الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مِن النظر فيما ادَّعى صحَّته لتُوافِقَه على بصيرة، أو تخالفه على بصيرة (1)، ولو أرادوا خديعةَ المسلمين في ذلك، لجرَّدوا دعوى صِحَّة الحديث عن بيان الرُّواة وتسميتهم، وتركوا الناس بذلك في عمياء لا دليل بها، وظلماءَ لا نُورَ فيها، ولم يشحنوا الصَّحاح بأحاديث:"إنَّهُمْ ما زَالوا بعْدَكَ مُرْتَدِّينَ علَى أدْبارِهِمْ فأقولُ: سُحْقَاً لمَنْ بَدَّل بعدي، وأقول كما قال العَبْد الصَّالحُ"(2).
فالحمدُ لله الَّذي بيَّن بِهِمُ الطريق إلى حُسْن الاختيار، ومكَّن بحميدِ سعيهم أهلَ الاجتهاد مِنَ الاستبصار، ولولاهم لكانَتِ الأحاديثُ كلُّها مرسلَةً، ولجوَّزنا أنها عمَّن لا يُرتضى مِنَ المختلف فيهم، ومن محاربي أميرِ المؤمنين، ومِن المجاهيل، وسيأتي في الوهم الثالث والثلاثين أَوَّل المجلد الرابع إن شاء الله تعالى بيانُ مذاهبهما في هؤلاء المُشَارِ إليهم على التفصيل إن شاء الله تعالى، وزيادة البيان لاعتمادهم على قُوة الظنِّ للصِّدق في باب الرِّواية وتقويتها بما لها من الشَّواهد والتَّوابع، وتمييزهم لذلك مِنَ المنكرات، والغرائِب، والشَّواذِّ.
الوجه الرابع: أنَّ اعتراضَ كتبِ الحديث الصَّحاح بأنَّ فيها ما ليس بصحيح عندَ غيرهم، عمَلُ منْ لم يعْرِفْ ما معنى الصحيح عند أهله
، وذلك أنَّ أكثر الصَّحيحِ عندهم ممَّا يَصِحُّ الاختلافُ فيه، بل ما زال علماءُ
(1) عبارة "أو تخالفه على بصيرة" ساقطة من (ب).
(2)
انظر حديث سهل بن سعد عند البخاري (7050)، ومسلم (2290) و (2291)، و" مسند أحمد" 5/ 333.
وحديث أبي هريرة عند مالك 1/ 28 - 29؛ ومسلم (249).
وحديث ابن عباس عند البخاري (3349) و (3447) و (4626) و (6526)، ومسلم (2860)(58)، والطيالسي (2638).
النَّقل يختلفون في التصحيح، فهو مثلُ مذاهب العلماء في الفُروع الاجتهاديَّة والمضطربات الظنية، ألا ترى أنَّ حُكْمَهمْ بأنّ الرجُل حافظٌ، أو سيىءُ الحفظ، أو صدوقٌ، لا يصحُّ أن يُبنى إلَاّ على الظَّنِّ والاجتهاد؟ ولذلِكَ كان قبُولُ المرسل مِمَّنِ أرسله ضعيفاً عندهم، لأنَّه على الحقيقة تقليدٌ له في تصحيح ما ظن صحته، وتقليدُ العلماء بعضهم لبعض مما (1) يبنى عليه الاجتهادُ لا يجوز كما أوضحته في علوم الحديث (2).
وقد مرَّ الجوابُ على السيد حين زعم أنَّ جميعَ ما في الصَّحيح مُجْمَعٌ على صحته عندَ المحدِّثين، وكيفَ يصحُ ذلك والبخاري يخالِفُ مسلماً في تصحيح ما اكتفي فيه بالمُعَاصرَةِ (3)، وفي كثيرٍ من رجاله، ومسلم كذلك يُخَالِفُ البخاريَّ في بعض رجاله؟
وقد ذكر ابن حجر في مقدمة "شرح البخاري" ما اعترض على البخاري، وخُولفَ في تصحيحه مِمَّا في صحيحه، فذكر أكثَرَ مِنْ مئة حديثٍ، وذكر أيضاً مَنْ خُولِفَ البخاريُّ في توثيقه من رجاله، فذكر خلقاً كثيراً، وذكر ما يسوغُ مخالفتُه فيه من قواعده، كمخالفته في تصحيح حديث عِكرِمَة، فقد خالفه في ذلك مالِكٌ، ومسلمٌ صاحبُه، وجِلَّة مِنْ أئمَّة التَّابعين لا يأتي عليهمُ العَدُّ. وكذلِكَ قبولُ العَنْعنَةِ عَنْ بعضِ المدلِّسين في بعض المواضع، وهذا معلومٌ من مذاهب المحدِّثين بالضرورة لمَنْ بحث، ولذلك ترى الحاكم ابنَ البَيِّع أحدٌ أئِمَّة الشيعة، وأئمة الحديث يُنَاقِشُ الشيخين في كتابه "المستدرك"، ويذكر علَّتهما في ترك
(1) في (ش): فيما.
(2)
انظر "التنقيح" مع "التوضيح" 1/ 304 و309.
(3)
والخلاف بين البخاري ومسلم في هذا إنما هو في الحديث المروي بالعنعنة، أما ما كان بنحو حدثنا، فهو ومسلم سواء فيه.
