون، وزاد آدم بن أبي إياس في كتاب العلم له في آخره:" ودعوا ما ينكرون "، أي: يشْتَبِهُ عليهم فهمُه، وكذا رواه أبو نعيم في " المستخرج "، وفيه دليل على أن المتشابه لا ينبغي أن يذكر عند العامة، ومثله قولُ ابن مسعود:" ما أنت محدثاً قوماً حديثاًَ لا تبلغه عقولُهُم إلا كان لبعضهم فتنة "، رواه مسلم 1/ 11 في مقدمة " صحيحها " وممن كره التحديث ببعض دون بعض أحمد في الأحاديث التي ظاهرها الخروج على السلطان، ومالك في أحاديث الصفات، وأبو يوسف في الغرائب، ومن قبلهم أبو هريرة كما تقدم عنه في الجرابين، وأن المراد ما يقع من الفتن، ونحوه عن حذيفة، وعن الحسن أنَّه أنكر تحديث أنس للحجاج بقصة العُرنيين، لأنَّه اتَّخَذهَا وسيلة إلى ما كان يعتمده من المبالغة في سفك الدماء بتأويله الواهي. وضابط ذلك أن يكون ظاهر الحديث يقوي البدعة، وظاهره في الأصل غيرُ مراد، فالإِمساكُ عنه عند منْ يخشى عليه الأخذ بظاهرِهِ مطلوبٌ.
(2)
في (ش): أخبر.
(3)
أخرجه البخاري (128) و (129)، ومسلم (30) (48) عن أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم -ومعاذٌ رديفُه على الرَّحْل- قال:" يا معاذَ بن جَبَلٍ "، قال: لبيْك يا رسولَ اللهِ وسَعْدَيْك، قال:" يا معاذٌ "، قال: لبيْكَ يا رسولَ الله وسَعْدَيْكَ "ثلاثاً"، قال:" ما من أحدٍ يَشْهَدُ أنْ لا إله إلا اللهُ، وأن محمداً رسول الله صدقاً من قلبِه إلا حَرَّمَهُ اللهُ على النارِ "، قال: يا رسولَ اللهِ، أفلا أُخْبرُ به الناسَ، فَيَسْتَبْشِروا؟ قال:" إذاً يتَّكلُوا "، وأخبر بها معاذ عند موتِهِ تَأثُّماً. =