بعض الأحاديث، وُيبَيِّنُ أنَّها علَّةٌ ضعيفةٌ أو منقوضةٌ.
والاختلافُ في تصحيح الأحاديث بين أئمَّة الحديث سُنَّةٌ ماضيةٌ، كاختلاف الفُقهاء في الفُروع، بل هي (1) سُنَّةُ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتَّى في مرويَّات الصحابة، فقد توقَّف عُمرُ رضي الله عنه في حديث أبي موسى في الاستئذان حتى شهد له أبو سعيد (2)، وفي حديث عمار لنسيانه له مع حضوره للقصَّة، وهي من أدلَّة المحدِّثين على الردِّ بالإعلال.
وقال أميرُ المؤمنين عليه السلام: ومن اتَّهَمْتُهْ استحلفتُه (3)، فأجاز التُّهمةَ للبعض في ذلك العصر، وقبول المتهم بعد التقوِّي بيمينِه، وهو حُجة على مدارِ الرواية على ظَن الصدق، لا على البراءة مِنَ التهمة، وهو حديثٌ ثابتٌ عنه عليه السلام.
وكذلك الاختلافُ في تعديل الشُّهود، والرُّواة، وما يُجَرَّحون به، وما لا يُجَرَّحُون ممَّا اشتملت عليه كُتُبُ هذا الفَنِّ يستلزم بالضَّرورة الاختلافَ الكثير (4) في التَّصحيح، وتلخيصُ هذا الوجه أنْ نقول: قولُك
(1) في (ب): هو.
(2)
أخرجه مالك في "الموطأ" 2/ 963 - 964، والبخاري (2062) و (6245) و (7353)، ومسلم (2153)، والترمذي (2691)، وأبو داود (5180) و (5181) و (5182) و (5183) و (5184) أن أبا موسى الأشعري استأذن على عُمَر بنِ الخطاب رضي الله عنه، فلم يؤذن له -وكأنه كان مشغولاً- فرجع أبو موسى، ففرَغَ عمر فقال: ألم أسْمَعْ صوتَ عبدِ اللهِ بن قيسٍ؟ ائذنوا له، قيل: قد رَجَعَ، فدعاه، فقال: كنَّا نُؤمر بذلك، فقال: تأتيني على ذلك بالبيِّنة، فانطلَقَ إلى مجالس الأنصار، فسألهم، فقالوا: لا يَشهَد لك على هذا إلا أصغُرنا أبو سعيد الخُدْري، فذهبَ بأبي سعيدٍ الخُدْري، فقال عمر: خفي عليَّ هذا من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ألهاني الصَّفْقُ بالأسواقِ، يعني الخروج إلى التجارة. وانظر "فتح الباري" 11/ 27 - 30.
(3)
تقدم تخريجه في 1/ 284.
(4)
في (ش): الكبير.
فيها غير صحيحٍ، تعني عندهم أو عندَ غيرهم الأول ممنوع، والثَّاني مُسَلَّمٌ ولا يضُرُّ تسليمُه، فإذا كان الخلافُ بين أئمَّةِ الحديث في التَّصحيح شائعاً كثيراً، فما ينكر منَ اختلافهم هم والشِّيعة في بعض الأحاديث الظِّنِّيّة؟ وأنتم أيُّها المتكلِّمون لا تزالون مختلفينَ في العقليّات القطعيّة، ويزعم كُلٌّ منكم أنَّه بنى خلافَه على البراهين اليقينيّة، فذلك هو الَّذي يستلزم التَّكاذبَ الصَّريح، وأمَّا مواضِعُ الظُّنون مِنَ الرِّواية والفروع، فمجالُ الخلاف فيها مُتَّسِعٌ، ومنهجُه متَّضِحٌ، والأمرُ في ذلك قريبٌ، وكُلُّ مجتهدٍ هنالك مصيبٌ أو آخِذٌ مِنَ الأجرِ بنصيبٍ، بل الاختلافُ في هذا المقام مِنْ ضرورات الطَّبائع الذي استمرَّت به العوائد والشَّرائع (1) حتَّى حكاه الله، فقال عَنِ الملائكة المقرَّبين والأنبياء المعصومين، أمَّا الملائكة، فقد قال تعالى حاكياً عن رسوله صلى الله عليه وسلم:{مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ} (2)[ص: 69]، وصَحَّ في الحديث اختصامُهم في حُكْمِ الذي قتل مئةَ نفسٍ، ثمَّ سأل أعلمَ أَهْلِ الأرضِ، فأمره بالتَّوبة والهجرة عن أرضه، الحديث (3)، وغير ذلك.
واختلف أهل التفسير في قوله تعالى: {وَقُضِيَ بَينَهُم بِالحَقِّ}
[الزمر: 69] هَلْ هُمُ الملائكةُ؟ لأنهم أقربُ مذكور (4). ونزل: {لَوْ
يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ} [الحجرات: 7] في خيرِ النَّاسِ.
وأمَّا الأنبياءُ، فحكى الله تعالى الخلافَ بَيْنَ داود وسليمانَ في حكم
(1) في (ش): في الشرائع.
(2)
تقدم تخريجه في 1/ 218.
(3)
تقدم تخريجه في 1/ 219 و314 و2/ 275.
(4)
تقدم الكلام فيه في 1/ 219.